شبكة قدس الإخبارية

وليد الهودلي: "كتابة على قدر الوقت، لا على قدر الوارد"

عبد الرحيم الشيخ

وليد الهودلي من نجح في اختلاق مشكلة يستحق عليها الترحيل عبر "البوسطة" المدمرة لجسد الأسير إلى المحكمة المركزية ليتمكن (هناك) من رؤية المحامي و"تهريب" واحد أو أكثر من "دفاتر السجن" التي حملت عنوان: "مذكرات" حتى لا تتم مصادرتها... يدشِّن الأسير المحرر وليد الهودلي حالة خاصة في "الحالة الخاصة" التي اقترحها باختين مرة، بأن "بعض الشخصيات الروائية تُملي على الروائي مصيرها،" ويختطُّ طريقاً في الرواية التسجيلية لتجربة الحركة الأسيرة، ليس كمثله عند أحد.

وليد الهودلي: كتابة الجدوى

يتحدر وليد الهودلي، المولود في العام 1960، من عائلة فلسطينية لاجئة من قرية العباسية، وتقع إلى الشرق من مدينة يافا، والتي احتلت وطهِّرت عرقياً في 4 أيار 1948. وقد اعتقل الهودلي ثلاث مرات من قبل سلطات الاحتلال الصهيونية: الأولى في العام 1979؛ والثانية في العام 1990 واستمرت 12 عاماً؛ والثالثة في العام 2007 واستمرت عشرين شهراً كـ"اعتقال إداري." وفيما كان الاعتقال الأول بتهمة المشاركة في "أعمال الشغب والعنف" من قبل الشباب الفلسطينيين؛ كانت المرة الثانية بتهمة خطف جندي إسرائيلي وجرحه بغية إجراء عملية تبادل أسرى، وقد نفذت تلك العملية، كما ورد في لائحة الاتهام، كأحد الأعمال العسكرية لخلية تابعة لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. وأما الاعتقال الثالث، والذي استمر "إدارياً" مدة عشرين شهراً، فقد جاء "احترازياً" و"تأديبياً" ولردع فكرة الكتابة عن تجربة السجن، وبخاصة في أعقاب صدور رواية الهودلي الأولى التي تناولت "تجربة الوعي" بالتجربة الاعتقالية!

وقد تخرَّج الهودلي من معهد المعلمين في رام الله (حالياً كلية العلوم التربوية) في العام تخصص الرياضيات (التي سيظهر استخدامها على نحو طريف في رواياته لاحقاً. وقد أسس، مع مجموعة من المثقفين والأكاديميين، مركز بيت المقدس للأدب، وغيره من المراكز. كما ترأس تحرير "مجلة نفحة" لشؤون الأسرى، وأشرف على "مجلة الرحال الصغير للصغار،" وهو عضو في جمعية أنصار السجين، وعضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.

waleedhodali

يتخذ وليد الهودلي من الرواية التاريخية (شبه التسجيلية، إن صح التعبير نقدياً)، وسيلة لتدشين التجربة الإسلامية ليس في مسيرة الحركة الفلسطينية الأسيرة وحسب، بل وفي مقولة "الحداثة الفلسطينية من وجهتها الإسلامية،" كما أسس مرةً الصديق الدكتور إسماعيل الناشف في وصفه لمناطق العمى في التاريخ الفلسطيني من حيث الحضور والغياب للكتابة الروائية الإسلامية. الهودلي يحرص دائماً على تطعيم رواياته بإحالات واقعية، سواء كانت تقديمات، أو إهداءات، أو شكر، لا تدع مجالاً للشك في المرجعية الواقعية للرواية أو العمل الفني. ومن ذلك ما جاء في تصدير الجزء الأول من رواية "ستائر العتمة، في باب إهداء وشكر: "للأخوين الأستاذين الفاضلين نضال زلوم وإبراهيم نواهضة، على ما أسهما به من جهود مشكورة في النقد والتقويم... ولكل الأخوة الأفاضل في سجني عسقلان و"هدريم" بما لهم من فضل في إخراج هذه القصة الواقعية من قلب المحنة وصميم الواقع الأليم..." (5).

"مدفن الأحياء-شهادات حية من المعتقل"

وقد كانت أولى إصدارات الهودلي، "مدفن الأحياء-شهادات حية من المعتقل" بمثابة عتبة لنهجه الكتابي من حيث الكتابة التسجيلية، صدَّره في الصفحة الأولى، بمقولة: "مرضى على وشك الرحيل. أجساد وأرواح تعتصر ألماً في مستشفى الرملة-فلسطين،" ليستدعى فيه إثنتي عشرة "شهادة" لأسرى فلسطينيين، وحولهم، في مواضيع غاية في الفرادة، وهم: محمد أبو هدوان (الشيخ المحتسب)؛ عمر الخطيب (المشعوذة)؛ ياسر المؤذن (واحة الديمقراطية)؛ جمعة إسماعيل (صخرة في صدرة)؛ علي شلالدة (ما لها إلا الله)؛ نضال أبو عليا (أربع ساعات)؛ فتحي زقوت (سائق الحافلة)؛ علي عباس البياتي (عراقي في سرداب السبع)؛ علاء الدين البازيان (زيارة بحيرة طبريا)؛ ربحي هرشة (أمام الضمير المفقود)؛ جلال رمانة (من أصحاب الأخدود)؛ وليد الهودلي (قراصنة الجبَّانة).

ولعل في الـ"مقدمة" التي أوردها الهودلي لهذه الشهادات ما يفصح عن دافع جمعها وتسجيلها، يقول: "تلاشت آهات يوسف العرعيد المكبوتة، لم تجد طريقها إلى نخوة المعتصم، ولا نخوة أبي جهل. انضم إلى الركب ورحل بصمت. شهداء قتلوا بدم بارد على أسرَّة المرض في سجون الاحتلال. عبد القادر أبو الفحم، عمر القاسم، يحيى الناطور، حسين عبيات، معزوز دلال، رياض عدوان، والركب يطول. وإذا كان هناك من ينتظر الانضمام وينطوي على لهيب معاناتها، فلا أقلَّ من أن نقص عليكم قبساً يسيراً من هذه المعاناة. صحيح أن صفحات الجرائد كثيراً ما شهدت ذكرهم، ولكن الجديد الآن هو أن ندخل إلى عالمهم، ونشاركهم خلجات قلوبهم، ونتفيأ ظلال أرواحهم. لن نثقل عليكم، سنعودهم بصحبتكم، فعيادة المريض أجر، ومن السنَّة أن تكون عيادة المريض قصيرة. 27/5/1999." (7).

رواية مكوَّنة من خمسة أقسام. إضافة إلى ما تعكسه الرواية ذاتها، عبر خطِّيتها السردية، فإن الهودلي نفسه، يقدِّم الرواية بما يشبه الاقتباس الرُّشَيْمي، يقول فيه: "كتبت هذه الرواية في وقت غيَّر فيه الكيان الصهيوني أساليبه في التحقيق من العنف الجسدي والنفسي إلى العنف النفسي فقط، إلا في حالات خاصة، تستدعي استصدار إذن خاص بها لممارسة التعذيب الجسدي معه. من المؤكد أن هذا القرار قد دُرسَ جيداً، وروعيت فيه مصلحتهم من عدة نواح... وبالتالي، فهو قابل للتغيير أو العودة إلى للأسلوب القديم إذا دعتهم مصلحتهم لذلك. 25/3/2001. " (4).

A 3

وفيما تناول الجزء الأول من "ستائر العتمة" (تجربة الوعي)، كما عكستها تجربة الاعتقال الأطول في حياة الهودلي (1990-2002)، جاء الجزء الثاني "ستائر العتمة" ليضيء على (تجربة الإرادة). ولعل في قصة هذين الجزئين ما يلفت الانتباه من حيث "المسؤولية عن الكتابة أمام العدو،" حيث إن الهودلي، وأثناء اعتقاله الإداري، الذي استمر عشرين شهراً ابتداءً من العام 2007، قد تعرَّض للمساءلة عن الجزء الأول من روايته "ستائر العتمة"، والتي لم تحمل عنوان "الجزء الأول" بالمناسبة في أي من طبعاتها.

ولكن قسوة المساءلة والتحقيق، على ما يبدو، أتت بأُكل غير الذي رغب فيه المحققون. هنا، يروي الهودلي، في حديث شخصي، كيف أن ضباط التحقيق في سجن المسكوبية البغيض قد أحضروا له "بروفيسورة/خبيرة في الأدب" من الجامعة العبرية، تدعى "نورا" لتناقشه في كتاباته! ويذكر أن هذه "البروفيسورة/الخبيرة" كانت قد أعدَّت ملخصات، وتحليلات محددة لكتابات الهودلي إلى حينه، وبخاصة "ستائر العتمة" في جزئها الأول. وبعد قول ورد (أوضح فيه الهودلي أنه كضحية من حقه كتابة روايته، بمعناها المزدوج، كما كتبت الضحية اليهودية روايتها عن الهولوكوست) تم تحذير الهودلي من الكتابة ثانية، من قبل المحقق، الذي وصف الكتابة بالتحريض والتدريب. ولكن الهودلي، بظرفه وحسه الساخر الخَفِر، استثمر خروج المحقق من غرفة التحقيق، و"عرض" على "البروفيسورة/الخبيرة" كتابة رواية مشتركة عن تجربة التحقيق، إذ ستحقق رواية من هذه الشاكلة (بين أسير فلسطيني و"بروفيسورة/خبيرة" في (أدب) السجون) أرباحاً طائلة يمكنه تقاسمها معها مناصفةً! فغادرت، "نورا،" الغرفة بنزق غير محمود العاقبة، كانت تبعته أن عاد المحقق للغرفة غاضباً، ومحذراً الهودلي ليس من الكتابة ثانية وحسب، منفرداً أو سوية مع "نورا،"بل ومن إمكانية المحاكمة بسبب عرض رشوة على "خبيرة مخابراتية"!

في هذه النادرة ما يخز المرء بدبوس من عسل ليضحك من حمق المحققين وعليه في دعوتهم كاتباً بألا يكتب، لكن فيها، كذلك، ما يحيل إلى صمم الإسرائيليين الصهاينة وعماهم، أو بالأحرى إصرارهم على الصمم والعمى عما يقترف من جرائم بحق الأسرى الفلسطينيين، وبخاصة في فترة التحقيق.

ولعل المقام يتسع هنا لواحدة من أكثر التعقيبات الإسرائيلية رهافة على هذا الميل النكراني من قبل الإسرائيليين لمعاناة الفلسطينيين، وهي إحدى شذرات الروائي الإسرائيلي عوز شيلاح، بعنوان "شكوى"، والتي وردت في روايته "أراض للتنزه-رواية في شذرات (ترجمة عبد الرحيم الشيخ) يقول:

تلقِّى صاحب حانة في (حي) المسكوبية شكاوى من الزبائن حول أصوات تنفذ إلى الحانة ليلاً وتفسد عليهم متعة الشرب. فبعث صاحب الحانة رسالة طويلة إلى الشرطة مبيناً أن تلك الأصوات المقلقة، كما أسماها، تنبعث من السجن على الجهة الأخرى من الشارع، عابرة من أقبية التحقيق تحت مركز الشرطة، التي تقع على عمق أربعة، وقال البعض، ستة طوابق تحت الأرض، حتى حانته الواقعة على مستوى الشارع. حتى إنه زار مركز الشرطة شخصياً ليُسمع شكواه، لكنَّ الأصوات تواصلت. وفي النهاية، لم يكن أمام صاحب الحانة من خيار غير أن يرفع صوت الموسيقى في حانته خلال ساعات الهدوء، إلى ضعفت قدرته على السمع.

"الشعاع القادم من الجنوب-قصة أسير من مجاهدي المقاومة في جنوب لبنان.

ولعل من الطريف، في عالم الروايات التسجيلية/التاريخية، أن يقدِّم لهذه الرواية أحد أبطالها، وهو إسماعيل الزين، ويعقِّب على التقديم مؤلف الرواية، في قسم، بعنوان: "كنز الأسرار" يتناول فيه سردية "واقعية" لتفاصل الغرفة (7) في الطابق الثاني من القسم (ب) في سجن عسقلان. والرواية تحكي قصة واقعية وتحاكيها، وهي قصة مجموعة فدائية (دورية) من مقاتلي حزب الله اللبناني تم أسرها في العام 1987، وكان من أفرادها الذين قضوا في سجون الاحتلال أكثر من ثلاثة عشر عاماً، كل من: إسماعيل الزين، محمد بدير، وعلي بلحص، وقاسم قمص، وجواد قصفي.

A 2

وفي تقديمه للرواية، وكيف انبثقت من القصة التي حكاها للهودلي، يقول الزين (في تقديمه المؤرخ بالعام 2001): "... ويبقى من المهم والوفاء أن نشير إلى كاتب هذه الرواية، وهو أحد إخوتنا الكبار من المجاهدين الفلسطينيين، الذين عاشوا معنا، وعشنا معهم، وحدة الهم والهدف والغاية والمصير. ربطتنا به علاقة وطيدة تعززت ثمارها من سجن "عسقلان" الرباط، وأحبَّ أن يكتب عن جهاد حزب الله وأسراره، وعن قصتي التي كتبتها ورويتها له، وأعاد صياغتها وكتابتها بقلمه العذب، وبأسلوبه الفني الرائع، لينتج لنا هذه التحفة الرائعة التي تروي قصة أسرى حزب الله والأخوة الفلسطينيين في سجن عسقلان، وقصة التلاحم الأخوي في ساحة التحدي كما هي في ساحة الحزن والفرح، قصة الاتحاد والترابط في خندق المواجهة بين السني والشيعي ضد العدو الصهيوني، على قاعدة الأخ أبو أحمد التي طالما رددها: "ليبقى كل منا على تسننه وتشيعه، وليحترم بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ولتبق خلافاتنا في إطار الاجتهاد وأدبياته، ولتبق سيوفنا مشرعةً في مواجهة التحدي الصهيوني وعملائه."

ليل غزة الفسفوري

في العام 2007، تم اعتقال الهودلي "إدارياً"، ومكث في الأسر أكثر من عشرين شهراً، إذ شهد، وهو في معتقل النقب الحرب الإسرائيلية على غزة، "حرب الكانونين 2008-2009. وقد دشَّن الهودلي تلك التجربة في رواية، "ليل غزة الفسفوري".

A5

بدأت فصول هذه الرواية تنسج مع بداية الحرب الغاشمة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. عاش المؤلف (الذي كان قابعاً في معتقل النقب القريب من موقع الحدث) أحداث الحرب: فالطائرات تمر في سماء المعتقل، والمذياع والتلفاز لا يغلقان على مدار الأربع وعشرين ساعة، والتحليلات والتوقعات بين الأسرى لا تنتهي. وبرغم ذلك، فإن المؤلف لم يسجل من الأحداث الإجرامية سوى القليل القليل مما حدث على أرض الواقع. ولكن، تبقى الرواية عملاً أدبياً رائعاً يحفظ به تاريخ مرحلة عصيبة مرت بها غزة هاشم والتي بإذن الله ستبقى رمزاً للعزة والكرامة. استطاع المؤلف تسجيل صفحة جديدة من صفحات الحب والحرب، حيث يتجلى الصراع بين نداء الواجب نحو الوطن ومغريات الهروب إلى المستقبل، فيحسم الصراع منتصراً للواجب على أية مصلحة ذاتية (2009)."

وفي أحاديثه الشخصية، يشير الهودلي أن الأسير، وقد فقد حيز المواجهة المادية وأدواتها مع العدو، فإنه لا يتبقى له إلا ممارسة مثقفيته بالكتابة كجزء من أداء الواجب في خوض المعركة. وفي رأيه، أن كتابة "شجون حرب "الرصاص المصبوب" على غزة"، كانت مساهمة من هذا القبيل.

 أبو هريرة في "هدريم"

 مجموعة قصصية تحتوي على ست وعشرين قصة قصيرة، تحمل الثانية منها عنوان المجموعة ذاته، انقدحت شرارتها من قصة حقيقية للأسير طه الشخشير الذي كوَّن علاقة خاصة مع قطة تسللت إلى قسمه في سجن "هدريم." وقد لاحظت مديرة المعتقل، التي لقَّبها الأسرى بـ"أم توفيق،" تندراً، تلك العلاقة، وبدأت سلسلة من الإجراءات التأديبية والتحذيرية لطه (أبو هريرة!)، وانتهت بإضافة شبك دقيق لا يمكن للقطة (هريرة!) العبور منه. ولعل هذا ما يحيل إلى الفصل المذهل الذي أنجزه الأسير المحرر حاتم الشنار عن "الأسرى والطبيعية في المعتقلات الصهيونية.

"عائشة والجمل"

كتبت على شكل قصة للأطفال تستحضر تجربة اتصال الهودلي، وهو في سجن النقب، بطفلته عائشة، التي سألته إن كان لديهم جمل في الصحراء، فأجابها بالإيجاب. فطلبت منه الحديث مع الجمل (على الجوَّال!)، فغيَّر الهودلي من صوته، وقلَّد الجمل، وبدأت حكاية فانتازية مذهلة، انتهت ببوح أحد الأسرى (رفاق الهودلي) لابنته عائشة بأن "الهودلي/أباها" هو الجمل! وما كان من الهودلي، ليخفف من صدمة اكتشاف الطفلة لـ"كذب" والدها، إلا أن واصل القصة، وادعى لابنته بأن من تحدَّث إليه للتو (أي زميله الذي فضح القصة) هو الحمار!

A 4