شبكة قدس الإخبارية

زُفَّ إليها على نعشٍ.. رغد ومحمد قصة حب أطلق الاحتلال النار عليها    

269855970_919564982077376_7731462005475561452_n
يحيى اليعقوبي

فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: أظلمت الدنيا في داخلها وتلاشت كل ألوان الفرح، تكبلها أغلال الرهبة والخوف، تتهاوى في بحر القلق، وترتجف أركانها، ما إن دوت رسالة هاتفية أرسلها خطيبها محمد كانت بكلمة واحدةٍ "يا عمري!".. كأنَّها سمعت مناداة قلبه لها، فعاودت للاتصال به عدة مرات لكنه لم يرد، ترمق شقيقها بنظرةٍ استغراب، تتعجب من صمته ووجهه الشاحب: "محمد صايرله إشي؟"، حاول إخفاء الإجابة أو تأخيرها على الأقل: "لا لا تخافيش"، - "خلينا ننتظر"، – "يعني صايرله شيء؟ إحكي مشان الله؟"، – "مصاب"، كلها أصوات حوارات بين رغد التي أوقدت شموع خوفها، وشقيقها الذي يرسل نفحات أمل باردة على قلبها.

حملتها قدماها نحو المستشفى برام الله برفقة والدتها، لم تصدق أن خطيبها محمد الذي رافقها طوال اليوم (الأربعاء، 22 ديسمبر 2021) وأوصلها لمنزلها قبل ساعة من الرسالة، مصاب، كانت خائرة العزيمة، يقيدها اليأس، مثل جندي أوشك رفع راية الاستسلام قبل أن تبدأ معركتها مع الحزن، تحولت عيناها إلى شمعة تسكبُ دموعها. 

لم تنتظر وصول السيارة باب المستشفى ما إن اخترقت أذنيها أصواتٌ تجاوزت جدران المستشفى: "يا أم الشهيد نيالك.. يا ريت أمي بدالك"، نزلت من السيارة تركض نحو المشيعين، صمتت وتصلبت في مكانها، عم وجهها الظلام، على وقع صوت هدير أنفاسها المتقاطعة كما نبضات قلبها هنا!، وهي ترى محمد محمولاً على أكتاف الشباب.

محمد عباس ابن الستة وعشرين عامًا من مخيم الأمعري برام الله، ورغد لولو التي تصغره بخمس سنوات، خطيبان كانا يستعدان لمراسم زفافهما في يونيو/ حزيران القادم، أو في يوم ميلاده في الثامن عشر من مارس/ آذار، وبين فرحة ارتباط القلبين، ولهفة الشوق للعيش تحت سقف بيتٍ واحدٍ انتهى محمد من تشييده في اليوم الذي رحل فيه، اغتال الاحتلال قصة حبهما قبل أن تكتمل.

في فلسطين طقوس الفرح والحزن تتداخل وتختلف، فأحيانًا يكون الفرح أصعب من الحزن ذاته، فبدلاً من أن تزف رغد إلى عريسها، وجدت نفسها تنظرُ إليه مسجى أمامها، ممددًا بعدما سكنت نبضاته، وتجمدت الحياة في قلبها، يلتف بالكفن والورود وعلم فلسطين، تودعه إلى ديارٍ غير ديارنا في لحظةٍ تساقطت دموعها الدافئة على وجهه.

في غمرة الحزن، خرجت رغد مثل العنقاء تنفض رماد الفقد والاستسلام  عن نفسها، رافعةً راية التحدي لتروي قصتها للعالم، تبدأ من آخر يوم جمعها مع محمد، في الأثناء كانت "قدس" تحسن الإنصات لتنقل إليكم ما باحت به: "جاءني في يوم الثلاثاء؛ وكان طلبه مفاجئًا: "تعالي نشوف مواصفات حور العين" ثم تصفح محرك البحث "Google"، وقال لي: مكتوب أن عيونهنّ كبار ومكحلات، ثم خشي أن أغار من كلامه فأبرقت عيناه نظرة حانية: وأنتِ كمان عيونكِ حلوة .. بدي إياكِ بالدنيا والآخرة".

ينبعث من هاتف محمد صوت الأنشودة وكأنه يعزفُ لحن الفراق: "قمري الشهيد.. عمري الوحيد .. حضن الردى بعد الصمود .. ومضى إلى دار الخلود"؛ كسرت رغد صمتها: "ليش بتحكي عن الموت؛ خلص غير السيرة"، ثم طوقها بذراعيه وضمها بقوة وابتسامةٍ رقراقة.

لمة عائلية

"يوم الأربعاء، كنت مدعوةً عند أهله في لمة عائلية حضرها أخوتها وأخواته، وجلسنا مع العائلة وتناولنا طعام الغداء، وفي هذا اليوم استلم مفتاح شقته بعد أن اكتملت عملية ترميمها من الطلاء والجبس والأثاث الذي اخترناه معًا قطعةً قطعة، عندما كنا نخرج معًا لاختياره أو أرسل له الصور لننتقي أجمل الأشياء ونتشاور في الاختيار، ولشدة غيرته عليَّ قام بتصوير الشقة بهاتفه لوجود العمال فيها، وكان سعيدًا وهو يشاهد المقطع المرئي وقال معبرًا عن فرحته: الدار طلعت بتجنن.. هانت يا عمري قربت".

لا زالت دمعتها حائرة بين السقوط والبقاء حبسية جفنيها اللذان انهكهما السهر والحزن والتعب، تحاول التماسك على الطرف الآخر من الهاتف تنتقل لمحطة أخرى من تفاصيل اليوم الأخير "ذهبنا لشراء ملابس له، وفي الطريق فتح المذياع على أغنية (حبنا حتى الموت) وهو بالعادة يستمع للأغنيات الوطنية".

- مش مودك هالأغنية!؟

-  هيك حسيت بتعبر عنا

- طيب نفسي أسوق السيارة؟

- لو الدنيا مش شتا كان خليتك تسوقي  

-  أووه!!.. أكيد؟

- ههه؛ طبعًا.

تضع النقطة نهاية السطر في آخر لحظةٍ جمعتهما، تطأ عتبة البوح فمها "اشترينا ثلاث سترات اخترناها معًا، يريد إهداء واحدة لشقيقه، وأوصلني إلى بيتي وطلبت منه القيادة بحذر بسبب إمكانية انزلاق عجلات السيارة، فطمأنني: "تخافيش ما بسرع بالشتا" بس بدي أروح على أصحابي بدوار الأمعري ثم ابتسم كعادته وكانت آخر شيء رأيته فيه".

أمضى محمد الذي يعمل بتجارة السيارات والموبيليا،  ثلاث سنوات في سجون الاحتلال، وبعد أربعة أشهر من تحرره عقد قرانه على رغد في 18 إبريل/ نيسان 2021، على مدار أشهرٍ جهز الخطيبان شقتهما، تقول رغد، إنه تأثر باستشهاد صديقه أحمد أبو الفهد قبل عام، ودائمًا ما كان يضع صوره بين الشهداء، "ليش بتحط صورك بينهم!؟" كان هذا سؤالها له، ثم يكتفي بالإجابة "خلص بحب هيك".

تزرع في حضن الألم دمعةً "كأني أعيش حلمًا أريد الخروج منه، اغتالوا فرحتي، وكل شيء جميل في حياتي، اخترقت رصاصاتهم قلبي قبل أن تصل لمحمد، برحيله انطفأ وهج الفرح وكل شيء أملكه، كان أطيب وأحن شخص رأيته، شاب خلوق يحب الجميع كان يكره ذكر الآخرين في غيابهم، دائمًا ما كان يناديني: "يا عمري" فكان هذا لقبي عنده، يحاول تعويضي عن فقدي لأبي قبل سبع سنوات، واليوم أفقد خطيبي .. حسبي الله ونعم الوكيل". 

يطفو صوتها مرة أخرى من بقايا حطام الفقد "طلبت منه إقامة مراسم الزفاف في مارس القادم تحديدًا في يوم ميلاده في الثامن عشر من الشهر ذاته، خشية تطور الأحداث، لكنه قال لي إن ترتيباته للزفاف قد لا تكون مكتملة في هذا الشهر، وسمعت أنه كان سيفاجئني بإقامة الفرح كما تمنيت ، في  آخر أيامه رأى في منامه أن خاتم خطوبته حدث له شيء ما وكانت علامةً على شيءٍ لم نعرفه".

إعدام بدم بارد

 شقيقه نادر يفند روايات الاحتلال التي ادعى فيها أن محمد أطلق الرصاص على قوة احتياط لجيش الاحتلال كانت تحرس مستوطنة "بسجوت" القريبة من رام الله، ونفى أن يكون محمد قد خاض اشتباكًا مع قوات الاحتلال.

يذكر، أن قوات الاحتلال اتهمت الشهيد محمد عباس، بتنفيذ عملية إطلاق نار صوب قوة تابعة لها بالقرب من مستوطنة "بسجوت" المقاومة على أراضي الفلسطينيين في رام الله. وأكد شهود عيان أن قوة تابعة للاحتلال الإسرائيلي، داهمت مدخل مخيم الأمعري، وأطلقت النار على مركبة فلسطينية لاحقا لعملية إطلاق النار، ما أدى لاستشهاد الشاب عباس بعد إصابته بالرصاص الحي.

وقال نادر بصوت بدى غاضبًا: "الاحتلال يريد تبرير قتل شاب بعمر الورد، قتلوه بدون أي ذنب؟ لم يكن بحوزته أي سلاح، حتى أن المركبة التي كان يلاحقها الاحتلال ويطاردها بعد الاشتباه بإطلاق النار على المستوطنة من نوع (هونداي توسان) بينما كان يجلس أخي في (جيب مازدا) متوقفًا عند دوار الأمعري مع صديقيه وكان يجلس بالمقعد الخلفي بعدما تناولوا الحلوى التي وعدهم بها أخي لبيعه سيارةً وتحقيق مربح فيها، فكيف يفتح الجنود النار على الجيب؟، وكان بإمكان جنوده تفتيش السيارة والتأكد ممن بداخلها".

 في هذه اللحظة فتح جنود الاحتلال الذين هم على استعداد دوما لقتل كل ما هو فلسطيني ينبض بالحياة، النار على المركبة من الخلف لمجرد الاشتباه كما يفعلون مع المئات من أبناء الشعب الفلسطيني،  وأصابت واحدة العمود الفقري لمحمد،  استغاث أصدقاؤه: "كأني تصاوبت" أحدهم لم يصدق "شكلك بتمزح" قبل أن يلتفت للخلف ويرى ملامح صديقه تتغير ويفقد الوعي، فوضع يده على ظهر ليسحبها مليئة بالدماء.

 صاحب الوجه المدور  واللحية الشبابية السوداء، أنيق الحلاقة، عيناه الواسعتان مليئة بنظرات الحب، وبالحياة، والأمل، أما قلبه فقد اتسع لقصة حبه مع رغد.

 يتمتع بجسدٍ رياضي، ويمارس لعبة كمال الأجسام، في مقطع مرئي بصالة الألعاب الرياضية صوره صديقه، تحدى محمد نفسه ورفع وزنًا ثقيلا يصل إلى 220 كغم على ثلاث مرات، تعالت معها صيحات أصدقائه: "وحش.. عباس".

رغد التي كانت سعيدة وهي تسجل مقطعًا مرئيًا، داخل السيارة التي كان يقودها محمد متفاعلةً مع كلمات مسجل الصوت المنبعث من السيارة "أنا كلي فيكَ، وكلكَ لي.. أودعتك روحي مع قلبي .. ما عاد ليكفيني حبي .. ما عاد سوى طيفك جنبي"، وجدت نفسها تقف أمامه في لحظةٍ اختلفت فيها المراسم وتبدلت، هذه المرة زفَّت العروس خطيبها لعروسٍ أخرى في أقسى تجليات الفقد  "عروستك حور العين يا عمري .. إلك قصر في الجنة بدل دارنا يا روحي". 

#إسرائيل #شهيد #احتلال #جيش_الاحتلال #رام_الله #اشتباك #غعدام