شبكة قدس الإخبارية

احذروا الفلاح إذا غضب.. حكاية وادي الشعير ومصنع سند

مصطفى بدر

يعرف القسم الموازي لوادي نابلس والممتدّ من شرقي بلدة دير شرف وحتى أطراف مدينة طولكرم بوادي الشعير، وتبلغ مساحة أراضيه قرابة الـ180 ألف دونمٍ موزعةٍ على 22 قريةً فلسطينية في محافظتي نابلس وطولكرم، وربما يعود سبب تسميته لكثرة أو جودة الشعير المزروع في أراضيه كما رجّح بعض المؤرخين.

ويعدّ وادي الشعير من أغنى وديان فلسطين وأكثرها خيراً، فإضافةً إلى مساحته الشاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، وصفاء هوائه وحسن مناخه، يحتوى وادي الشعير على ينابيعٍ مائيةٍ مهمة كعين دير شرف، وفي ثناياه العديد من المواقع الأثرية والتاريخية العريقة كمدينة سبسطية الأثرية.

ولأهالي وادي الشعير تاريخٌ نضاليٌ غزيرٌ من الشهداء والمعارك والبطولات، أبرزها خلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، والتي على إثرها خرجت الأغنية التراثية الشعبية "هزّ الرُمح بعود الزين"، ولكن يبدو أن هناك من لم يأبه بذلك كله، وأراد تحويل هذا الوادي الأخضر لمستنقعٍ اسمنتيٍ مليءٍ بالأغبرة والدخان.

المشروع الوطني الجديد

أعلنت شركة سند في أواسط الشهر الماضي عن بدء الخطوات الأولى نحو إنشاء المصنع الفلسطيني المتكامل الأول لإنتاج الإسمنت، من خلال الإعلان عن استملاك الأراضي التي سيتم إنشاء المصنع عليها، حيث سيضع المصنع البالغة قيمته قرابة 310 مليون دولار يده على حوالي 2000 دونمٍ منها 1300 دونمٍ للمحاجر التي ستوفر الحجر الجيري اللازم لصناعة الإسمنت.

وأوضح لؤي قواس الرئيس التنفيذي لشركة سند، أن هذا المشروع يعتبر مشروعاً وطنياً سيادياً واستراتيجياً، وأن من أهداف المصنع إشباع حاجة السوق الفلسطيني المتنامية من الإسمنت، وإيجاد بديلٍ للإسمنت "الإسرائيلي" في السوق الفلسطينية، (مع العلم أن شركة سند تعتبر من كبار مستوردي اسمنت "نيشر" الإسرائيلي في فلسطين رغم وجود مصادرٍ بديلةٍ في دولٍ مجاورة)، وأضاف بأن المصنع الجديد سيوفر المئات وربما بضع آلافٍ من فرص العمل.

الفقاعات الفارغة

على ما يبدو أن فقاعات الأكاذيب الفارغة والتي مازالت تطلقها سند تجاه الجمهور الفلسطيني باتت أضعف يوماً بعد يوم، ويوماً بعد يوم يسقط رداء الوطنية ليعرّي هذا المشروع الخاص أمام الجمهور الفلسطيني، والذي استغل المنتفعون منه نفوذهم ليقفزوا عن قانون الاستملاك لعام 1953 والذي يتيح فقط الاستملاك لغايات المنفعة العامّة، وليس المشاريع الخاصّة، وإن تحقق ذلك الشيء فإنه يدل على ركاكة المنظومة القضائية في فلسطين وشيوع الفساد بين من يملكون مفاتيحها، واستهتار الحكومة الفلسطينية بحياة مواطنيها.

ومن مفاعل ديمونا جنوباً حتى مصنع جيشوري شمالاً، يبدو أن مسبباً رئيسياً آخر لأمراض السرطان سيبدأ في الضفة الغربية، ليضيق الخناق قولاً وفعلاً على ساكني وادي الشعير والمناطق المحيطة، وسيسبب أضراراً بيئيةً لا تحمد عقباها على البشر والحجر والطير والشجر، وعلى كل كيسٍ جديدٍ من الإسمنت سيدفع المواطنون ضريبةً وهي طفلٌ جديدةٌ مكفّن ضحيةً لفضلات المصنع السامّة التي ستسبح بغزارةٍ في الهواء.

وربما كانت تلك الـ2000 دونم مساحةً ضئيلةً من إجمالي مساحة وادي الشعير الشاسعة، إلا أن الأضرار البيئية والصحية الناتجة عن هذا المصنع سوف تتعدى هذه المساحة بأضعافٍ مضاعفة، لتدمر الزراعة بتلك المناطق بشكلٍ كبير، وتشبع المحاصيل والتربة بالسموم التي ستسلب الصحة والعافية من آكليها، وتُميت آخر مقومات فلسطين وكنوزها التي يسعى الاحتلال منذ عقود لتدميرها، "الزراعة".

ما الحل؟

بالتأكيد يحتاج السوق الفلسطيني لمصنعٍ إسمنت كي يفي بحاجته، ولكن بدلاً من الهروب نحو المناطق الزراعية المأهولة بالسكان، لماذا لا يتم السعي قدماً بشتى الطرق لمواجهة الإستيطان وتكريس الوجود الفلسطيني في مناطقٍ غير مأهولةٍ وليست ذات قيمةٍ زراعية كسفوح الغور التي تعتبر من مناطق C، مثل موقع كسارة "سلعيت أدوميم" الواقعة شرقي القدس على أراضي الخان الأحمر، عندها ستحل كثيرٌ من المشاكل، وسيكون مشرّفاً أن تطردوا مستوطناً من أرضنا بدلاً من أن تكونوا أنتم مستوطنين فلسطينيين ضد هؤلاء الفلاحين العُزّل.

ورغم ما أعلن عنه بأنه انتصار للفلاحين بوقف المشروع، إلا أن إدارة الشركة تؤكد أن المحاولة لإقامته في هذا الموقع تحديدا مازالت قائمة، "لكن بالإقناع وليس بالإجبار"، حسب تعبيرها.

لكن بدلاً من إنشاء ذلك المصنع المشؤوم على تلك الأراضي المزروعة، وسلبها من فلاحيها الذين يعتبرونها مصدر رزقهم الوحيد وربما الأخير، قوموا بتطوير قطاع الزراعة، وافتتاح المشاريع الزراعية التي ستشكل مصدر رزقٍ لآلافٍ من الأسر الفلسطينية في تلك القرى بدلاً من انتفاع عددٍ قليل، وحققوا لنا الأمن الغذائي ليكون حقاً يومها مشروعاً وطنياً بامتياز، فإطعام جائعٍ خيرٌ من بناء ألف مصنع.

احذروا غضب الفلاح

أرض الفلاح عرضه، ولن يستطيع أحدٌ غير الفلاحين فهم هذه الجملة، وعلى من يريد سلب أراضي هؤلاء الفلاحين أن يفكر ألف مرةٍ ويحسب ألف حساب لغضبهم وثورتهم، فهم مستعدون أن يسيلوا دمائهم ليرووا بها شجرة خوخٍ أون تينٍ أو زيتون، ولو اضطروا لمواجهة جنازير الجرافات بأسنانهم وأظافرهم فإنهم لن يسمحوا لهذا المشروع بالمرور، كما الحال مع أيّ فلسطينيٍ غيورٍ على وطنه.

لن تخسروا كثيراً إن توقف المشروع، ولكن فلسطين ستخسر الكثير إن تم، وستدعوا عليكم الأمهات والجدات والأيتام والأرامل والمرضى والموتى لعقودٍ طويلةٍ متتالية، وستتحول هذه التلال والسهول الخضراء الجميلة منذ فجر التاريخ إلى صحراءٍ رماديةٍ جرداء بلا رجعة، وستحملون آثاماً كثيرةً إلى الأبد.

المصادر:

- مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، دار الطليعة، بيروت، 1988، ط4.