شبكة قدس الإخبارية

أنا فتاة من غزة!

هدى عامر

أما قبل، "أنا فتاة من غزة"، لا أعرف ما المهم في الجملة السابقة، فكوني فتاة من غزة ليس أمرًا إعجازيًا بالمناسبة، فغزة تلك يسكنها قرابة 2 مليون شخص، والفرد فيها بدأ يفقد قيمته كإنسان، على الأقل منذ 10 سنوات.

وبالرغم من أنه لا أهمية بالغة في جملتي تلك، إلا أنها بدأت تتعلق بمدلولاتٍ مرتبطة فيها، مثلًا دعني أسأل شخصًا يعيش خارج غزة، ما الذي يخطر بباله للوهلة الأولى عند سماع كلمة "غزة"، وأظنّني أعرف بعض الإجابات العامة التي يشترك فيها أغلبهم منها على سبيل الذكر، "غزة يعني حروب وموت وأناس فقراء وحصار" حتى إن كان أكثرهم لا يعرفون ماهية هذا الحصار!

ودعني أقول لك يا رفيقي الذي لا تعرف غزة أو حتى إن كنت تعرفها، ماذا يمثل هذا الحصار لغزة، فهو في أقل تقدير حوّلها إلى "سجن" كبير، يحاط فيه الانسان من كل جانب بحاجز ألعن من الآخر.

هاتِ كفة يدك وعُدّ معي، من جنوب قطاع غزة بوابة ملعونة تسمى "معبر رفح"، ومن شماله بوابة ملعونة أخرى لحاجز "بيت حانون-ايرز"، أما من الشرق فهي منطقة حدودية مع الأراضي المحتلة من يفكر في الوقوف على أطلالها يُمسي شهيدًا

أما غربها فهو حكاية كاملة لوحده، غربها هو امتداد البحر، هذا الحياة والموت، المساحة والضيق، لا ميناء فعّال، فلا بواخر تبحر، ولا قوافل تأتي ولا أحد يستطيع عبوره، حتى الصياد يستهدف فيه إن تعدى-أو لم يتعدى حتى-مساحته المحدودة، هذا البحر الذي قال عنه درويش، "هذا البحر لي!"، بحرٌ لا أستطيع عبوره كيف يكون لي؟!.

هل انتهيت من حصر الجهات الأربع التي ما بخل "الاحتلال والمجتمع الدولي" عن إغلاقهم حولنا لأننا بنظرهم إرهابين وغير جديرين بالحياة، وهل نكتفي برفع عيوننا للسماء فهناك ثمة انعكاس للرحمة الإلهية التي نرجوها.

الأمر لا يقتصر على إغلاق الجهات الأربع بحواجز لا تفتح إلا بأوامر الاحتلال ومن يشدد أزره ومن يدّعي الخوف على أمنه، فأهل غزة "شاطرين" قادرين على أن يحملهم الحلم إلى الطيران لأعلى إذا ما حوصروا حولهم، لكن الهواء كان ضمن قائمة الحصار، ممنوع نطير ممنوع نحلم بمطار!، ذكرتني هل أنهيت عدّ جهات الحصار على أصابع يد الخمس؟، اقبضها الآن بقوة وحاول أن تتخيل أن غزة كانت مضغوطة هكذا تحت قبضة العالم!

إذن، لم يتركوا لنا خيارًا إلا أن نحفر الأرض كي ننجو بأنفسنا، وعليه فإننا حفرنا ما يكفي من الأرض طيلة أعوام، قبورًا للشهداء والحافرين واليائسين من حياة كالحياة على سطح الأرض، وخرجنا من باطن الأرض نرفع راية مكتوب عليها "الحصار ما بيعني الانكسار"، فهل نجحنا أم كسرَنا الحصار فعلًا؟ الإجابة فردية هنا!

ولأني أعرف أنه ليس من الجيد، أن أقف لأتباكى الآن على السنوات العشر من الحصار التي ضربت غزة وأهلها في العمق، سأتحدث بلغة مخالفة، كأن أشكرها مثلًا لأنها منحتني "حياة مخضرمة"، ففيها مثلا عاصرت الماضي كأن نطبخ على البابور والنار في ظل أزمات الانقطاع للغاز والكهرباء، كما جعلتني أرى كل ما لا يمكن احتماله لأكون قوية إلى الحد الذي أصمد فيه أمام الكارثة!"

لست هنا في صدد الحديث عن نسب مئوية إحصائية عما تسببه الحصار في غزة من مشكلات على صعيد البطالة والفقر والمرض وانتقاص الحاجيات والدواء والغلاء والبلاء، فهذا تستطيع التعرف عليه من عيون المارة أمام المستشفيات وزائري المقابر لا سيما مقابر الأحلام منها، كما أنك تستطيع أن تعرفه بضغطة زر من جوجل.

دعني أقل لك بعيدًا عن الإحصاء، غزة التي لا يستطيع أحد أن ينكر جمالها مهما بلغ من اغتراب، حتى رأيتني أراها انعكاسًا لصورة الجنة على الأرض، لولا أنها قادرة على أن تمنح محبيها فرصة للحلم

 فلا يخرج منها طالب ليرفع اسمها في مسابقة دولية، ولا يستطيع آخر أن يكمل دراسته ليعود لها كما تُحب، غزة التي يموت مرضاها وهم يسيرون بين حاجزين في الشمال والجنوب، كما تحرم شبانها كل حلم وتقبرهم في فضاء طموحهم.

هي حتى غير قادرة على منح أهلها الثقة بأنها أجمل بقاع الأرض على الإطلاق، فأغلب أهلها لم يروا إلاها، ولهذا يبقى الأمر عاطفيًا ومشكوكًا فيه بما لا يدع مجال للشك، وإني إن كنت أتمنى شيئًا فهو أن أخرج من تطويق سورها لأصرخ .. " أعيدوني .. اشتقت لغزة.. مفش أحلى منها".

ثم إنّي أريد يا غزة أن أرى غيرك لا لأقارن، بل لأثبت لقلبي الذي أحبكِ بحصارك حين كنتِ الأجمل دومًا أنه لم يخطأ ذلك، وأن قلبي الذي تربى على يديك لم يكن ليخطأكِ ولم يكن لينساكِ، امنحيني فرصة لأداء العمرة مع أمي واكمال دراستي العليا والتقاء اكتمال روحي، وسأعود إليكِ حاضنة محضونة بدموعي وحبكِ، سأعود لا لـ " أهشتق " لكِ على حصارك عشر وعشرين سنة، بل لنتذكر كم كانت هذه السنون صعبة فعلًا وكم كنتِ جميلة رغمها وستبقي!