شبكة قدس الإخبارية

حاتم الشنَّار: برنامج الحياة المجدية

عبد الرحيم الشيخ

حاتم الشنار: من نابلس إلى عسقلان وبالعكس!

ولد حاتم إسماعيل الشنار في مدينة نابلس في العام 1950، وانتمى إلى حركة القوميين العرب في سن مبكرة في العام 1965. وإثر التحوُّلات السياسية والعسكرية والاجتماعية الهائلة التي شهدتها جموع الفلسطينيين في حدود فلسطين التاريخية وفي الشتات بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ونكسة العام 1967، كان "تجديد" انتماء الشنار إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "طبيعياً،" كما كان التحوُّل إلى نمط المقاومة العسكري طبيعياً، في حينه، بعد استنفاد فواعل الحركة الوطنية الفلسطينية في الوطن المحتل لوسائل المقاطعة، ومحاربة التطبيع، وبوادر العصيان المدني الشامل للاحتلال العسكري الصهيوني في سنيِّه الأولى بعد النكسة. لم يكمل الشنار مسيرته المدرسية إلا في الأسر، إذ أسر بعد إكماله للصف الثاني الثانوي، ليستكمل شهادة الثانوية العامة في السجن.

يفيد الشنار أن الحدود لم تكن واضحة تماماً بالنسبة لجيله بين حركة القوميين العرب و"أجهزتها النضالية" (كأبطال العودة، وشباب الثأر)، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لكن حظر معظم الأحزاب السياسية في ظل الأردن، وتشديد الخناق عليها أكثر فأكثر بعد نكسة العام 1967 من قبل الاحتلال الصهيوني، أدَّيا إلى تحوُّل العمل الكفاحي إلى عمل سري مشدد، تدرج فيه الشنار من المهمات التنظيمية "العادية" إلى العمل العسكري، وخاصة بعد عودته "التي لم يكن يتوقعها" من الأردن في العام 1968.

"سيولة الحدود وميوعتها وعملية الجامعة العبرية"

وحسب الشنار، فقد صعَّد من وتيرة هذا التوجه الكفاحي "سيولة الحدود وميوعتها،" واختراق دوريات الفصائل الفلسطينية "للحدود" بحرية نسبية، وذروة سنامها دخول الشهيد ياسر عرفات، ووصوله إلى نابلس حيث "دار هواش" و"حي العطعوط." في هذه الأجواء، استجمعت الفصائل الفاعلة في منظمة التحرير الفلسطينية قواها، وفعَّلت خلاياها، وبدأت بتنظيم العمليات النوعية الموجعة التي كانت، من منظور الشنار، رداً أولياً لصفع إسرائيل لتصحو من نشوة النصر في حرب العام 1967.

 وفي أواخر العام 1968، ومع بدايات تبلور الهيكلية التنظيمية والكفاحية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بدأ الشنار ورفاقه التحضير للعملية التي عرفت فيما بعد بـ"عملية الجامعة العبرية،" والتي لا يتوفر، للأسف، قدر لائق من المعلومات حولها فلسطينياً، على الرغم من ذكرها في مصادر إسرائيلية مثل كتاب عوزي بن زيمان "القدس: مدينة بلا أسوار،" والموسوعة العسكرية الإسرائيلية، وموسوعة ألكسوم. وقد وقعت العملية في 6 آذار 1969 في كافيتيريا الجامعة العبرية (في حرمها الجامعي الغربي المقام على أنقاض تلة الشيخ بدر المعروفة بتسميتها الصهيونية "غفعات رام" الحي الاستيطاني المقام على أراضي قرية لفتا، و ويضم كليات العلوم الطبيعية والرياضيات وتكنولوجيا المعلومات...). وقد أوقعت العملية 29 إصابة، وكانت العملية الأولى من سلسلة بلغت 18 عملية استهدفت الجامعة العبرية حتى نهاية انتفاضة الأقصى للعام 2000.

4

وقوع الشنار في الأسر وعملية تبادل الجليل

وقع الشنار في الأسر بعد قرابة أسبوع على تنفيذ العملية، واستمرت محكمته ورفاقه قرابة شهر، لتنتهي بتاريخ 3 حزيران 1969، بحكم بالسجن المؤبد بتهمة "العقل المدبر" و"المخطط الفعلي" للعملية على الرغم أنه كان الأصغر سناً من بين رفاقه. وقد أمضى الشنار في الأسر 16 عاماً حتى تحريره ضمن "عملية تبادل الجليل" التي جرت بين الجبهة الشعبية-القيادة العامة ودولة الاحتلال بتاريخ 20 أيار 1985. وقد استأنف الشنار، بعد تحريره، حياته الاجتماعية والمهنية في حقول الصناعة والتجارة والكتابة والترجمة من العبرية إلى العربية، لكنه استأنف كذلك نشاطه النضالي، ليتعرض للمطاردة إبان انتفاضة العام 1987، كما عمل الشنار في السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها في العام 1994 حتى تقاعده برتبة عميد، وتفرغه للكتابة.

يستمد كتاب حاتم الشنار "خمس نجوم تحت الصفر: خلاصات في مقاومة الأسر (عسقلان 1969-1985)" أهميته في تناوله لواحدة من أهم الحقب التأسيسية في عمر الحركة الفلسطينية الأسيرة، والتي صادفت فترة أسره بعيد "عملية الجامعة العبرية" في العام 1969 و"عملية تبادل الجليل" في العام 1985. كما ينضاف إلى هذه الأهمية الجانب البعد التحليلي والنقدي في استدعاء تجربة "سنوات الرصاص الخاصة" بالشنار، إذ لا يكتفي بالسردية الخطية، والاستدعاء المرَّ، بل يلجأ إلى التحليل البنيوي العميق، وبخاص لجوانب لم تُطرق، أو لم تُطرق على هذا النحو من قبل بالأحرى، في مسيرة الحركة الأسيرة الفلسطينية، وبخاصة في مواضيع، نحو: اقتصاديات المعتقلات الصهيونية، والعلاقة مع الطبيعة في الأسر، وشذرات من أخلاقيات التهكم وجدل المأساة والملهاة.

"المهمة الإعدامية" لماكنة الأسر الصهيونية"

في "مدخل للوضع المعيشي الاقتصادي في الأسر الصهيوني: معتقل عسقلان أعوام 1961-1985)، يدشِّن الشنار مبررات الكتاب وخلاصته التي يجوز فيها مهمات السجون ومعتقلات الأسر الصهيونية بوصفها إحدى ماكنات القهر وأطر القمع الصهيوني للشعب الفلسطيني منذ بدء "الغزوة الصهيونية" على فلسطين في العام 1948 وحتى اللحظة. لكن همَّ الكتاب ومهمته، كما يرد في هذا المدخل، يكمنان في "المهمة الإعدامية" لماكنة الأسر الصهيونية التي ترمي إلى عزل الأسرى عن مجتمعهم الفلسطيني، وسياقهم العربي، ومعينهم الإنساني؛ وتحويلهم إلى عبيد في ماكينة الإنتاج الصهيونية الجشعة، وأحياناً في أبشع صورها الذي يمثل خط الإنتاج الحربي ذروة سنامها، بلا عقود ولا اتفاقيات وبخروقات واضحة لكل معيار يتحرى إنسانية الإنسان وكرامته عبر إيقاعه في هذا "الشرك الإنتاجي" الذي هو مغترب عنه بالضرورة... ما سيؤدي، بالضرورة، إلى كسر دورة الحياة الطبيعية لهؤلاء الأسرى على مستويات الزمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أي تعطيل حضورهم الأنطولوجي بكلِّيته.

vb

يتبع الشنار هذا المدخل بفصل تخصصي، حول: "المشهد الاقتصادي المعيشي للأسرى أو اقتصاديات المعتقلات الصهيونية،" يفصِّل فيه القول حول "فندقة الأسر" (محيلاً إلى عنوان الكتاب: "خمس نجوم تحت الصفر") في وصف منشأة المعتقلات الصهيونية وأقسامها بوصفها "مقابر الأحياء" المقسمة وظيفياً إلى: نظارات (معبار)؛ وأقسام عزل انفرادي (إكسات)؛ وزنازين؛ وأقسام تحقيق؛ وغرف "عادية" للأسرى واستخدامات كل منها من قبل سلطات الاحتلال (المسماة: "مصلحة" السجون الإسرائيلية!)، وتحويل تلك الاستخدامات من قبل الأسرى. كما يصف فضاءات السجن واستخداماتها في المأكل والمشرب والمنام والملبس والحركة والتدخين و"الترفيه" والرياضة والوضع الصحي... بكل ما يمكن تصوره أو عدم تصوره من وحشية السجَّان الصهيوني الذي مارس طيفاً هائلاً من الساديات الـمَرَضية في حقب الفاشية والنازية: من التعذيب بأبشع الوسائل، إلى سرقة الطعام، إلى الإطعام القسري للأسرى في أوقات الإضرابات عن الطعام، إلى الإهمال الطبي، إلى إلزام الأسرى بمأكولات وطقوس الأعياد اليهودية والصهيونية...

خلاصة القول في هذا الفصل، وغيره من فصول الكتاب بالتأكيد، إنه بينما حاولت إدارة السجون الصهيونية إرجاع الأسرى إلى عصور ما قبل الالتقاط (خذ مثلاً حرمان الأسرى من وجود مصدر دائم لإشعال النار، ولجوء الأسرى للأساليب البدائية في إشعال السجائر والطبخ السرِّي؛ أو لجوء الأسرى إلى الطب الشعبي والطب البديل جراء سياسات الإهمال الطبي والإمراض المتعمد من قبل إدارات السجون) في الحياة الإنسانية، استطاعت الحركة الأسيرة بنضالاتها وتضحياتها انتزاع بعض حقوقها الإنسانية رغم أنف السجان، ورغم حالات الاستشهاد والأمراض المستدامة التي ألمت بالأسرى نتيجة الإضرابات عن الطعام وغيرها من أدوات العصيان التي دفع الأسرى أثماناً باهضة جرَّاءها.

العمل في الأسر وفكرة الكنتينة

يسهب الشنار في وصف "العمل في الأسر" من حيث التجارب والمواكبات، من حيث الأعمال الخاصة بإدارة السجن أو تلك الخاصة بالحركة الأسيرة نفسها، موضحاً السياسات التي سبق ذكره أعلاه تجاه عمل الأسرى في منشآت الاعتقال الذي بلغ، في بعض الأحيان، حدَّاً من السوريالية لتشغيل الأسرى في أعمال تحصين المعتقلات، أو نزع طوابع البريد لأغراض سياحية من على رسائل مرتجعة بما فيها رسائل الأسرى أنفسهم التي تمت مصادرتها، والتي مكنت الأسرى من كشف أسرار مذهلة عن سياسات إدارة السجون الصهيونية، وبعبث منقطع النظير! ومفارقات التبادل الاقتصادي دون عملة عبر "فكرة الكنتينة" وغيرها من إبداعات الأسرى مع السجانين "المتعاطفين" سواء كانوا من أصول عربية أو ممن لهم مصلحة في هذا النمط من التبادل.

المقاومة والصمود في الأسر

يورد الشنار في الفصل السادس وصفاً كفكائياً لمعركة الصمود والتصدي لإدارات السجون، موضحاً كيف خيضت الإضرابات التاريخية الكبرى عن الطعام بين العامين 1970-1976، وكيف ردت عليها إدارة السجون بالقمع الوحشي، وكيف صنفت المطالب، والأولويات، وكيف خيضت مفاوضات الكرامة عبر وحدة وطنية نادرة. ومن ثم يدلف إلى أساليب الحركة الأسيرة في مقاومة إجراءات القمع والإحباط في الأسر، وبخاصة التفتشات المهينة والمضنية، والتنقيلات الاعتباطية والاستباقية للإضرابات، وال حاكم الميدانية الجائرة داخل السجون، والعد والتفقد، ومقاومة محاولات إدماج الأسرى نفسياً وإخضاعهم للطقوس والأعياد الصهيونية، وبخاصة أسقاطاتها الوطنية وتبعاتها على مستوى حمية الأسرى وصحتهم من حيث إغراقهم بمأكولات معينة، كخبر الفصح "البيسح" على مدار موسم كامل! ومن بعد، يوضح الشنار، في "حواريات القيد"، الآليات الداخلية لصناعة القرار في صفوف الحركة الأسيرة، ومواجهتها لعائقين أساسيين، وهما: عدوانية إدارة السجون وعملها المتواصل على شق الصف الوطني وتوهين عراه؛ والانعكاس المرآوي لتناقضات الحركة الوطنية في الخارج على الحركة الأسيرة. وقد استمر هذا الواقع على حين التوصل إلى دستور الحركة الأسيرة وإفراز لجان هامة على مستوى السجون كافة أسهمت في قيادة الحركة الأسيرة وتوحيدها، بل وقيادتها في مرحلة متقدمة، في مثال "كوثيقة الأسرى" التي صدرت بعد انقلاب غزة.

بيان الخروج: عسقلان-نابلس ونبؤة الحرية

في الفصل الثالث من كتابه، يدرج الشنار أربع رسائل متفاوتة التاريخ والموضوع، أبرزها رسالته إلى والدته قبيل تحريره (وهي الرسالة المصورة أدناه والمرسلة منتصف العام 1984)، يخبرها فيها بقرب قدومه إلى نابلس (يعني إلى سجن جنيد)، وكأنه يستبطن حريته القادمة في عملية تبادل الجليل في 20 أيار 1985، ويدشن مقولة في استبطان الحرية كنهاية لتجربة الأسر الفاشية على يد قوات الاحتلال الصهيوني، نصها (بعد أن أسقط من الرسالة الأصلية فقرة واحدة تنتقد كامب ديفيد، والصلاة في القدس، في إشارة إلى زيارة السادات إلى فلسطين تحت حراب الاحتلال الصهيوني):

1

"والدتي الحبيبة، أنشر أشرعة القلب وأبحر إليك عبر موجات التحية والمحبة والغيوم الواعدة بالمطر الغزير. وبالنسبة لي، فإن مدينتنا وربوع وطننا هي دوماً ميناء القلب، وأنت والأعزاء مناراته ومراسيه ومناديله المشرعة. قريباً كما يشاع سننتقل إلى الجندي قريباً جداً من البيت، ويتوعدون أنه ينتظرنا بعد هذا الزمن الطويل بأنياب وشهية وحش خرافي، لكننا وقد عركتنا التجارب لم يعد هناك ما يخيفنا، بل وهناك فرحة تسري في الأعماق مردها العودة إلى هواء البلد وفضائه وتضاريسه المقترنة بالذكريات والعودة بحد ذاتها فأل خير، غير أنني لا أخفي عليكم، وأنا أقف على هذا المفترق ما أعيشه من مشاعر متناقضة، لقد شرشنا هنا، وأصبح لنا تاريخ طويل في عسقلان. عركنا عبره المكان والناس والطبيعة، وليس من السهل القول لتلك الروابط وداعاً. أترين كيف غرست في تربتنا النفسية، بمرور الزمن، شتى المشاعر المستغربة. هذا هو حال الحياة وتناقضاتها: حتى القبر يُحَبُّ في النهاية.

ملاكي الحبيب، المهم أن هذا الاحتمال القوي معول في أيدينا يعيننا على كسر الروتين القاتل واضعاً الواحد منا أمام إثارة عذرية التجربة الجديدة. ربما تمر فترة تطول أو تقصر قبل أن نزف لها فوق لوج الزواج القسري إلى أن تسعفنا الظروف، من يدري متى في الطلاق والتحرر من كل قسر والاندماج بحرية الحركة والفعل والمصير.

في هذا التدفق على قضبان الرسالة، تعبر الحاجة الوزنية أفق الذاكرة، وهي تعرج علينا مارة ببيدر أبو عثمان مكللة بجونتها المحتوية على البيض والتين، كما في السينما الصامتة ألمحها تتمتم وترسم شفاهها في الهواء كلمة دكتور، مصوبة نحوي، ضحكت وقلت: إن فألها الحسن لم يتحقق، لكنه لم يخب تماماً، فكل واحد منا يتحول إلى دكتور لأمر ما في نهاية المطاف.

أمي وحبنا الباقي، أثرت الاعتزاز، وبيضت وجهي بطريقة مواجهتك لحدث التبادل، ومشاركتك الغير فرحتهم بحرارة، وكأنها فرحتك بتحريري من الأسر، ومع أن الأمل بالتحرر من الأسر ما زال يلازمنا في كل حركة وسكنة وفي اليقظة وفي الحلم، فإننا الآن نمسك عصفور أمل حقيقي واحد في أيدينا، هو أن الطريق لزيارتي ستكون قريباً أقصر بكثير من الطريق إلى عسقلان، ولن تسرق منكم يوماً كاملاً وجهداً مرهقاً في كل مرة. وبالنسبة لي ولكم سنكون قريبين من بعض إلى درجة تمكنني من سماع دقات قلوبكم في هدأة الليل. إلى لقاء يوم الزيارة، وإلى حينه أحييك بإكبار، وأتمنى لك الصحة والعافية والعمر المديد العمر بالسعادة."