شبكة قدس الإخبارية

لماذا انفجر العنف الاجتماعي في فلسطين؟

253447936_294325532554368_2437355398447088278_n

فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: تمر فلسطين منذ سنوات بأزمة تقترب من ما يشبه "الانفجار الاجتماعي"، تزداد حدته يومياً، مع تردي الأوضاع الاقتصادية وغياب الهيئات السياسية التي قادت العمل الفلسطيني طوال عقود، واستطاعت إلى حد ما ضبط المشهد الاجتماعي وتقليل التناقضات الفئوية والعائلية، لصالح العمل الجماعي في وجه الاحتلال.

خلال الأيام الماضية، عادت مشاهد الشجار العائلي في الخليل لتصدر الأحداث في فلسطين، حيث إحراق المحلات التجارية وتبادل إطلاق النار وغياب للأمان، تزامناً مع جرائم إطلاق نار لم تتوقف في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وامتدت أحداث العنف إلى الحرم الجامعي في عدة جامعات بالضفة المحتلة، وسط استعراض لا ينتهي لسلاح العائلات والميلشيات في مقابل الملاحقة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية للسلاح المقاوم، وهو ما يدفع للسؤال عن أسباب الاحتقان الاجتماعي الذي ينفجر كل فترة بأشكال مختلفة، وعن دور الاحتلال والسلطات الحاكمة والمؤسسات التربوية والظروف الاقتصادية في زيادة تأجيجه.

وأكدت المحاضرة في جامعة بيرزيت، رلى أبو دحو أن الأحداث الأخيرة تشير إلى "احتقان اجتماعي ينفجر"، وأوضحت: "إذا راقبنا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغياب أي تطورات سياسية جديدة، في الوقت الذي يزيد قمع الاحتلال، والملاحقة لنشطاء الداخل المحتل ومخططات تهجير الفلسطينيين من منازلهم في يافا وغيرها، والضغط على الحريات ومنع التعبير عن الرأي وغياب أفق سياسي جديد حتى على مستوى انتخابات، كل هذا يؤدي لاحتقان مستمر وضغط للناس".

وأضافت في حديث مع "شبكة قدس": "الناس صبرت على أمل أن يحدث تغيير، لكن للأسف الظروف تزداد صعوبة يومياً، وهذا ما يجري الأوضاع قابلة للانفجار على أتفه الأسباب، شجار صغير بين شابين قد يؤدي للقتل".

واعتبرت الباحثة في العلوم الاجتماعية أن آلية إدارة الأزمات الاجتماعية "تزيد الأمور سوءاً"، وأضافت: "الوسائل التي تتعاطى فيها العشائر والسلطة، وغياب الوسائل القانونية تزيد من انفجار الوضع".

وأكدت على أن الاحتلال يغذي هذه الصراعات، وأشارت إلى ما يجري في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 من خلال نشر السلاح والمخدرات وزيادة الضغوط الاقتصادية على الفلسطينيين.

وأوضحت: "القاعدة الاستعمارية واضحة منذ القدم: فرق تسد، كل الشعوب التي عانت من الاستعمار عاشت نفس هذه السياسة، محاولة زرع الخلاف بين جماهير شعبنا هي مهمة الاحتلال، بوسائل مختلفة، عبر زيادة التقسيم الجغرافي ومنح فئات امتيازات على حساب فئات أخرى، تقسيم مناطق الخليل وتغول الاستيطان فيها، والسماح بالسلاح في مناطق وملاحقته في مواقع أخرى".

وأشارت أبو دحو إلى السياسات التي وصفتها ب"العنصرية" التي يمارسها الاحتلال بحق الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948، وقالت: "سياسات تهميش المناطق الفلسطينية وحرمانهم من التعليم والفرص الاقتصادية وملاحقة النشطاء تخلق أزمات اجتماعية"، واعتبرت أن الاحتلال يحاول "استعادة دور الإدارة المدنية" في الضفة المحتلة.

وقالت: "في المقابل نرى كيف تحارب السلطة لحرية الرأي والتعبير، وآخرها اغتيال المناضل نزار بنات والقمع الذي تعرضت له المسيرات في الشارع، كل هذه السياسات تجعل الناس كأنهم بين كماشة وتزيد من الاحتقان".

وأكدت أن على المجتمع الفلسطيني "التقدم لحل هذه الأزمات وضبطها، وتهيئة ظروف قادرة على معالجتها بطرق مختلفة، ورفض الانسياق للحلول العشائرية والعائلية".

وعن التناقض الذي تشير له فئات كثير في المجتمع حول الدور المتزايد للعشائر خاصة في جنوب الخليل وتداخل مصالح بعضها من السلطة التي ترفع شعار "تطبيق القانون"، ترى أبو دحو أن "السلطة والعشائر مستفيدة من الأوضاع الحالية، وربما لها مصالح مشتركة غير معلنة، إذا تابعنا الأحداث في منطقة الخليل وتعاطي العشائر مع القضايا الاجتماعية المختلفة مثل قتل النساء والضمان الاجتماعي وغيره، إذا وجدت سلطة فيجب أن يوجد القانون".

وتابعت: "العشائر في منطقة الخليل أخذت دوراً ليس لها، بعض شخصيات العشائر مرتبطة بالإدارة المدنية، وهنا نسأل كيف أخذت هذه الشخصيات قوتها ومن أين لها السلاح؟، السلطة لو كانت معنية بالحل منذ البداية فهي قادرة على ذلك، وأخفقت في حل الصراعات الداخلية فيها، والناس تدفع الثمن في هذه الصراعات، وهذا ما يجب أن نتوقف أمامه جدياً، لا يستقيم أن تقول أنني أريد مجتمعاً مدنياً وسيادة القانون وتترك للعشائر أن تتصرف كيف تشاء".

واعتبرت أن "مفهوم الجاهات والحلول العشائرية شكل من أشكال الارتزاق لبعض الشخصيات، بعضهم يستفيد مالياً من هذه الحلول بالإضافة للمكانة الاجتماعية، لذلك ربما يكونوا معنيين بتأجيج الأوضاع لأنها مصدر رزق لهم، وهذا يجب أن نقف أمامه جدياً وللأسف بعض الأهالي الذين يقعون تحت سيف هذه الحلول غير قادرين على رفع صوتهم".

وفي سياق متصل، أكدت أبو دحو أن محاربة التنظيمات والحياة السياسية لها دور في انفجار العنف الاجتماعي، وأوضحت: "من خلال تجربتنا السياسية كان للتنظيمات ولجان العمل الشعبي والأهلي دور في حل المشاكل بطرق تكافلي وأخوي، وخلق قيم التضامن، لم نكن نعرف هذا العنف المجتمعي الذي نعيشه اليوم".

وأشارت إلى "التراجع الذي أصاب التنظيمات بعد اتفاقية "أوسلو"، والملاحقة الأمنية سواء من السلطة والاحتلال لكثير من الفصائل صاحبة الأصوات النقدية والمقاومة".

وقالت: "في السنوات الأخيرة معظم نشطاء الفصائل تعرضوا للاعتقال سواء لدى الاحتلال والسلطة، الناشط باسل الأعرج تعرض للاغتيال بفعل التنسيق الأمني والملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية في الجانبين".

واعتبرت أن "السلطة مستفيدة من هذه الأوضاع لأنها لا تريد للأصوات النقدية أو مقاومة تخرب علاقتها مع الاحتلال، لكن هذه الملاحقة تساهم في توعية الجيل الشاب الجديد ونرى وجوهاً جديدة في الشارع وهتافاتها تستند إلى تراث وثقافة هذه التنظيمات".

وفي سياق متصل، يرى الباحث في العلوم الاجتماعية عبد العزيز الصالحي أن "الظروف الاقتصادية الاجتماعية متشابهة من حيث طبيعة مركزية السلطة وممارستها، في كافة فلسطين المحتلة، مع تفاوت الدرجات من حيث السياسات الممارسة وحدتها، إلا أن الفلسطينيين في الداخل والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة، جميعهم يعانون من ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، بفعل الاستعمار الصهيوني ولسوء تنظيم السياسات المحلية لتخفيف الأعباء عن الأفراد". 

واعتبر أن "أكبر هاجس لدى الاستعمار هو أن يتحول هذا الانفجار في لحظة ما في وجهه، لذا نجد أن أي فرصة لمحاولة بناء الوعي والتوجيه تخلع من جذورها، وإن كانت غير موجهة بشكل مباشر تجاه الاستعمار، حتى لا تنضج لاحقاً وتصبح موجهة".

وقال الصالحي في حديث مع "شبكة قدس" إن "الانفجار الاجتماعي حاصل فعلاً لكن مع اختلاف وتيرة وبروز ملامح هذا الانفجار، لكن سيلقى هذا الانفجار صداه إذا ما وجه بطريق مختلف".

وعن أسباب الأحداث الأخيرة، أوضح: "نلاحظ وبشكل واضح جداً تعمد الصهاينة ترك "المجتمعات الفلسطينية" في حالة فوضى، لينشغل الفلسطيني بقضاياه الداخلية ويبتعد عن قضيته الأساسية، ومع العوامل الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، يصبح هذا الانشغال هو العنوان الدائم للمرحلة، هذا نلمسه جيداً في الداخل الفلسطيني وفي المناطق التي تفرض حكومة الاستعمار نفوذها الأمني فيها، كمناطق "ج" والقرى المحاذية للجدار على سبيل المثال".

وتابع: "رغم وجود نوع من أنواع الحماية المجتمعية التي تفرضها رؤوس المال الاجتماعية كالعائلات والأعراف، إلا أن التخوف من أن هذا الحال لن يدوم مع تغذية الصهاينة لموجات الجرائم والعنف المصاحبة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية السيئة والحرمان الذي يفرضه الاستعمار".

وأشار الصالحي إلى أن "مركزية السلطة الفلسطينية وقرارها في فرض الأمن، مرتبط بشكل مباشر بالأفق السياسي، طالما لا يوجد أي تقدم في هذا الملف تبقى فكرة "الأمن" منقوصة، وهذا ليس بجديد بل حاصل منذ زمن، أكبر دليل على ذلك أن السلطة تلجأ للعشائر في كثير من الأحيان لحل القضايا المحلية، وهو ما يعني أن المنظومة الأمنية والقضائية الخاصة بالسلطة تبقى تحت جناح علاقات القوى المختلفة".

وأكد أن "السلطة فشلت فشل ذريعاً في إدارة ملف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والحماية الاجتماعية أيضاً، مما يضاعف صورة التغييب المترسخة لدى الفلسطينيين عن السلطة".

والسؤال الأهم من وجهة نظر الصالحي هو: "إلى متى يراهن الصهاينة على ذلك؟ رأينا كيف ارتد السلاح الفلسطيني على الصهاينة عقب الهبة الأخيرة عقب أحداث القدس و"سيف القدس"، وكيف بدأ "الشاباك" بالترويج لرواية أنه يلاحق الفلسطينيين في الداخل (لم يغب الشاباك عن الداخل بالمناسبة)، ولم يتمكن "في حينها أن يقدم رواية تخدمه بشكل واضح، حيث طرحت تساؤلات كبيرة حول كيف من الممكن أن يكون كل هذا السلاح موجود في ظل المنظومة الأمنية الصهيونية، وهي المسألة التي لا يستطيع "الشاباك" الإجابة عليها لأنها تكشف إجرامه بكل الأحوال".

وتعليقاً على المطالب بصناعة عقد اجتماعي فلسطيني جديد يضبط الأوضاع ويوجه الصراع نحو الاحتلال، قال: "أعتقد أن الحديث عن عقد اجتماعي جديد في ظل نفس المعطيات والعوامل، هو ضرب من جنون، فالأزمة الاجتماعية هي نتاج العوامل والمعطيات التي لم تتغير منذ سنوات، ولا يبدو الحديث عن تغييرها حالياً وارداً، فما الفائدة من عقد اجتماعي طالما لا يوجد أي تغيير على صعيد الأفق السياسي والسياسات وغيرها من العوامل والمعطيات؟".

وأضاف: "بخصوص العلاج الاجتماعي، جميع مجتمعات ما تحت الاستعمار وحتى ما بعد الاستعمار تبقى بحاجة لعلاج اجتماعي، فالصدمة والخيبة والألم الجمعي، جميعها ملازمة لمجتمعات ما تحت الاستعمار وما بعده، وهذه المسألة ليست جديدة إنما مذكورة في معظم أدبيات الاستعمار وما بعد الاستعمار، ولو أردنا الحديث عنها يوجد العديد من القضايا والعناوين التي بحاجة لنقاش واسع جداً وجدي، لكن السؤال هو حول شكل وكيفية العلاج!".

وأوضح: "إذا ما أردنا الحديث عن العامل النفسي والصحة النفسية فهي للأسف مهمشة بشكل كبير في فلسطين المحتلة، نظراً لقلة الوعي حول المسألة ولعدم شعور الفلسطيني بأنها أولوية في مقابل العوامل الاقتصادية على سبيل المثال".

ويتفق الصالحي مع الرأي الذي يقول إن "العنف يحل من خلال توجيهه لعدو خارجي"، وقال: "هذا سيسيولوجياً مقبول كتحليل، لأن الضمير الجمعي في هكذا حالة يصبح أعلى بكثير، بالإضافة إلى التكافل الاجتماعي الذي يصبح في أوجه عند بروز تهديد خارجي يحتاج لمواجهة، وتصبح الهموم جمعية، فنلاحظ على سبيل المثال أن الظواهر الاجتماعية السلبية تخف جداً عندما تصبح لدينا قضية جمعية وطنية تشغل الجميع، وهذا ينطبق وطبق في العديد من المجتمعات".

وجدد التأكيد على دور الظروف الاقتصادية في تأجيج العنف، وأوضح: "قضايا مثل ملف البطالة والفقر وغياب الحماية الاجتماعية وسوء التنظيم والفساد وغيره، هذه جميعها تؤدي إلى تصاعد العنف المجتمعي، وهي ملفات وقضايا لم تعالج في السنوات الأخيرة، بل على العكس تم تهميشها، إذ لا يوجد تدخلات جدية لعلاجها".

وأردف قائلاً: "من البديهي أن يزداد العنف، ليس لأن الفقر يؤدي إلى عنف في تنميط العنف، بل لأن الاستغلال سينجم عنه عنف، المستغِل يمارس عنفه اللفظي والجسدي وحتى الاقتصادي، ومن الغريب أن يستغرب أحدهم حينما يتحدث ردود فعل من المستغَل، ليس من السهل أن تأتي ردود الفعل بحكم السلطة الممارسة بخطاباتها المختلفة، لكن الغريب أن نستعجب إذا ما كان هنالك ردة فعل".

واعتبر أن هناك محاولة "لتغييب مسألة الحل السياسي وغياب الأفق السياسي عند تنازل قضايا العنف"، وأضاف: "هذه مسألة برأيي في غاية الأهمية، فمن الطبيعي أن يشعر المواطن، في أي مجتمع وليس الفلسطيني فقط، بالاغتراب في ظل غياب أفق سياسي مرتبط بالأفق الاقتصادي والاجتماعي، بالتالي تغيب مفاهيم "المواطنة" إذا ما أردنا ربط المسألة ب"المواطنة"، ويغيب الانتماء للجموع. هذا ليس بالضرورة أن يدفع الأفراد للجريمة والعنف، لكنه يقزم المظاهر السلبية بمقابل القضايا السياسية التي لم تعالج منذ سنوات".

وأكد الصالحي على حاجة فلسطين لعلم اجتماع يعالج ويحلل قضاياها، وقال: "نحن دائماً بحاجة إلى علم اجتماع فلسطيني ومدرسة فلسطينية في حقول العلوم الاجتماعية والانسانية، بكل الأحوال هذه مسألة أساسية، تحت الاستعمار وما بعد التحرر من الاستعمار، فالاسقاطات من المجتمعات الأخرى على مجتمعنا ليست دائماً صحيحة، أساس فشل السياسة الفلسطينية في العديد من العناوين هو تغييب العلوم الاجتماعية والتحليل النقدي وتغييب العامل الثقافي، وغياب مدارس نقدية اجتماعية حقيقية، ليس بالضرورة بكيانها فقط بل بالاستناد عليها".

وتابع: "حتى وإن أصبح لدينا مدرسة نقدية على الصعيد الفلسطيني، يجب الاعتماد على التحليل البنيوي والوظيفي وفقاً لسياقنا الفلسطيني، ووفقاً لعوامل "الصراع" الموجودة. بالمناسبة، يتميز العديد من الفلسطينيين بقدرتهم على تحليل السياقات المختلفة، ويوجد عقول فلسطينية رائعة على صعيد علم الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصاد وعلم النفس وحتى علم الإنسان، وهي علوم نحتاجها بكل تأكيد اليوم لفهم ما هو مقبل علينا من سياقات جديدة".

 

#السلطة #فلسطين #الاحتلال #الضفة #الخليل #العشائر