شبكة قدس الإخبارية

مجموعة الزنزانة رقم 15.. قصة مستحيل كاد أن يتحقق!

7657.JPG
مفيد زلوم

كانت أحلام الأسرى (وقتها) جهاد أبو غبن وثائر الكرد ونهاد جندية تنهار أمام عيونهم وهم يسمعون صفارات الإنذار تنطلق مدوية تهز أركان سجن عسقلان الصهيوني، هذه الصفارات كانت تعني أن خطة الهرب التي خططوا لها وعملوا على تنفيذها على مدى أكثر من سبعة أشهر قد فشلت، فقد تم الإمساك بشركائهم في محاولة الهرب وهم: حافظ قندس ونضال زلوم ومحمد حمدية، وإن عاجلًا أم آجلًا سيصلون إلى حجرتهم لاعتقالهم أيضًا. قال جهاد لثائر ونهاد: "جهزا نفسيكما للانتقال إلى زنازين العزل الانفرادي يا صديقَيّ. سنبقى هناك شهورًا طوالًا - كما أتوقع - بسبب فعلتنا!". لم يعرف السجانون الصهاينة حتى الآن تفاصيل عملية الهرب التي تنشر لأول مرة بعد رفع غطاء السرية عنها.

من وحي "فكرة مجنونة"!

في بداية اللقاء: تأملتُ ملامح ثائر الكرد وجهاد أبو غبن، قبل أن أقول لهما باسمًا: "أنا مستغرب كيف تنكرتما وارتديتما ملابس النساء للفرار من السجن!، إن ملامحكما ليست مواتية لأمر كهذا!".

ابتسما ساعتها، ليبادرني ثائر: "أنا الوحيد الذي لم يفعلها!"، في حين أردف جهاد: "لم يكن أمامنا حل آخر وقتها.. لو كنت في مكاني لما ترددت لحظة واحدة!".

هل لي في البداية أن أسأل: من كان "العقل المدبر" لخطة الهرب؟

ارتفعت ساعتها سبابة ثائر لتشير إلى صدر جهاد: "إنه هو..!". بقي جهاد صامتًا لثوانٍ، قبل أن يبدأ الحديث عن اللحظات الأولى لاختيار خطة الهرب في داخله.

كان ذلك عام 1989م، كان كلٌّ من ثائر وجهاد ذاهبين معًا إلى سجن المجدل في سيارة لنقل الأسرى الفلسطينيين؛ لحضور جلسة محاكمة لهما في محكمة غزة العسكرية الصهيونية. بعد وصوله إلى السجن، رأى جهاد أهالي الأسرى يتوافدون لرؤية أبنائهم في غرفة كانت أسفل زنزانته مباشرة. فكر ساعتها: "لو أمكن لي كسر بلاط غرفتي وسقفها؛ لأفتح ثغرة بالسقف؛ كي أتمكن من التسلل مع أهالي المعتقلين؛ لأصبحتُ الآن حرًّا!". لكن هذه الفكرة بدت له مجنونة ومن المستحيل تمامًا تطبيقها وقتها.

بعد شهور طويلة من التأمل، وجد نفسه خلال "الفورة" (فترة الخروج في ساحة السجن للأسرى لمدة ساعة يوميًّا) يختلي بزميله ثائر. نظر يمنة ويسرة للتحقق من أنه لا يوجد أحد قريب منهما؛ ليسأله مباشرة: "ثائر، هل تريد الفرار من السجن"؟!.

ببرود عجيب وغير متوقع أجابه ثائر: "ولم لا؟!، "معك ع الموت يا أبو شريك"!، ولكن هل توجد لديك خطة؟!". شرح له جهاد المسألة ببساطة: لقد كان متيقنًا أنه لا يستطيع الفرار وحده خارج أسوار السجن، لا بد له من البحث عن "شركاء" يثق بهم؛ فقرر أن يفاتح صديقه ثائر الذي يعرفه منذ سنوات طويلة، فهو يدرك مدى جسارته وشجاعته، فضلًا عن ذكائه الحاد وقوته البدنية. بدأا يبحثان ساعتها عن "شريكهما الثالث" في الفكرة، فوقع اختيارهما على صديقهما الذي لا يزال أسيرًا حتى الآن: نهاد جندية.

فاتحاه في الموضوع، فأسرع يصيح بصوت عالٍ: "إيش؟!"، سارع جهاد بتغطية فمه متلفتًا حوله بقلق، قبل أن ينظر إلى نهاد من جديد وهو يقول له همسًا: "ششششش. كدت تفضحنا!، إننا نريد الهرب من السجن، هل تريد الهرب معنا أم لا؟!".

فكر قليلًا قبل أن يسألهما: "هل توجد لديكما خطة ما؟".

- لا!

- حسنًا، ولا منشار حديد أو مبرد؟

- لا!

- ولا حتى مسمار أو معلقة من أجل استخدامهما في الحفر؟

- لا!

لم يملك سوى أن هز رأسه يمنة ويسرة تعبيرًا عن اليأس، وهو يقول: "لا بأس، أنا معكما"، "وربك بيهون الصعب!، قادر ع كل شيء ها الكريم!".

بعد عدة أسابيع، استقر عدد المجموعة على خمسة أشخاص: جهاد أبو غبن، وثائر الكرد، ونهاد جندية، ومحمد حمدية، وحافظ قندس. كانت أسباب توسعة عدد المشاركين في محاولة الهرب متعددة من وجهة نظر جهاد صاحب الفكرة: فهم بحاجة إلى عدد من الشبان الكتومين لتنفيذ الخطة التي بدأت تختمر في ذهن جهاد، كما أنهم بحاجة لأن يكون عددهم مساويًا تقريبًا لعدد القاطنين في أي غرفة من غرف السجن؛ كي يتقاسموا كتمان السر بينهم وحدهم. لا يمكنهم أبدًا المغامرة بأن يعرف أي شخص ما ينوون فعله، وإلا كان الخطر عليهم عظيمًا؛ فقد يصل الخبر إلى أحد الثرثارين، لينتشر الخبر بعدها بالسجن، فتكتشف إدارته الأمر أو تشك على الأقل بما يحدث، فتقوم بتفريقهم بين السجون الصهيونية، لتقتل خطتهم وهي لم تزل بعد في مهدها!.

"كم عدد البلاطات بالضبط؟"

- أهلًا ثائر.

صافح أحد الأسرى ثائر، وهو يتحرك ذهابًا وإيابًا في غرفة الزيارة قبل أن يمد ثائر يده ببرود واضح، ويرد تحيته بشكل يوحي وكأنه مشغول البال إلى حد كبير، في حين كان عقله يعد تلقائيًّا: "...، ثلاثة وسبعون، أربعة وسبعون، خمسة وسبعون، ستة وسبعون..!".

لم يكن وحده يفعل ذلك، بل كذلك بقية زملائه بالخطة: جهاد ونهاد ومحمد وحافظ!، كان سجانوهم يجلبونهم إلى غرفة الزيارة قبل دخول أسرهم إليها بخمس دقائق تقريبًا، أمضوها خلال المدة الأخيرة في التحرك ذهابًا وإيابًا في الغرفة. ولو قدر لأيٍّ كان أن يقرأ أفكارهم لأصيب بالذهول، ولراح يتساءل بحيرة: "ما الذي يحصونه الآن؟!".

في اليوم التالي من الزيارة، اجتمعوا في ساحة السجن خلال "الفورة"، بدأ ثائر يقول: "أحصيت "بلاطات" غرفة الزيارة، ووجدت أنها إحدى وتسعون بلاطة!"، صاح نهاد: "بل تسعون فقط!، أنا أحصيتها بنفسي!"، في حين تراوحت أرقام البقية من تسعين إلى أربع وتسعين بلاطة في الغرفة!، قال جهاد ساعتها بغيظ: "والعمل؟!، منذ ثلاثة أشهر على الأقل ونحن نحاول إحصاء بلاطات غرفة الزيارة دونما جدوى!، يجب أن تكون لدينا "قياسات دقيقة"؛ فبجوار غرفة الزيارة توجد هنالك عيادة السجن. يجب أن نعرف عدد البلاطات بالضبط لنحدد من أي غرفة يجب أن نبدأ الحفر، ولو أخطأنا اختيار الغرفة؛ فقد نجد أنفسنا نثقب السقف لنهوي في أحضان الطبيب!". أرقت هذه المشكلة المجموعة، قبل أن يجد نهاد الحل أخيرًا!.

انتظر نهاد يومين قبل أن ينفذ "خطته الصغيرة" لمعرفة عدد "بلاطات" غرفة الزيارة بالضبط. بعدها قابل أحد شباب السجن الذي أوصل إليه علبة سجائر كان مكتوب عليها: "صديقي العزيز نهاد، أتمنى أن ألقاك خارج السجن سنة 92 ونصف". عندما قرأ الكلمات الأخيرة تنفس الصعداء!؛ فقد استطاع نهاد إقناع أحد الأسرى الذين انتهت المدة المحكوم عليه بقضائها في السجن أن يعد "البلاطات" بحجرة الزيارة، إذ يتم تجميعهم هناك ويبقون في تلك الحجرة ساعات طوال لإنهاء إجراءات الإفراج عنهم، وتذرع نهاد بأنهم يريدون "التقدم بشكوى" ضد السجن من أجل زيادة أعداد شبابيك الغرف، وأن المطلوب منه فقط أن يعد البلاطات بدقة، ثم يرسل لهم الإجابة مكتوبة على علبة سجائر مع أحد شباب السجن الموكلين بأعمال النظافة، دون أن يدري كلاهما السبب الحقيقي وراء كل هذا!.

بدأت المجموعة بعدها تعد "البلاطات" في الطابق العلوي مواجهة مشكلة جديدة: البلاط في الطابق العلوي أصغر حجمًا، ما صعب من إجراء عملية معرفة الغرفة التي يجب أن يهربوا منها، لكن المعجزة حدثت أخيرًا: استطاعوا معرفة الغرفة بعد حسابات دقيقة استمرت أسبوعين كاملين: إنها الغرفة رقم "15" التي تقع بالقسم رقم "11"، إذ استطاعوا الانتقال إليها جميعًا، وانضم إلى خطة فرارهم أسير جديد كان سادسهم هو نضال زلوم، الذي كان من ذوي الأحكام العالية مثلهم.

وبدأ الحفر!

شعرتْ المجموعة بكاملها أن "المساعدة الربانية" لهم من أجل تنفيذ خطتهم تتوالى، فقد قررت إدارة السجن إجراء عدد من الإصلاحات في السجون، ومن بينها تغيير البلاط وإعادة دهن حوائط الغرف، وقد اختارت عددًا من السجناء للقيام بذلك بحكم خبرتهم في الأعمال اليدوية، ومن بينهم ثائر ونهاد!، بمنتهى الجرأة استطاع ثائر تهريب عدد من الأدوات المستخدمة في عملهم دون أن يشعر الضباط وجنود الأمن الصهاينة المشرفون على العمل، رغم أنهم كانوا لصيقين به كظله!.

عبر حسابات بلاط الغرفة، جرى تحديد موقع المرحاض الخاص بغرفة الزيارة، ثم تولى ثائر "الجزء الصعب" من المسألة: غافل ضابط الأمن المسئول عن مراقبته، بالاتفاق مع نهاد، وشرع يحطم السقف بالحفار الكهربائي، المعروف محليًّا باسم "الكومبريسر"؛ ليتمكن من ثقب السطح، بثغرة صغيرة، غطاها لاحقًا بطبقة بسيطة من الإسمنت الذي كان متوافرًا بحكم الأشغال الجارية بالسجن!، لتتم بعدها تغطية وجه أرضية الغرفة بالبلاط الذي كان عليهم لاحقًا كسره بالمطرقة والإزميل اللذين هرّبهما ثائر للمجموعة. كانت ظروف العمل صعبة جدًّا، فقد كان على كل أسير بالمجموعة التناوب، والحفر فقط خلال أوقات العمل بالسجن، وإلا اكتشف أمرهم بحكم وجود غرفة عيادة السجن غير بعيدة عنهم أسفل الغرفة، وأن أي حفر خلال أوقات الليل – مثلًا - سيؤدي حتمًا لاكتشاف أمرهم من السجانين، أو طبيب العيادة وممرضها!.

الأسوأ أن المطلوب هو حفر الثغرة الموجودة تحت أحد الأسرة المزدوجة بالزنزانة التي يصعب إزاحتها عمليًّا، ما يتطلب من كل أسير القيام بالحفر مستخدمًا المطرقة والإزميل وهو ممدد على بطنه!، ولم يكن أيٌّ منهم يقوى على الاستمرار في عملية الحفر أكثر من دقائق معدودة، قبل أن يقوم بالتبديل مع زميله، في حين كان ثائر وقتها يحاول إثارة أكبر قدر من الضوضاء لتغطي على حفرهم، وذلك خلال قيامه بأعمال تكسير "بلاط" الغرفة المجاورة؛ تمهيدًا لتركيب "بلاط" جديد، تمامًا مثلما جرى في زنزانتهم، وما سيطبق على كافة الزنازين كجزء من أعمال الصيانة التي نفذتها إدارة السجن!.

بين فكي الخطر..

انتبه السجان إيلان فجأة، فقفز من مكانه مرهف السمع، قبل أن يسأل نهاد: "هل تسمع ما أسمع الآن؟، هنالك ضجيج وطرق غير عادي آت من زنزانتكم!، المفروض أنه لا توجد هنالك إصلاحات بالسجن يوم الجمعة، وخاصة في وقت الصلاة، أليس كذلك؟!". ازدرد نهاد ريقه بصعوبة، وحاول أن يكون متماسكًا، وهو يقول: "كلامك صحيح، ولكن..!"، قطع إيلان حديثه ساعتها وهو يتجه إلى الغرفة رأسًا كي يرى ماذا يحدث. شعر نهاد ساعتها بأن قلبه يهوي بين قدميه، وانطلق كالصاروخ محاولًا تعطيل إيلان أو حتى منعه!.

وصل إيلان إلى باب الزنزانة، وفتحه، ليجد أمامه محمد حمدية، الذي جمدته المفاجأة وهو يحمل قدر طبخ بيده، في حين كان كل شيء بالغرفة طبيعيًّا. سأله إيلان بغلظة: "هنالك أصوات طرق بغرفتكم، ما الذي يحدث؟!"، وصل نهاد إلى الغرفة وهو يلهث، في حين تمالك محمد نفسه وهو يقول: "كنتُ أطرق بقدر الطبخ "الطنجرة" التي أحملها كما ترى على هذا المسمار؛ كي أثبت به حبل غسيل بالغرفة؛ حتى أستطيع نشر ملابسي الداخلية عليه. هذا هو كل ما في الأمر!". بصعوبة بالغة "ابتلع" السجان شكوكه ومضى، ليندفع محمد بعدها إلى السرير الذي كان "شرشفه" يغطيه؛ ليصل إلى الأرض، مخفيًا ما أسل السرير، الذي خرج من تحته ثائر وهو غارق في عرقه!، جن جنون نهاد: "ما الذي كنتَ تفعله؟!، لقد كاد أمرنا أن يكتشف لولا رحمة من الله!"، قال له ثائر: "لم يكن هنالك من حل؛ لا بد من تكسير بلاط الغرفة وحفر الثغرة بالأرض سريعًا؛ لأن الأعمال بالغرفة المجاورة ستتوقف قريبًا، ولابد من إنهاء العمل بأسرع وقت، وإلا فإن أي أصوات لن يكون بإمكاننا تبريرها بعد الآن. ولم يكن أنسب من يوم الجمعة لمواصلة العمل، بحكم أن السجناء يتوجهون إلى الصلاة، التي اضطررنا آسفين للتخلف عنها، وتكون العيادة خالية؛ لأن الطبيب يتوجه لتناول الغداء!". ثم صمت، قبل أن يهرش رأسه مفكرًا: "أعتقد أن علينا إكمال العمل بطريقة أو بأخرى وفي أسرع وقت!".

في اليوم التالي، اضطر ثائر لإحداث أكبر قدر من الجلبة، عبر الطرق بقوة على عربة تستخدم لنقل خلطة الإسمنت، منذ السابعة صباحًا، محدثًا ضجة كافية للتغطية على صوت "انفجار"! هرع إليه السجان إيلان كوهين مهتاجًا: "ثائر، ما الذي تفعله؟!".

أجابه ثائر ببرود وهو يوصل عمله بلا مبالاة: "أنظف العربة من بقايا الإسمنت الموجود بها!".

- ولكنها نظيفة فعلًا!

نظر إليه ثائر بشراسة وهو يصرخ في وجهه: "اسمع يا إيلان!، هل هذا من شأنك؟!، هل أتدخل أنا في عملك كي تتدخل في عملي؟!، دعني أكمل عملي ولا تتدخل!". صمت إيلان مفضلًا تجاهل المسألة برمتها، خاصة أن ثائر أسير مشاكس و"مشكلجي" مع السجانين الصهاينة، ولم يسلم سجان واحد في سجن عسقلان بكامله من شره!.

نضال زلوم

وحانت اللحظات الحاسمة!

إنه الرابع والعشرون من حزيران (يونيو) 1996م: بعدد من المعجزات، استطاعوا أخيرًا الانتهاء من الحفر، وتوسعة الثغرة، إذ تمكنوا من جعلها بقطر 45 سنتيمترا، من علامات "التوفيق الإلهي" الأخرى لهم هو أنهم تركوا الردم يسقط في المرحاض، ورغم ذلك لم يكتشفه أحد لسبب بسيط: لقد كانت الزيارات ممنوعة عن جميع الأسرى خلال تلك الفترة!، وقرروا النزول إلى المرحاض وتنظيفه من الركام بعد أيام متواصلة من أعمال الحفر الشاقة، وتمكنوا من تحطيم القضبان الحديدية عبر الطرق عليها بالإزميل مثلما علمهم ثائر الذي يمتلك خبرة كبيرة في مجال أعمال البناء. كانت لحظة رائعة لهم، نزلوا عبر الثغرة واحدًا تلو الآخر، باستثناء زميلهم نضال الذي منعه من ذلك وزنه الثقيل؛ خوفًا من ألا يستطيع الصعود مرة أخرى!، نقلوا الردم إلى الأعلى، وأعادوا طلاء المرحاض، ثم قرروا التجول في غرفة الزيارة: كل واحد منهم راح يستحضر معالم المكان: هنا تجلس أُسَرهم عندما يأتون لزيارتهم. ومن هنا سيهربون خلال أيام! صلى بهم حافظ صلاة العشاء جماعة في ذلك المكان، قبل أن يشربوا المياه الغازية احتفالًا بإنجازهم!، لاحقًا أغلقوا الفتحة بورق أبيض كبير الحجم من نوع "البريستول" المتوفر بالسجن، وتولى نهاد نقل ركام الحفر إلى أكوام الركام المتخلفة عن أعمال الإصلاحات بالسجن.

- الثاني عشر من تموز (يوليو) من ذات السنة: لم تنم مجموعة الزنزانة "15" ليلتها من شدة الإثارة. كانت فكرة واحدة تتملك الجميع: غدًا سنغدو أحرارًا!، منذ ساعات الفجر بدأوا بتجهيز أنفسهم: كانت الخطة تقتضي أن يندسوا مع الأهالي القادمين لزيارة أبنائهم الأسرى من أبناء المناطق المحتلة عام 1948م؛ فالسجانون لم يكونوا وقتها يدققون بهويات أهالي الأسرى في أثناء خروجهم، وخاصة النساء، إذ كانوا ينوون التنكر بأزياء نسائية، عدا ثائر الذي لم تسمح له بنيته الجسدية المفتولة العضلات بذلك، فقرر الاكتفاء بملابس مدنية مع نظارة شمسية. قاموا بحلاقة ذقونهم مع جزء من شعر الساعد وأصابع القدمين؛ لكيلا يفضحهم شعرها الذكوري الكثيف، ووضعوا جزءًا من "الماكياج" على وجوههم زيادة في التمويه، وكانوا قد جهزوا ملابس نسائية خاطها لهم أسير داخل السجن، يفترض أن يرتدوا تحتها ملابس رجالية كاملة، وقد جمعوا مبلغًا من المال كي يستقلوا سيارات أجرة بعيدًا عن السجن. في الساعة الثامنة صباحًا أحصاهم السجانون وجلهم يتظاهر بالنوم ليخفي وجهه. بعد خروج السجانين بدأوا بتجهيز الثغرة للفرار: عند الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة بالضبط نزل حافظ من الثغرة إلى المرحاض، قبل أن يندس في الفوج الأول من أهالي الأسرى. بعدها بدقائق، خرج محمد حمدية ونضال زلوم، لكنهما ارتكبا خطأ فادحًا: كان فوج أهالي الأسرى قد خرج من الغرفة، ورآهما الجنود الثلاثة المكلفون بحراسة حجرة الزيارة؛ فأصيبوا بدهشة عارمة: من أين خرجت هاتان الامرأتان؟!، وكيف يمكن أن تخرجا معًا من ذات المرحاض، إذا افترضنا جدلًا أن إحداهما تأخرت داخل المرحاض وفاتها اللحاق بفوجها؟!، "أيتها الامرأتان، قفا!" كانت هذه الصيحة كافية كي ينهال محمد ونضال على الجنود بالضرب واللكمات، فقد أدركا أن أمرهما قد اكتشف، لتنطلق صفارات الإنذار بالسجن على الفور! ولاحقًا، تم جمع الأسرى الستة وإرسالهم إلى زنازين العزل لفترات تراوحت من ستة أشهر إلى عام ونصف!، كان المحققون في القضية ضباطًا من مصلحة السجون الصهيونية، وفوجئ رئيس اللجنة بإجابة أفراد المجموعة عن كيفية فتح الثغرة بالمرحاض. لقد كانت ذات الإجابة تقريبًا وإن اختلفت كلماتها، رغم أنهم لم يتفقوا عليها سلفًا: "كنا نقرأ القرآن في زنزانتنا ووجدنا هذه الثغرة ساعتها تُفتح وحدها شيئًا فشيئًا!، هذا كل ما في الأمر!". ولم ينجح المحققون في انتزاع أية إجابة أخرى، رغم كافة وسائل الضغط التي استخدموها!، سأل رئيس اللجنة جهاد: "ألم تخشوا أن يرى شخص ما الثغرة في سقف المرحاض في أثناء قضاء حاجته؟!".

ابتسم جهاد ساعتها وهو يجيبه: "كم مرة نظرت أنت إلى سقف المرحاض، وأن تقضي حاجتك، سواء في المنزل أو السجن؟!"، فقام الضابط ساعتها من مكانه ليصافحه: "أحييكم!، لقد اكتسبتم احترامي فعلًا!؛ لقد كنتم أذكياء واستخدمتم العامل النفسي في خطتكم بشكل ممتاز!". وقال لهم ضابط آخر: "لا أخفيكم سرًّا: لو كان لديكم قليل من الحظ لكنتم الآن خارج الأسوار!"، وعلق ضابط ثالث: "قصتكم تصلح لأن تكون فيلمًا سينمائيًّا بامتياز!".

الثامن عشر من تشرين الثاني (أكتوبر) من عام 2011م: بعد محاولة هروبهم بأكثر من ثمانية عشر عامًا، كان كلٌّ من جهاد غبن وثائر الكرد ونضال زلوم يخرجون من بوابة السجن "مرفوعي الرأس" أمام سجانيهم. كانت إجراءات السجن قد ازدادت شدة، ومُنع إشراك الأسرى في أية أعمال صيانة داخل السجون الصهيونية، واستبدلوا بعمال مدنيون، مع منع تزويدهم بأية أدوات؛ خوفًا من استخدامها بمحاولات هرب، إذ تكررت عدة محاولات أخرى للهرب بعد محاولتهم بوقت طويل، ما ألغى صفة السرية عن الإجراءات التي قاموا بإتباعها في أثناء محاولتهم الهرب. ورغم ذلك يشاء الله أن يخرجوا "أسرى محررين" ضمن صفقة وفاء الأحرار، أما حافظ قندس فقد أنهى حكم سجنه بعدها بشهور، ليبقى محمد حمدية ونهاد جندية بالسجن. يقول جهاد: "صحيح أننا خرجنا أخيرًا، إلا أنني أرى أن فرحتنا ستبقى منقوصة، ما دام زملاؤنا الأسرى لم يخرجوا بعد. آمل أن يفرج الله كربهم جميعًا، خاصة زميلَيّ في محاولة الهرب نهاد ومحمد، وأن نراهم جميعًا خارج الأسوار أحرارًا. اللهم آمين!".