شبكة قدس الإخبارية

عائشة عودة: وظيفة أخرى للكف الجريحة

عبد الرحيم الشيخ

عائشة عودة: الكف والمخرز

ولدت عائشة عودة في قرية دير جرير التابعة إدارياً لمحافظة رام الله في العام 1944، وانتظمت في صفوف المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني بعد انتهاء حرب العام 1967 مباشرة. وقد اعتقلت في 1 آذار 1969 وحكمت عليها محكمة الاحتلال الصهيوني العسكرية بالسجن المؤبد. أمضت عودة عشر سنوات من محكوميتها في الأسر، ثم حررت في عملية النورس لتبادل الأسرى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 14 آذار 1979. وقد اشترطت إسرائيل إبعادها خارج فلسطين، فأقامت في الأردن حتى عودتها إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقية أوسلو وعودة كوارد منظمة التحرير الفلسطينية وتأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994. وهي عضو مجلس وطني فلسطيني منذ العام 1981.

وقد أنجزت عائشة عودة مجموعة من الكتابات التي تندرج في وصف "سنوات الرصاص الفلسطينية"، أهمها: أحلام بالحرية (رام الله: مواطن-المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2004)، وطبعة ثانية في العام 2007؛ "تجربة الكتابة" في: نوافذ في جدار الصمت: أصوات نساء في الانتفاضة (رام الله: مؤسسة عبد المحسن القطان ومؤسسة هنريش بل، 2005): 2027؛ يوم مختلف-قصص قصيرة (رام الله: دار الشروق للنشر والتوزيع، 2007)؛ "زمن العودة" في: عادلة العايدي-هنية (محررة).Palestine - Rien Ne Nous Manque Ici فلسطين لا ينقصنا شيء هنا (بروكسيل: روفو آه!، وباريس: سيركل دآر، 2008): 63-7؛ ثمناً للشمس (رام الله: مواطن-المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2012).

تشير عائشة إلى أربعة دوافع أسهمت، في نهاية المطاف في حملها على خوض تجربة الكتابة: الأول، تعثرها برواية "شرق المتوسط" للروائي عبد الرحمن منيف، والبون الشاسع الماثل بين تجربة الأسر لدى العدو الصهيوني وتجربة الاعتقال لدى الأنظمة العربية في مدن الملح الكثيرة على الرغم من رؤيتها للوجه الآخر لمعاناة الإنسان العربي؛ والثاني، إلحاح الكثير من رفاق السلاح والأصدقاء والأهل على ضرورة كتابة التجربة؛ والثالث، تحفيز الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله لها بضرورة تسجيل التجربة صوتياً، إن تعذَّرت الكتابة، وأن يقوم كاتب آخر بصياغتها كما ينبغي لها أن تكون؛ والرابع، وهو عتبة الكتابة وحافزها الأكبر، هو قراءة عائشة عودة لمدونة أحد المناضلين حول تجربته الاعتقالية والتي لم يرق الجزء المخصص لتجربة النساء في صفوف الحركة الأسيرة الفلسطينية. وقد كان ذلك، ربما، نابض الحركة الأكبر، وعتبة التحدي التي كسرت قلق البدء ورهبة الكتابة واستعصاء اللغة التي أوصلت عائشة عودة في لحظة ما إلى المستشفى.

2

تروى عائشة عودة كيف أسهم هذا التحدي في رميها في لجَّ الكتابة، والكآبة التي رافقتها، في كتابها الجزء الأول من تجربتها النضالية (أحلام بالحرية)، وتتندر بمفارقات التاريخ، والجغرافيا، التي تجعل من وصولها إلى مقر قناة الجزيرة في دوحة قطر (لتسجيل حلقة من برنامج "للنساء فقط" حول تجربتها النضالية) أيسر من وصولها من قريتها دير جرير، في أعالي طريق المعرجات، إلى أسفل الطريق في أريحا في أزمنة الاحتلال الصهيوني الغرائبية! هنا، تخض عائشة عودة ليلة العاشر من آذار 1969 بلفتة خاصة، وهي الليلة الأكثر حضوراً في كتابها الأول، كيف لا وهي ليلة الصمود والاعتراف، ليلة بلوغ الصراع بين إرادتين متعارضتين متصادمتين ومتلاحمتين ذروته، كما تدشن باقتدار كيف تعجز الكتابة، أحياناً، عن أداء وظيفتها الشفائية من ثقل التجربة.

عائشة عودة تقرر كتابة "أحلام بالحرية،" أو "الجزء الأول من تجربة اعتقال فتاة فلسطينية" كما يفيد العنوان الفرعي الذي لا يظهر إلا على صفحة الغلاف الداخلي. وتعود للكتابة "ربما لتأكيد أن تحويل التجربة العملية إلى وعي هو الأهم في التجربة ذاتها، لأنه زبدتها، ولأنه النسغ الذي يمنعها من الذبول والموت، ولأنه (وهذا الأهم) لا يسمح للآخر بالاستمرار في السيطرة على رواية التاريخ وتصنيعه بما يتناسب مع أيديولوجيته العنصرية. ولأنه لا بد من محاكمة المجرم على جرائمه، ولا تقادم في جرائم الحرب. ولأقول، أيضاً، إن الرجال ليسوا أفضل من النساء، وإن النساء لسن أقل من الرجال. وإن الوطن والمستقبل والحرية والكرامة مسؤولية الجميع. وإن الصمود مجد." (27).

ومع أن هذا الجزء من أوديستها النضالية كان الجزء التأسيسي والذي كسر حاجز كتابة التجربة، إلا إنها تورد، بالإضافة إليه، رواية تفصيلة مذهلة عن تجربتها النضالية في مقابلة حية في فلم "نساء في صراع" للمخرجة بثينة كنعان خوري الذي أنتج في العام 2004، عام صدور "أحلام بالحرية." وهو فلم يدشن ذاكرة أيام الثورة الفلسطينية، وبخاصة في العقود الثلاثة التالية لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وتشارك فيه كل من عائشة عودة، ورسمية عودة، وروضة بصير.

وفي حين تناول الجزء الأول-أحلام بالحرية تجربتي الاعتقال والتحقيق 1/3/1969 في ثمانية فصول، يتناول الجزء-ثمناً للشمس،استكمالاً للجزء الأول الذي بقي بلا نهاية منذ المحكمة التي أصدرت حكمها على عائشة عودة بمؤبدين وعشر سنوات-وحتى إطلاق سراحها في "عملية النورس" في 14/3/1979، وذلك في اثنين وثلاثين فصلاً.

aishehodeh2

وعلى ذلك، فإن كتاب عائشة عودة في جزئيه، وإن كان حول تجربتها النضالية، قبل السجن وفي السجن وبعده، إلا إنه كتاب في التاريخ الفلسطيني الحديث الذي يتمحور حول تجربتي الكفاح المسلح الفلسطيني وما يتلوها من أسر وإبعاد وعقوبات جماعية... كأحداث مفتاحية في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. وبالإضافة إلى القيمة التوثيقية لحقبة حرجة من التاريخ الفلسطيني التالي لنشوء منظمة التحرير الفلسطينية في عقد الستينيات، وصعودها في عقد السبعينيات، وتقهقرها في عقد الثمانينيات تمهيداً لانحلالهاالجزئي في جسم السلطة الفلسطينية في عقد التسعينيات وما بعده... تدخل عائشة عودة إلى حيز السجال قضايا على درجة هائلة من الأهمية، منها:

تأريخ تجربة المرأة في الثورة والحركة الأسيرة الفلسطينية، إذ تكسر عائشة عودة الاحتكار الكتابي في قول القصة الوطنية الفلسطينية. وتفعل ذلك عبر ابتعاد نصها عن التموُّض الكتابي (المرأة تكتب) في سياق استعماري، حيث تقلب المعادلة ولا تغدو المرأة وكتابتها وموقعها النضالي ترفاً "للثقافة الذكورية البيضاء،" لا محلياً ولا عالمياً، بل تتصدر موقعها "الطبيعي" لتنجز مهمتين: الأولى، كسر الاحتكار الذكوري لقول التجربة الاعتقالية والتجربة النضالية الفلسطينية؛والأخرى، كسر الاحتكار المديني الأرستقراطي لسرد سيرة الفداء الفلسطينية، أي إن هذا نوع من الكتابة لا يعتاش بالثورة أو عليها، ولا يقتات في النضال على قلبها، بل يروم كتابة الألم واستعادة الذاكرة دون الخضوع لسلَّميات السلطة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

تصف عائشة عودة لحظات إعلامها، من قبل أحد مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، باقتراب العودة، ووضع اسمها "ضمن القائمة التي قدمت للإسرائيليين من أجل العودة إلى الوطن." وعلى الرغم من منفاها القسري قرابة عقد ونصف من الزمن، إلا إنها تصف الانتظار بشعرية غير معهودة، إذ هي: "عائشة مجنونة تخضع لقوانينها هي، تصنع زمنها وتطلق عليه زمن الانتظار اللذيذ. يقولون أن الانتظار صعب. من الذي يقول أن الانتظار صعب؟ هؤلاء لم يعرفوا بعد، زمن الانتظار اللذيذ! أنا أعيش في انتظار لذيذ، رائع، بل أكثر من رائع! لم أكن أعد الأيام أو الأسابيع أو الأشهر التي كنت أعيشها في زمن الانتظار ذاك، هو زمن لذيذ وحسب، هو حقبة زمنية كاملة، أسميته زمن الانتظار اللذيذ." (64).

تكتمل الفرحة أو تكاد، وتجلس عائشة في المقعد الأول من الحافلة المتجهة على الجسر، وتقتطع الجغرافيا والذكريات في الكرامة، وتجتاز الجسر، وتتجاوزه، وتتحفز للقاء عيونها ذات النظرة الحربية بعيون الغاصبين لتغرز عيونها في عيونهم... لكن الانتظار يطول، ويخرج من حدِّ اللذة إلى حدِّ الألم: "... تجاوزت الساعة الواحدة بعد الظهر وما زلنا ننتظر. الانتظار الآن لا ينتسب الى زمن الانتظار اللذيذ. هو انتظار آخر له طعم آسن ورائحة الكبريت. تم استدعائي. جلس أحدهم خلف المكتب، رسم على وجهه ابتسامة أعرفها من رجال التحقيق في أقبية التحقيق. جلس في الجوار منه آخر يرقب الحركات والتعابير كما يفعل طير جارح في متابعة فريسته. جلست على المقعد المعد للفريسة. انطلقت الأسئلة الكثيرة تحاصر حتى النوم وأحلامه. أخيراً، سُلّمت ورقة تحمل رقما تسمح لي أن أكون من العائدين، خرجت أمسك بالورقة بيديّ الإثنتين، كما لو أخشى أن تطير مني، بينما تراءى لي ظلال حذاء الاحتلال الكبير يظلل عودتنا، والسلام الذي رقص قلبي له، خالٍ من الطعم والرائحة. قلت: لا بأس، سأكون الآن في وطني. لم أعد ضيفة عند أحد يُنتظر رحيلها بفارغ الصبر. وقفنا في صف، كي يختم رجال الشرطة الفلسطينية الذين أصبحوا متواجدون على الجسر (زورا) حسب اتفاق السلام جوازات سفرنا، فجأة، هجم الجنود وصادروا ورقتي، معلنين أن خطأ وقع بشأني، فهناك قرار بإبعادي منذ عام 1979 وأن هذا القرار ما زال ساريا المفعول!

-ألسنا في عملية سلام؟

- هذا شيء آخر.

-ولكني وصلت هنا بموافقتكم وليس تسللا! كل الجهود والاعتراضات والحوارات لم تغيّر شيئا وكان لا بد من العودة الى عمان في انتظار قرار جديد."

عادت عائشة، بلا عودة، إلى عمان، ولم تمكن دخول فلسطين إلا بعد خمسة أسهر، و"بتصريح زيارة" لأخيها الذي أدخل غرفة الإنعاش في إحدى مستشفيات القدس. لكنها عادت والمفارقة تخنق فيها تذكَّر لحظتين: رجوعها (الذي لا "عودة" فيه) من منفى عمان إلى القدس لرؤية أخيها في غرفة الإنعاش في العام 1994، وعودتها من زيارة لأخيها المبعد في عمان في العام 1968! يتحقق الرجوع، وتزداد العودة بعداً، لكن القدس لن تزال مكانها، والقرى، والشوارع وإن تغيرت أسماؤها... لكن طارئ الاستيطان هو أكثر من يشوش مرمى البصر بين القدس وتل العاصور، إذ الاستيطان، بالنسبة لها، وجود يصادر وجود الفلسطينيين أمام نواظرهم بينما ترفع شعارات السلام: "كانت المستوطنات تطاردني كجني، أينما أتجول، وكيفما ذهبت، يسيطر وجود المستوطنات على قمم الجبال، وكان يطرح سؤلاً وجودياً: هناك صراع وجودي بين وجودين على هذه الأرض. ماذا ستكون نتيجة الصراع؟"

 قد يتعجل المرء في الإجابة على سؤال صراح الوجود حين يلجأ إلى منطق التحليل السياسي أو العسكري أو حتى الثقافي، لكن عائشة عودة لجأت إلى منطق الغناء، والفرح، لتحسم الإجابة في سياسات البقاء وسياسات العبور بين الشعب الفلسطيني والصهاينة. فقالت: "في أول سهرة عرس حضرتها في القرية، بعد غياب قسري استمر ربع قرن، انبثقت لحظة وعي مناقضة. نصبت الأضواء في الساحة أمام علالي دار نوح - وهي بيوت قديمة إضيفت إليها العلالي مع بداية القرن العشرين وحدثت مع نهاية ذات القرن- لبست النساء أجمل ثيابهن الفلسطينية بعد أن أدخلن عليها ذوقهن وطموحاتهن. تحلقت الصبايا في حلقات متداخلة وهن يتمايلن ويدبكن على أنغام أغانيهن الشعبية المشرشة في ذائقتي الفنية، والى جانبهن، نصب الشباب مسرحا للدبكة وراحوا يطيرون أجسادهم في الهواء على أنغام الشبابة واليرغول، بينما تقافز الأطفال من بين ومن حول الدابكين والدابكات فرحين ومشاركين في الغناء والرقص. نظرت إلى الشرق، فلاحت أضواء مستوطنة ريمونيم في البعيد، لحظتها، رأى وعيي بوابتها الإلكترونية وأسلاكها الشائكة المحيطة، ورأيت الخوف والرعب والحقد في قلوب مستوطنيها. وعدت لأنظر إلى قريتنا التي لم تكن شوارعها قد أضيأت بالكهرباء بعد، لكني رأيت فرحها يضيء سماءها، ورأيت انفتاحها كما السماء، ولم ألمح خوفا يسكن القلوب. رأيت الناس في القرية هم الأصل والتاريخ والحاضر والمستقبل. حركت الرؤية كوامني، فقمت وانضممت إلى حلقة الدبكة وضربت قدمي في الأرض وكنت أردد " هنا لنا ماضٍ وحاضر ومستقبل" ونظرت إلى المستوطنة وقلت: أما أنتم فعابرون." (76).

بيان: الجنون كوصفة للمقاومة

5

في واحدة من أكثف قصصها القصيرة في كتابها "يوم مختلف"، بعنوان: "جنون،" تدشن عائشة عودة طرائقية مذهلة في استثمار المآسي الفردية والتراجيديات الجماعية للكم الظالم وردعه. تقول القصة: "كانت صغيرة حين جُرِحت كفها، أطبقوا الكف ولفُّوه، ثم حذروها من فتحه لأنه كفيل بتسميمها، ومن الخير لها أن تبقيه مطبقاً، كي لا تجرح ثانيةً. أمسكت كفها مطبقة، ولخوفها من احتمال فتحه أثناء نومها أو في غفلتها، أحكمت لفه مطبقاً، ثم راحت تنمو دون أن تفطن إلى كفها المطبقة! ذات مرة، فرحت وأرادت أن تصفق، فلم تستطع، ذلك ان كفاً لها نسي نفسه وشكله وعمله مثلما نسيته هي. بكت كثيراً، وراحت تتساءل باستمرار عن الكف المطبقة. قالوا لها إن عليها أن تفرح لأنه دليل على أن الله يحبها. فرحت لأن الله يحبها، لكن بكاءها تابع مسيرته كلما فرحت وعجزت عن التصفيق.

ذات مرة، تساءلت: كيف يحبني الله، بينما يمنعني من الفرح؟ نظروا إلى بعضهم، وتفاهموا بالعيون، وأجابوا: لأن التصفيق رذيلة؟ استغربت من قولهم، وصرخت: لكنكم تصفقون، وتفرحون؟ ارتبكوا وأدركوا الأشعة الخطرة التي انبعثت من تساؤلاتها. حينئذ، صرخوا محذرين ومهددين! فتلك أسئلة تقع في المحظور، وتتعدى كل ما هو مسموح! استمروا يصرخون ويحذرون حتى كفت عن إطلاق تساؤلاتها وأقوالها. اطمأنوا بأن قناعة قد تولدت عندها تؤكد أن التصفيق رذيلة، وان الأسئلة المحظورة لم تعج تطل من رأسها. أما هي، فداومت على البكاء حتى عجزت عنه. عندها عادت إلى الصراخ: لماذا هذا العجز عن التصفيق وعن البكاء؟ تفاجئوا بعدم نسيانها، ولم يحاولوا الإجابة، ذلك أن أحداً لك يستطع وقف صراخها أو تساؤلاتها. دهنوا أقوالهم بطلاء من الشفقة، وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله. إنها مجنونة... أما هي، فقد كفت عن الصراخ حين اكتشفت وظيفة جديدة لكفها المطبقة."