شبكة قدس الإخبارية

تقرير تنازل عن حلمه وأقام مراسم رحيل "مشفرة".. الشهيد عمر أبو عصب ورسائله المكتوبة

259367234_861280414562778_512446880635459060_n
يحيى اليعقوبي

فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: صدى رنين رسالة هاتفية دوت بقلبها وغيّر ملامحها وهي تقرأ كلمات يحزم فيها ابنها عمر حقائب الرحيل "يما يا حبيبتي بعرف أن هذه آخر رسالة مني بس بدي أحكيلك شغلة، أنه أنا بحبك وبتمنى ترضي علي وتسامحيني!.. ديري بالك على حالك منيح؛ يما وادعي الله يقبل شهادتي وأكون شهيدًا".

ترسم دموعها خطًا ممتدًا من عينيها لأسفل وجهها، تواصل قراءة الرسالة الأولى من مجموعة رسائل أخيرة أرسلها عمر لكل أفراد عائلته في آنٍ واحد "اتذكريني بالخير يما، وإحكي لأبوي إني بحبه بس خلص الحياة أوقات، وإن شاء الله يكون أبو الشهيد.. افتخروا بهالاسم".

والده باهت الملامح يقرأ رسالة خصها عمر إليه "يابا يا حبيبي يا تاج راسي، أنت أدرى فيَّ وأعلم بمستقبلي وكل شيء صار منك حلو يابا دير بالك على حالك وعلى خواتي"، يحدق بزوجته بعينين مملوءتين ريبةً ونظرات متصلبة تبادله النظرات ذاتها، ينظران مطولاً لبعضهما، يحاولان الاتصال مجددًا، يرسلان رسائل هاتفيه له يطلبان منه العدول عن مغادرة الحياة، فهما لم يشبعا منه ولم يحققا أحلامًا تعاهدا على مساندته فيها، وأي أب وأم يمكنهما استيعاب ذلك!. 

قبل تلك الرسائل، قطعت مكالمة هاتفية من تالا (13 سنة) الطريق على والديها للوصول للعيادة بدت فيها مرتجفة وخائفة "بابا.. عمر طلع، ما بعرف وين، وأنا خايفة لوحدي"، فأوقف سيارته واتصل بابنه لكن لم تكن هناك استجابة، حينما خرجا لإجراء فحص للعيون لاستكمال حصول زوجته على رخصة قيادة مركبة، وبقي عمر مع اخته تالا في المنزل يوم الأربعاء (17 نوفمبر/ تشرين ثاني 2021).

عمر أبو عصب، فتى لم يزد ربيع عمره عن ستة عشر عامًا ونصف، يدرس بالمرحلة الثانوية (حادي عشر) ويسكن ببلدة العيسوية بمدينة القدس المحتلة، يتهمه الاحتلال بتنفيذ عملية طعن، أفاق على الدنيا وهو يرى جرح القدس النازف، وهدم بيت خاله ثلاث مرات، اعتقال أولاد عمه مرارًا، ملاحقة إسرائيلية للعائلة في وضح النهار وفي جوف الليل كبرت همومه وهو الذي لم يعش بعد طفولته، فقرر رد بعض الدين للاحتلال ليخمد نيران ثورة مشتعلة بداخله، تنزف روحه على بوابات الأقصى برصاص قوات الاحتلال.

تتصل بوالد الشهيد لتعزيه في مصابه الجلل لتواسي جراحه وتسأل الله أن يلهمه الصبر والسلوان، فيرفض التعزية  مرتديًا ثوب الثبات بأبهى حلة صمود أمام انكسار القلب ووجع الفراق: "ما تعزيني.. هنيني أنا والد شهيد أكرمني الله بعريس، قلي مبروك!"، قد تتعجب من ثباته وتلك الكلمات التي تخرج من قلب مكلوم، تتعجب من هدوء أحزان مستسلمة للقدر، ممتثلة لحكمه، مؤمنة به، صابرًا على فراق فلذة كبده، سعيدًا بما فعل نجله الفتى "والله بفتخر بابني عمر وهو بضرب المجندة بالسكين".

رسائل أخيرة

تستمع "قدس الإخبارية" من والده إلى بقية التفاصيل حينما أرسل الرسائل "لم يرد على مكالماتي، فبحثت عن موقع تواجد هاتفه، فأشار إلى أنه في الأقصى وهنا لم تذهب شكوكي بعيدًا وطمأنت والدته: الحمد لله إنه في الأقصى، بجوز بس يخلص صلاة يرد علينا كما أنني توقعت أن تكون الرسائل مجرد مزاح، لكن عدت للبيت وفي الطريق سمعنا عن وجود حدث بالأقصى، وعندما وصلت العيسوية رأيت قوات شرطة وجنود الاحتلال تملأ البلدة تحديدا أمام منزلي".

صادر جنود الاحتلال هاتف عمر وكل شيء يخصه، فتشوا غرفته تفتيشًا دقيقًا، قلبوا أثاث البيت رأسًا على عقب، "أخذوني معهم إلى التحقيق وهناك فتح ضباط التحقيق هاتفه واطلعوا على الرسائل التي أرسلها لنا قبل استشهاده".

في التحقيق عرض الضابط فيديو لما أسماه "مكان العملية التي نفذها عمر"، كلمات الفخر ترافق صوت والده خرجت بعفوية: "ما شاء الله عليه ربنا يحميه، كان ماكل أربع رصاصات وهو قاعد بضرب الجندية بالسكين، فرحت على ابني واللي عمله شيء برفع الرأس، إنك تشوف ولد إنت مربيه لساته طفل يعمل هيك فهذا فخر واعتزاز".

"الفيديو المنتشر عبر الإنترنت مستقطع لأنني رأيت المشهد كاملا، رأيت عمر وقد طعن جنديا وأسقطه أرضًا ثم انهال على المستوطنة بالسكين لكن سرعان ما استعاد الجندي وعيه وقام بغدره بالرصاصات التي أفرغها على جسده" ينقل ما شاهده.

مشاهد غذَّت ثورته

مشاهد وجرائم عديدة ارتكبها الاحتلال غذَّت روح الثأر في داخل عمر، وأوقدت نيران الثورة وأشعلت براكين الغضب، يتوقف والده مطولا عند أبشعها: "لم يرق له اعتداء الاحتلال على بيت عمه وضرب جنوده لأبناء العائلة، ومعاناة بلدة العيسوية من سياسة الاحتلال والتي تعتبر نموذجًا مصغرًا لما يجري بغزة".

عاصر عمر اعتداءات الاحتلال على بيت خاله حاتم أبو ريالة والذي هدمه ثلاث مرات، كان يرى دموع الحسرة في عين خاله وعائلته، وكانت والدته تلمح شرارة الغضب توقد نارها في عينيه وهو يتوعد الاحتلال أمامها "والله لأخليك أم شهيد.. والله" جملة كررها كثيرًا، وقبل يومين من استشهاده تأثر باعتداء الاحتلال على فلاحة مسنة بالبلدة.

تمنى عمر أن يصبح طاهيا مثل والده، في فم والده كلام كثير عن هذا الحلم يبح به لنا: "في أوقات العطلة المدرسية كنت أصطحبه معي كوني أعمل شيفًا في إحدى المطاعم، ويعمل أيضًا معي شقيقه الأكبر منه، فتعلق بهذه المهنة حتى أنه كان رفيق والدته في المطبخ يساعدها في إعداد الطعام في المنزل فأصبح ذلك حلمًا له".

للسكين التي افتقدت من المنزل وشاهدها والده عبر مقطع الفيديو قصة يزيح الستار عن كواليسها قائلا: "أخذته معي في وقفة العيد وذهبنا للخليل واشترينا ملابس العيد، زرنا أبناء عمه وعرفته عليهم، وأثناء عودتنا توقفنا عند محل يبيع مستلزمات منزلية، فتناول سكينًا ولكي لا أشك فيه اشترى معها ميداليات وأساور وإكسسوارات، فاعتقدت أنه سيستخدمها لتقطيع الطماطم وآخر ما كنت أفكر به أن يطعن بها جنود الاحتلال".

لم يمض عمر يومه الأخير بلا بصمة منه، فقد أقام مراسم وداع لكل من عرفهم، في مدرسته وزع حلوى الحلقوم على أبناء صفه "بدون مناسبة"، هكذا قال لهم في رسالته التي لم يفهموها إلا بعد استشهاده، قام بتسجيل "مغادرة" من مجموعة الفصل على تطبيق "واتس آب" طالبًا من زملائه مسامحته، عاد إلى البيت وجلس على سريره وحضّر دروسه، وكأنَّه يتم آخر واجب عليه، مستعدًا للدرس الأكبر الذي نجح فيه بالعلامة الكاملة.

غادر فتى القدس الحياة وترك لوالده ضحكة وطيف ذكريات كثيرة تطير مع أجنحة الذكريات في كل أرجاء المنزل، مناغشته لوالده تقفز في ختام حديث الأب مع "قدس الإخبارية": "كان يناديني أبو حسين، لشدة قربه ومزاحه معي ومع والدته فكان دائم الملازمة لها، جميع أفراد العائلة كانوا يحبونه، أذكر حينما كنا نشارك في هبة البوابات الإلكترونية وعشنا لحظات صعبة كنت أصطحبه معي حتى انتصرنا على الاحتلال، وبالتزامن كانت الشخصية الوطنية تتكون بداخله".

#القدس #طعن #عملية #شهيد #احتلال #العيسوية #عمر_أبو_عصب