شبكة قدس الإخبارية

أبو علاء منصور: من "فدائية الارتجال" إلى "سماحة الماء"

عبد الرحيم الشيخ

إذا كان العرب قد "فاخروا" على غيرهم بأن لغتهم العربية هي "لغة الضاد،" كناية عن صعوبة نطق حرف الضاد من قبل غير العرب، وخلوِّ لغاتهم من صوته، وعجزهم عن الإتيان بصوت صنو له، حدَّ أن اللغويين العرب وغير العرب، من سيبويه والأصمعي إلى البارودي والرافعي قالوا إنه "ليس للروم ضاد،" وألَّفوا فيه الرسائل والكتب... فلعل للفلسطينيين أن يفاخروا، الأمس واليوم والغد، بحرف "العين" الذي يتوسط اسم قرية "بلعين" ذات التاريخ المقاوِم: من صلابة المقاومة المسلحة إلى ليونة المقاومة الشعبية. ذلك أن الفلسطينيين ينطقون اسم بلعين بعينها الناضجة، فيما يحيلها "أحفاد الروم" إلى "ياء" ليِّنة لتصير "بلئين" وفي تهجئة أخرى "باللين" ليزامل "لينُ" العين "لينَ" المقاومة الشعبية في ثنائية عصيَّة على الوصف! لكن في سيرة المناضل الفلسطيني أبو علاء منصور ما ينفي شبهة الفاشية اللغوية تجاه "الروم" و"أحفادهم" في آن معاً بغية تدشين ممارسة وتنظير لافتين في قدرة تاريخ المقاومة الفلسطينية على الجمع بين الأضاد: بين عنفية المقاومة المسلَّحة ولاعنفية المقاومة الشعبية... أي، الجمع بين فدائية الارتجال وسماحة الماء من غير سوء، جمعاً قادراً على كسر احتكارية أدوات المقاومة عبر عنفِ اللاعنف الذي رافق تحوُّلات الثورة الفلسطينية، وبخاصة بعد تأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994.

أبو علاء منصور: فدائية الارتجال

ولد محمد محمود سليم يوسف، أبو علاء منصور، في شهر أيلول من العام التالي للنكبة الفلسطينية 1949 في قرية بلعين في ظروف قاسية نتيجة الخطر الداهم لهجمات العصابات الصهيونية، وتقع القرية 17 كيلومتراً غرب رام الله، وكانت تابعة إدارياً لقضاء الرملة قبل النكبة، ثم ألحقت برام الله منذئذ.

وقد أمضى منصور سنوات دراسته الابتدائية في مدرسة بلعين، ليكمل دراسته الإعدادية في مدرسة اتحاد صفا، ولينتقل من ثم إلى المدرسة الهاشمية في رام الله لدراسة الصفين الحادي والثاني عشر قبل أن تقطعه نكسة العام 1967 عن دراسته للتوجيهي التي أكملها، بتشجيع من والدته العصامية، في كلية الحسين في العاصمة الأردنية عمان حيث أنهى دراسة الثانوية العامة في الفرع العلمي، وتم تنظيمه في حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح على يد نادر القدومي في مطلع العام 1968.

سافر منصور إلى العراق ليدرس الرياضيات في جامعة بغداد حتى العام 1972، وليحصل قبل تخرُّجه بعام واحد على "لم الشمل" مع أهله في الضفة الغربية المحتلة، وليعود بعد أن تلقى ما يحتاج من تدريبات في العمل السري والعسكري في حركة فتح. وإثر عودته إلى فلسطين في صيف العام 1972، عمل منصور أستاذاً للرياضيات في مدرسة بنات رام الله الثانوية لمدة عامين، حتى انكشف أمر خليته التي نفَّذت "عملية بنك لئومي" ذائعة الصيت في شارع ركب بمدينة رام الله بتاريخ 8 تشرين الثاني 1973، وتمكَّن من "عبور النهر" إلى الأردن يوم الإثنين الموافق 22 نيسان 1974، حيث اعتقل مدة شهر واحد في سجن إربد قبل أن يستأنف مهنة التدريس في المدرسة الوطنية الأرثودكسية، ليعتقل ثانية على خلفية نشاطه الفدائي مدة عامين 1976-1978 قضاها في مقر المخابرات الأردنية في العبدلي، وفي سجن المحطة.

وإثر خروجه من السجن هناك، عمل منصور إلى جانب الصف الأول من قيادة حركة فتح وصار عضواً في قيادة "لجنة التنظيم 77" التابعة للقطاع الغربي في حركة فتح منذ العام 1977، ومسؤول مكتب "لجنة التنظيم 77" في سوريا، التي اعتقل فيها مرتين، خلال الفترة بين 1980-1984، ومن ثم مديراً لمكتب الانتفاضة في العام 1990. وقد تنقَّل منصور خلال اثنين وعشرين عاماً قضاها في المنفى (22 نيسان 1974-22 نيسان 1996) بين مختلف البلدان التي شكَّلت محطات لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي الغالب بجواز سفر مزور: في الأردن، والعراق، ولبنان، وسوريا، وتونس... وقبل عودته إلى فلسطين، والتي تأخرت سنتين على عودة قيادات وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية بسبب الممانعة الإسرائيلية، أصبح منصور أمين سر منطقة الوسط (القدس، ورام الله، وأريحا) في حركة فتح (1990-1996)، وأمين سر منتخب لإقليم حركة فتح في رام الله والبيرة (1998-2007). وقد طورد منصور من قبل قوات الاحتلال الصهيونية طيلة فترة انتفاضة الأقصى سوية مع رفيق دربه الأسير النائب مروان البرغوثي.

إلى جانب نشاطه الفدائي والسياسي، فقد تحصَّل منصور على شهادة البكالوريوس في الرياضات من جامعة بغداد في العام 1972، وعلى درجة الدبلوم في إدارة المؤسسات من برنامج التعليم المستمر في جامعة بيرزيت في العام 1998. وبدأ الكتابة في مرحلة مبكرة من حياته النضالية، وكان حافزها تشجيع أصدقائه له من ناحية، ورغبته في دراسة التجربة الفلسطينية، وبخاصة في شقَّيها العسكري والقيادي، لاستخلاص العبر والإسهام في عملية التحرير، من ناحية أخرى.

وقد تنوَّعت كتابات منصور بين التقارير والدراسات التي كانت تقدَّم لقيادة حركة فتح، وبخاصة قبل تأسيس السلطة الفلسطينية؛ والمذكرات، التي انحال جزء منها إلى تجارب كتابية يغلب عليها أسلوب "الرواية التاريخية/التسجيلية؛" فيما لا يزال الجزء الأكبر، والمهول في انتظار التصنيف والتحرير والنشر؛ والكتب التخصصية ذات العلاقة بتحوُّلات المقاومة من خيار الكفاح المسلح حتى خيار المقاومة الشعبية؛ وكتب التربية والإدارة والرحلات؛ والكتب التأملية التي تحاول قراءة سلوك الطبيعة وقوانينها كذات سياسية يمكن للإنسان، وبخاصة الفلسطيني، محاكاتها.

bil3een

وقد نشر لمنصور، حتى اللحظة، ثلاثة كتب، هي: (بلعين في المقاومة الشعبية. رام الله: مكتب الشؤون الفكرية والدراسات (فتح)، 2007)؛ و(انتفاضة المقهورين. رام الله: مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، 2009)؛ و(عبور النهر. رام الله: اتحاد الشباب الفلسطيني، 2011). بالإضافة إلى الإسهامات المتنوعة من شهادات في كتب تتناول الحركة الوطنية الفلسطينية بعامة، والحركة الفلسطينية الأسيرة بخاصة، نحو (ناصر دمج (محرر). التقرير السنوي 2012 لمركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة. القدس: مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة-جامعة القدس، 2012، 198-203). ومن مخطوطات الكتب التي في انتظار النشر: (شرق النهر، وهو الجزء الثاني المكمِّل للسيرة النضالية التي كان "عبور النهر" جزؤها الأول)؛ و(قيادة عن بعد، ويتناول جزءاً هاماً من تاريخ الثورة الفلسطينية الذي شهده منصور عن قرب بعد تسلله إلى الأردن وحتى نهاية انتفاضة الأقصى)؛ و(أيام في الظلام، ويروي قصة المطاردة إلى جانب القائد الوطني مروان البرغوثي خلال انتفاضة الأقصى)؛ و(الماء لا يتعثَّر بالصخور، وهو كتاب تأملي في "التفكير المائي" الذي يحاول من خلاله دراسة سلوك الماء وإمكانية محاكاته من قبل الإنسان). وفي هذه الحلقة من "سنوات الرصاص الفلسطينية،" سيتم التركيز على الكتب المنشورة والكتابات ذات العلاقة من الجهد الكتابي الموسوعي لمنصور.

هدي منصور كتابه الثالث من حيث ترتيب النشر، والأول من حيث الترتيب الكرونولوجي لسيرته النضالية (عبور النهر، 2011) إلى والديه، عازماً على استدعاء "الذاكرة الأليفة" لميلاده في قرية بلعين، "المنزل الأول،" الذي اجتمعت تحت سقفه "فدائية الارتجال" عند والدته، و"سماحة الماء" عند والده في الطبع والمسيرة، لتكون هذه الثنائية قدر منصور وقدرته في النضال والكتابة... في الحياة على اكتمال قوسها.

ويقدِّم منصور للكتاب بـ"استهلال" جاء فيه: "تروي هذه القصة تجربة إحدى خلايا المقاومة الفلسطينية التي نشطت في منطقة رام الله في الضفة الغربية في أوائل سبعينيات القرن الماضي. خلية لم تأخذ قرشاً واحداً من الثورة، لم تستلم سلاحاً، عملت بمبادرة منها، معتمدة على قدراتها الذاتية، مكتفية بوحي انتمائها التنظيمي والوطني، دون أن تنتظر تعليمات من الخارج (3)." وفي باب الـ"شكر"يحيل منصور الفضل لأهله، ويؤسس: "بداية أشكر رفاقي أبطال الرواية، خضر قنداح، وجمال منصور، وغازي فلنة الذين أتاحوا لي فرصة صياغة تجربة صنعوها بإقدامهم، أولئك الشبان الذين أصدرت بحقهم محاكم الاحتلال حكماً بالسجن مدى الحياة، قضوا منها اثني عشر عاماً من بين 1974 و 1985 قبل أن يتم تحريرهم بعملية تبادل للأسرى."

يوجز منصور في هذين الاقتباسين، من المقدمة والشكر، الخط الحكائي للقصة/الرواية، كما يحيل إلى أبطالها الحقيقيين لا المجازيين. وهو في الحالتين يدشِّن سيرة حرجة في مسيرة "سنوات الرصاص الفلسطينية" منذ أواخر ستينيات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينيات، حرجة في التجربة الفلسطينية ككل، لكنها أشد حرجاً في تجربة العمل الفدائي في حدود الأرض الفلسطينية المحتلة. وفي هذه الرواية، التي لا "فكشن" فيها من قريب ولا من بعيد، يعلي منصور قيمة العمل الفدائي الارتجالي على نقيضه بالغ التنظيم، ذلك أن الارتجال أقرب إلى "كرسيِّ الإرادة" في النفس الإنسانية، فيما يحيل التنظيم إلى "كرسيِّ التردد." وبين الإرادة والتردد هوة تشبه الموت لم يعرفها منصور وخليته الأولى.

فبعد إنهائه للثانوية العامة في الأردن، وعلى الرغم من قبوله لدراسة الفيزياء في الجامعة الأردنية، انتقل منصور إلى العراق للدراسة حيث قبل في كلية العلوم التي تخرَّج منها ببكالوريوس رياضيات في العام 1972، على غير رغبته ورغبة والدته بأن يدرس الطب. في بغداد، التقى منصور بعماد ملحيس الذي أطلعه على تجربة "إقليم فتح في بغداد،" وخاصة تجربة "جهاد الأرض المحتلة،" وكذلك التقى بصخر حبش الذي كان، في حينه، نائب كمال عدوان قائد القطاع الغربي في حركة فتح. بعد بداية الاجتماعات في منطقة "البتَّاوين" في بغداد، وتولِّي مسؤوليات متقدمة في اتحاد الطلبة، وتلقي التدريبات على العمل السري والعسكري، أحس منصور بأنه دخل فعلياً في تجربة "غير روتينية" في تنظيم فتح، وبخاصة أن الحركة في تلك الأيام كانت "الابن البكر" للعرب والمسلمين المعنيين بتحرير فلسطين.

عاد منصور إلى فلسطين في صيف العام 1972، وبدأ عمله التنظيمي "بارتجال" منقطع النظير، لكنه بخطى واثقة وقد نسي تقريباً معظم ما تعلمه في تدريبات العمل السري والعسكري في بغداد! ولم يمض عام واحد على عودته، حتى باغتته "الشرارة" يوم 6 تشرين الأول من العام 1973 أول أيام الحرب، ووضعت العدو الصهيوني وأرتال دباباته على مرمى زجاجة حارقة منه ومن رفاقه في المجموعة: أخوه بالدم جمال، وأخواه بالفتح خضر قنداح وغازي فلنة، على طريق بيتونيا، ودوار الساعة، وشارع نابلس. وحين لم تنجح أولى العمليات في "تدمير دبابة بزجاجة حارقة!" قررت الخلية تنفيذ عمليات حرق للمصالح الصهيونية في رام الله، وبخاصة فروع البنوك الصهيونية: "ديسكونت" على المنارة، و"ليئومي" مقابل بوظة ركب قرب موقف تكسيات غزة. وقد كان حرق البنوك فاتحة النشيد، إذ عززت السلطات الصهيونية حراساتها على البنوك والمصالح الاحتلالية، وتركت جنوداً بلا دبابات فرائس سائغة لعمليةِ خليةٍ لم تنقصها الرجولة، ولم يكن أمامها سوى الارتجال. قرر منصور وإخوته هدف العملية وزمانها ومكانها وكلمة السر: الجنديان الصهاينة اللذان يحرسان فرع "بنك لئومي،" في شارع ركب، الساعة 6:17 دقيقة من مساء يوم 8 تشرين الثاني 1973، وكلمة السر "نصر."

بتفصيلات مذهلة، وسرعة خاطفة استمرت، حسب منفذيها أقل من خمسين ثانية، تم تحقيق الهدف، وغنم السلاح، والتوجه به مشياً على الأقدام، من قبل منصور وفلنة، من شارع ركب في رام الله، عبر بيتونيا وعين عريك ودير بزيع وكفر نعمة حتى "مغارة السباعيات" في بلعين حيث أخفيا "سلاح الناتو" و"البندقية الألمانية" وجهاز الاتصال اللاسلكي التي تم غنمها في العملية! لا يؤسطر منصور العملية رغم ما فيها من عناصر لا تليق الأساطير إلا بمثلها، لكنها يواصل عاديته في رواية غير العادي... ويسرد تفاصيل القلق الهائل من قبل "فدائيي الارتجال" بين تنفيذ العملية وانكشاف سرها بعد أقل من خمسة أشهر، لتبدأ رحلة "عبور النهر" الأكثر أسطورية، ربما، من قبل منصور بعد سماعه، وهو على "رأس عمله كمدرِّس" في رام الله بخبر اعتقال أعضاء خليته التي "حظيت" بحكم المؤبد إلى أن تم تحريرهم في عملية الجليل لتبادل الأسرى في العام 1985. أما منصور، فقد "عبر النهر" ليواصل العمل في صفوف الحركة وإطار منظمة التحرير الفلسطينية إلى حين عودته في العام 1996، وبنفس اليوم والتاريخ الذي غادر فيه فلسطين: الإثنين الموافق 22 نيسان 1996.

في مخطوطة كتابه السردي (شرق النهر)، والذي يعدُّ الجزء الثاني المكمِّل للسيرة النضالية التي كان "عبور النهر" جزؤها الأول؛ وفي كتابه التحليلي (قيادة عن بعد)، والذي يتناول جزءاً هاماً من تاريخ الثورة الفلسطينية الذي شهده منصور عن قرب بعد تسلله إلى الأردن وحتى نهاية انتفاضة الأقصى... يستكمل منصور سيرة "سنوات الرصاص الفلسطينية" خاصته بين السجون الأردنية ومثيلاتها السورية وقلق الاستباحة في التجربة العراقية الثانية بجواز سفر مزور. لكن أكثر الأمور اللافتة في هذه التجربة هي إصرار منصور على توثيقها، ليس بالاستدعاء الحر للذاكرة والذكريات وحسب، بل وفي الاحتفاظ بكثير من وثائقها الأصلية.

وفي هذا السياق، لا تزال عشرات "دفاتر المذكرات" بحاجة إلى نفض الغبار عنها لتحدِّث عن مرحلة تاريخية عذراء في سياق الثورة الفلسطينية، وبخاصة تاريخ تجربة "القطاع الغربي لحركة فتح" في العمل الثوري، وبخاصة بعد الخروج من بيروت وحتى مطلع انتفاضة الحجارة في العام 1987... تلك مذكرات يتحفَّز فيها التاريخ و"يوشك أن ينقضَّ" كجدار الخضر وما تحته من أسرار لم يفهمها موسى النبي: وثائق، وتقارير، وملخصات جلسات، ومحاضر اجتماعاتها، وتحليلات نافذة كل في ميقاته ومكانه لنجاحات منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح بخاصة، وكبواتها، ورسائل بخط اليد من أبو جهاد وحمدي سلطان، وتأشيرات بخط اليد من أبو عمار على موضوعات ذروة سنامها حالة الكفاح المسلح وأبسطها إفساد الثروة للثورة!

[caption id="attachment_29469" align="aligncenter" width="480"]رسالة سرية من أبو جهاد (خليل الوزير) إلى أبو علاء منصور حول أعمال مقاومة بتاريخ 15/10/1987 رسالة سرية من أبو جهاد (خليل الوزير) إلى أبو علاء منصور حول أعمال مقاومة بتاريخ 15/10/1987[/caption]

عارضت السلطات الصهيونية عودة منصور إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقية أوسلو، في البداية، لكنها عادت ووافقت على عودته مع مجموعة ممن تتهمهم بأن "أيديهم ملطخة بالدماء." يستذكر منصور لحظة "النهر" في عبوره المعاكس، وبعد اثنين وعشرين عاماً بالضبط، وفي نفس يوم الإثنين الموافق 22 نيسان 1996، ويستذكر محادثته مع ضابط المخابرات الصهيوني الذي لم يحل "الاتفاق" دون أن يجري معه "مقابلة" يستقبله فيها باستدعاء كافة أسماء منصور الحركية: "أهلاً بطارق، أبو علاء، سامي، الأستاذ، المعلم... منصور." ويستذكر سؤاله عن مرحلة الكفاح المسلح، ومسائل أخرى... قطع عليه فيها منصور الطريق، وتحدث معه بلهجة "المرحلة الجديدة" ليقصِّر وقت المقابلة، وليرتاح من ثقل ظله واستفزازاته.

intifadetalmakhoreen

لم تتح هذه "المرحلة الجديدة" متسعاً كافياً من الوقت لمنصور حتى يتأمل تجربة المنفى ويكتبها، بل ما يكاد يواصل نشاطه الحركي، ويبدأ ببلورة رؤى جديدة حول أنجع أساليب القيادة ويتخصص فيها على نحو مهني... حتى تاغته انتفاضة الأقصى التي خصَّها بكتابه (انتفاضة المقهورين، 2009), الذي أهداه إلى شهداء الشعب الفلسطيني: من ياسر عرفات وأحمد ياسين إلى فارس عودة وراشيل كوري، وقدَّم له صديقه عالم النفس الدكتور جمال الخطيب. يدشِّن منصور في هذا الكتاب، ذي الفصول التسعة، نمطاً مميزاً في الكتابة يجمع بين التأريخ والتحليل السياسي وطرح مفاتيح للتخطيط الاستراتيجي على المستوى الوطني... في آن معاً. فهو يميز بين الانتفاضة كحدث وطريقة إدارتها، ويحلل، على نحو تنافذي لافت، التوترات الفلسطينية بين حركتي فتح حماس في إطار التناقض الأكبر مع قادة دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني-إسرائيل التي فشلت المفاوضات معها وانغلق أفقها السياسي، ومن ثم يدرس تبعات هذه التناقضات العنقودية على مسار القضية الفلسطينية وأنماط المقاومة بغية التحرير في سياق دولي جديد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وظهور "عقيدة بوش" وعقدته تجاه "الإرهاب" الذي بدأ يتمطَّى ليشمل كل من لم يتوافق مع الأجندة الأمريكية، بما فيه المقاومة الفلسطينية التي اكتسبت شرعيةً خاصة دولياً وعربياً وفلسطينياً.

ومع أن منصور خصص أطول فصول الكتاب للسرد الحدثي للانتفاضة، وخص أسر النائب والقائد الفتحاوي مروان البرغوثي بمساحة لافتة من الفصل الخامس، بعنوان: "محطات ساخنة وعمى سياسي،" إلا إنه لديه مخطوطتان في انتظار النشر، هما: (قيادة عن بعد)، ويتناول فيها جزءاً هاماً من تاريخ الثورة الفلسطينية الذي شهده عن قرب بعد تسلله إلى الأردن وحتى نهاية انتفاضة الأقصى؛ و(أيام في الظلام)، ويروي فيها قصة المطاردة إلى جانب القائد الوطني مروان البرغوثي خلال انتفاضة الأقصى، وهي الفترة التي حفَّزت فيه رغبة القراءة والكتابة أكثر من غيرها. وبالإضافة إلى هذه المخطوطات التي لا زال منصور يعمل عليها، فقد أصدر كتابه (بلعين في المقاومة الشعبية، 2007) ليكون "جهد العتبة" في موضعة "المقاومة الشعبية" كبرزخ إشكالي بين "فدائية الارتجال" و"سماحة الماء" من حيث التجربة الكتابية بشكل خاص، وإن شقَّ ذلك من حيث الممارسة النضالية.

يقرأ نقاد ما بعد الحداثة أغلفة الكتب وعناوينها وإهداءتها وكلمات الشكر والامتنان فيها واقتباساتها الرشيمية، وسوى ذلك... قراءة سيميائية يفسرون بها الواضح بالغامض في غالب الأحيان! لكن منصور لا يأبه بقراءة على هذه الشاكلة ويسجَّل في كتابه الإهداء التالي: "أهدي هذا الكتاب إلى أهلي في بلعين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، فصائل سياسية ومؤسسات مدنية، أولئك الذين صنعوا التجربة بعطاءاتهم وتضحياتهم، خاصة أعضاء اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان، وإلى الجنود المجهولين الذين أنجزوا هذا العمل الجبار في أوقات الشدة، كما أهديه للمتضامنين من الدوليين ومن نشطاء السلام الإسرائيليين، الذين عملوا بحرارة وإيمان، ليس مساندين فقط، وإنما مشاركين حقيقيين، وإلى كل الذين دعموا التجربة من الفلسطينيين، وأخص منهم أعضاء الكنيست العرب، وكل الذين شاركوا فيها من داخل الخط الأخضر."

3oboralnaher

إذا كان للمرء أن يقف لحظة تأمل ليقارن بين هذا الإهداء وإهداء (عبور النهر)، فإن مفارقة جارحة تفجعه: مفارقة التحوُّل على أكثر من صعيد: حدثاً، ولغة، وجمهوراً، وغاية... لكن اللافت في هذا الكتاب، أيضاً، هو اجتراحه لنمط جديد في الكتابة من حيث جمعه بين البحث، والتأريخ المقارن، واليوميات، والتحليل، والتخطيط. ذلك أن منصور قسَّم الكتاب إلى جزئين أساسيين: المقدمات (وتشمل نبذة عن الكتاب، ومقدمته، ونبذة عن قرية بلعين، ومسحاً للمقاومة السلمية في العالم وفلسطين وحركة التضامن الدولية والمتضامنين الإسرائيليين)، والجدار (كواقع في فلسطين، والتجربة الخاصة لقرية بلعين التي دشِّنت عبر أربعة عشر فصلاً، هي: الإنجاز الكبير، البدايات، اللجنة الشعبية، المسيرات، فعاليات ميدانية نوعية، هتافات وشعارات، فعاليات مساندة، تمويل ودعم، استراتيجيات، انعكاسات، آراء ومواقف، عوامل النجاح، ما بعد الإنجاز الكبير، جائزة ياسر عرفات للإنجاز 2007).

أبو علاء منصور: سماحة الماء

خلال إطلاق رواية الأسير الفلسطيني حسن نعمان فطافطة (خريف الانتظار. رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2010) في 2 حزيران 2011... صادفت أبو علاء منصور، وسألني عن أخبار الكتابة، وكنت أحاول حينها، غير الكتابة النقدية والفكرية، تأمل "سماحة الماء." باغتني بالقول إنه ينجز كتاباً حول الموضوع ذاته، فتوقفتُ عن الكتابة. واليوم، أتأمل في "سماحة الماء" بعيون منصور. فها هو، دونما قصد، على ما يبدو، وبلا تأنُّق بلاغي ولا ادعاء نقدي يزامل الشعر والفلسفة وهو لا يزعمهما، وبتواضع العارف الـمُلابس للحياة في أوَّلها وآخرها، يعدُّ كتاباً لم يجد طريقه إلى النشر بعد، كذلك، بعنوان: "الماء لا يتعثر بالصخور" يتلوه عنوان فرعي: "لماذا نعقِّدُ البسيط؟"... على نمط قصائد "الهايكو" اليابانية. وبعد صفحة "الإهداء"، الذي لم يكتبه بعد، يقدِّم منصور لكتابه بـ"مقدمة" يتبعها بـ"لفتة" يوضح فيهما مقصد الكتاب بتنظير رهيف لا ينقصه البريق لـ"التفكير المائي" الذي ينبغي لنا إتقانه لنتعرَّف على "سلوك الماء" وتحاكي ذواتُنا ذاتَه. ومن ثم يدشِّن أربعاً وسبعين مقولة في الماء، عناوينها تفصح عنها، هي على التوالي:

"الماء في الحياة؛ من نبع الماء يتدفق الحب؛ القائد من يتقدم الصفوف بالتضحية؛ الماء لا يغرق بالتفاصيل؛ الماء لا ينزع للسيطرة؛ لماء ينتظر؛ الماء يتمرد إن لم يجد مخرجا طبيعياً؛ لا أقوى من فكرة آن أوانها؛ الماء لا يكذب؛ الماء ينقي ذاته؛ الماء يحافظ على جوهره؛ الماء يختار طريقه؛ الماء ينشر البهجة؛ الماء يوازن بين الخبرة والقوة؛ الماء يعمل بقانون الجذب؛ الماء خير؛ الماء يتفجر قوياً؛ الماء لا يتهرب من المسؤولية؛ الماء يقدر الموقف جيداً؛ الماء يتحرك بخيارات مفتوحة؛ الماء لا ينظر للأمور من ناحية شخصية؛ الماء لا تقوده عادة؛ الماء يصنع بيئته؛ الماء لا يتنبأ؛ الماء لا ينافس؛ الماء لا يعد الساعات؛ الماء طريق الحياة؛ الماء يتعاون؛ الماء يدمر عندما يغضب؛ الماء يقتنص الفرص؛ الماء يتعكر عندما يثور؛ الماء لا ينشغل بما لا يعنيه؛ الماء يتحرك باستقلالية؛ الماء يبدأ من حيث هو؛ الماء يراكم بالتدريج؛ الماء يلتزم المجرى الرئيسي؛ الماء واقعي؛ الماء محاور؛ الماء مبادر؛ الماء لا يتعثر بالصخور؛ الماء لا يرتبك؛ الماء يتحدى لكنه لا يعاند؛ الماء لا يندم؛ الماء يستثمر الزمن؛ الماء لا يفتعل المشكلات؛ الماء مناور؛ الماء ينشغل بالحلول؛ الماء صبور؛ الماء مثابر؛ الماء يعمل في نقطة قوته؛ الماء يعمل لأهدافه؛ ليس للماء موقف مسبق؛ الماء يشق طريقه بالثقة؛ الماء يتكيف؛ ليس للماء قبيلة؛ الماء مطمئن؛ صافي الماء يعكس الأشياء كما هي؛ الماء لا يؤجل؛ الماء يتواصل؛ الماء مشكور؛ الماء لا يذل ذاته؛ الماء يقوى عندما يتجمع؛ كيف؟ ولماذا؟؛ لنجعل من الحياة مرجة خضراء؛ لا أروع من ميزة العيش على الحدود؛ الماء شفاف؛ الحبيب ماء العين؛ الماء يطفئ النار؛ بالندى يرتوي الغزال؛ الكل يعطي مما عنده؛ من يده في النار ليس كمن يده في الماء؛ الماء لا يتعثر بتعداد العقبات؛ اللاحظ حظ؛ ماء القلب."

وهذه أربع مقابسات من "الهايكو" الفلسطيني، الذي دشَّنه أبو علاء منصور، فكراً وممارسة، ولن يزال في انتظار النشر:

من نبع الماء يتدفق الحب

نحن أبناء الماء

الماء حُب أم لطفلها: "المهم أن يشرب ولدي"

ألا يهمس الماء المتدفق عبر مديد الزمن،

مداعبا أرواحنا وخيالنا، ونحن نتأمل اتساع البحر في هدأة الليل:

"أنت تحبني، خذ ما تريد، جراري ممتلئة "

أية عظمة لبيع فاتورته الحب!

في ضرع السماء رعشة الزرع الأول وطعم حجارة الينبوع.

لنتعلم من العطش الصبر، لا الشعور بالحرمان.

إياك أن تظل عطشانا إلا للحب وعمل الخير.

الحياة دون حب ذاكرة فارغة.

القائد يتقدم الصفوف بالعطاء

بقوة اصطدام موجاته بالصخور، يشق الماء طريقه،

تتبادل نقاطه مواقعها دون إذن أو مرسوم.

لا ثابت في الكون إلا التغيير الدائم.

لا قيادة تاريخية ولا ثابتة عند الماء،

القيادة نموذج سلوك معطاء.

لا قيادة بالتوريث ولا بالأقدمية،

هذه وصفات لقتل الهمم ومنع التغيير.

لا أروع من أن تجد نفسك في المكان والوقت الذي تتفجر فيه طاقتك.

وأن تصنع موقعك بإنجازاتك ....

الماء يقدر الموقف

هل شاهدت ماء يصعد قمة جبل؟ أو يتقهقر عائدا للخلف ؟

أبداً لن تشاهد ذلك.

الماء يتقدم إلى حيث يستطيع.

يعوض ضعف تدفقه بتسارعه، ولا يغتر بقوة اندفاعه،

هناك من تنقطع قلوبهم ، وهم يصارعون ما لا طاقة لهم به.

وآخرون يستسلمون عند أول صدمة.

أوجد البديل لتحدث التغيير، وإلا لماذا وهبنا الله نعمة الخيارات؟

الماء يتحرك بخيارات مفتوحة

الماء يسلك الخيارات المتاحة.

لديه هدف وخياراته مفتوحة.

أما نحن فتقودنا عاداتنا ، ويكبّلنا هوانا.

يا لبؤس البشر وهم يضحون بحريتهم.

لا تكن شرطيا على حريتك.

*الصورة أعلاه: الرئيس ياسر عرفات يتوسط جمال منصور (يمين) وأبو علاء منصور (يسار) في العام 1998