شبكة قدس الإخبارية

المبادرة المصرية وقف للنار أم وصفة للانقسام وتبرير للعدوان؟

معين الطاهر

لم نعرف فيما مضى عن مبادرة أو وساطة بين طرفين في حرب ضروس تعلن على الهواء ودون أدنى اتصال مع طرفي النزاع، أو إن شئنا الدّقة عدم الاتصال مع أحد الطرفين دون الآخر، وهو بلا شك طرف المقاومة. إلا إذا كان الهدف من ذلك ارغامه على توقيع وثيقة استسلامه، أو التنصل من قضيته، أو عزله وحصاره وتحميله مسؤولية ما سيأتي من قصف وتدمير. بل الأدهى والأمر أن المبادرة ليست نداءً عاماً مثل ذلك الذي وجهه مجلس الأمن الدّوليّ. بل هي مبادرة احتوت على تفاصيل كثيرة، من تحديد مواقيت للبدء في تطبيق وقف اطلاق النار، والبدء في المباحثات التفصيلية، وهو ما يفترض بهذه الوفود أن تكون متواجدة فعلا في العاصمة المصرية وقت الاعلان عن المبادرة أو في طريقها إليها.

المباحثات التفصيلية تبحث في آليات التطبيق عبر مباحثات غير مباشرة بوساطة مصرية، إلا أن ثمة نقاط في غاية الأهمية تطرق لها الاعلان، ولم يتركها للتفاصيل أو الاتفاق اللاحق عليها. ألا يعني هذا أنها ليست نداء لوقف إطلاق النار، أو هدنة لبضعة أيام يتم فيها الاتفاق على الشّروط عبر المباحثات اللاحقة التي سيجريها كلّ طرف على حدة مع الوسيط المصري. وإنما هي التزام مسبق من مختلف الأطراف بهذه البنود، وتبقى الاجتماعات التفصيلية لبحث آليات التطبيق. أول ما يثير الريبة في بنود الإعلان ذلك البند الذي يتحدث عن وقف الهجوم البريّ الاسرائيلي، إذ يحوي ذلك البند تهديداً مبطناً للمقاومة بأن هذا الهجوم على الأبواب، بل ويمنح "إسرائيل" الشرعية والمبرر لشنه في حال تعثر جهود التهدئة. ثمّ ذلك البند الذي يتحدث عن وقف الاعتداءات الاسرائيلية برّاً وبحراً وجوّاً، أما المقاومة فيضيف إلى وقف اعتداءاتها البرية والبحرية والجوية !! ، اعتداء من نمط جديد، وهو الاعتداء تحت الأرض ، حتما لم يقصد الناطق المصري تحذير الشهداء الذين دفنوا تحت الأرض من مغبة قيامتهم وحملهم للسلاح مجددا، وإنما القصد منها هو منع المقاومة من الاستمرار في حفر الأنفاق، أو بناء منصات للصواريخ، أو أي تحصينات أخرى، حيث يعتبر ذلك من الأعمال العدائية التي تخرق الهدنة وتبيح للعدو حق ضربها. يبدو واضحاً أن هذا البند هو جزء من املاءات العدوّ وشروطه المسبقة، ويؤكد أن ثمة مشاورات قد جرت معه. أما ثالثة الأثافي في الشروط المسبقة فهو ربط فتح المعابر بالاستقرار الأمنيّ، بكلمة أخرى ربط لقمة العيش باستمرار الرضوخ والخنوع وابقاء سلاح الحصار سيفا مسلطا على رقاب الجماهير في غزة. من قراءة البنود السابقة فقط يمكن التنبؤ بأجواء المباحثات التفصيلية التي تعقد في أجواء التهديد والوعيد. على الأرجح سيتراوح جدول أعمالها بين مبادرة ليفني التي تطلب تجريد غزة من صواريخها وتدمير امكانيات صناعتها مجدداً، ويتم انتداب مصر والسّلطة الفلسطينية للإشراف على ذلك، واقتراح موفاز بأن يتم ذلك تحت وصاية دولية شبيهة بنزع السّلاح الكيماوي في سوريا. إلى ماذا تهدف هذه المبادرة الأشبه بوثيقة استسلام؟ ولماذا في هذا التوقيت؟ وما هي احتمالاتها ونتائجها؟ أسئلة مشروعة تتلاحق في الذهن وتذكرنا بتلك الوثائق المتتالية التي كان يسلمها فيليب حبيب للمقاومة خلال حصار بيروت 1982. ما اشبه اليوم بالبارحة . ولعل نتائج هكذا اتفاق ان فرض على المقاومة كما فرض عليها سابقا الانسحاب من بيروت في ظل الحصار الاسرائيلي تتشابه ، وتنذر بفرز كبير بين قوى الحق والباطل وثورة شعبية ستتجاوز هذه المرة حدود فلسطين. أولى الاجابات تتلخص في الرغبة بتجاوز أي مبادرات أخرى وقطع الطريق نحو اي اتفاق متوازن يحفظ للمقاومة كرامتها ويحافظ على سلاحها. إضافة إلى تحميل المقاومة نتائج رفض هذا الاتفاق في ذات الوقت الذي سيتم تحميلها نتائج القبول به. حتما المقاومة أدرى بظروفها، وهي لا شك تقدر المعاناة والتضحيات التي يبذلها أهل القطاع، في ذات الوقت التي تدرك فيه خطورة هذا الاتفاق على مستقبل المقاومة والقضية الفلسطينية برمتها. من جهة سيتم تحميلها مسؤولية الرفض وتبعات التصعيد الاسرائيلي، واستمرار القتال وسط حصار عربي وسحب سوداء تنذر بتصدعات في الجبهة الداخلية الفلسطينية، في ظل الترحيب الفوري للسلطة الفلسطينية بالمبادرة. وإن وافقت ستخرج ألأصوات التي صمتت خلال الحرب في غزة عن صمتها، لتذكرنا بعم جدوى هذه الحرب العبثية، وتحمل المقاومة مسؤولية الدمار والأرواح التي أزهقت دون جدوى، وتعيد تذكيرنا بمقولات التوازن في القوى وضرورة الرضوخ اليها. قديما قال القادة الصهاينة إنهم يودون لو يبتلع البحر غزة، ولعل أول الأهداف الصهيونية في هذه الحرب، هو فصل القطاع عن المعركة الأساسية التي تجري في الضفة ضدّ الاستيطان والتهويد والاحتلال. وابقائه مستكيناً مجرداً من السّلاح، راكضا وراء احتياجات الحياة اليومية التي يتم تقطيرها عليه نقطة إثر نقطة، وبعيداً عن الهمّ الفلسطيني العام. أفق الحل واضح، تمسك المقاومة بشروطها مهما كانت النتائج وحتى لو استمر القتال وتصاعد، وحتى تتمكن من ذلك ينبغي أن يزداد لهيب الضفة، بيد الضفة وفلسطين الداخل الآن مهمة انقاذ غزة ونجدتها، وينبغي التصدي بحزم للأصوات النشاز التي صمت بعضها خلال القتال، ومنعها من استخلاص عبر ومبررات تتيح لها استمرار التعاون مع العدو ، بل وهذه المرة الانضواء تحت جناحه. حرب غزة هذه المرة لن تكون كسابقاتها، ستفرز على مستوى فلسطين كل فلسطين من يقف مع الاحتلال ويبرر له قمعه لشعبنا واحتلاله لأرضنا، ومن يقف في وجه الاحتلال يقاومه بالبندقية والمقاطعة والكلمة و الحجر والصمود والتمسك بالثوابت الوطنية. وهذه المرة ستتجاوز ذلك إلى العالم العربي لتعيد اصطفاف القوى من جديد بعد أن مزقتها الطوائف والمذاهب وأبعدتها عن طريق فلسطين، مؤكداً لها أن طريق التغيير يمرّ عبر فلسطين وأن بوصلة متجهة للقدس لا تخطيء.