شبكة قدس الإخبارية

فلسطين الأخرى: الرواية لم تزل مستمرة

ض.PNG
قسام معدي

كيف نروي قصة فلسطين؟ إن وقفة تأمل قصيرة كفيلة بأن تثبت أن فلسطين، كأي قصة إنسانية مستمرة، تروي نفسها بنفسها، ولا يلزم المرء سوى إيجاد النظر إليها. لكن اللحاق بالاحداث، صحفيًا، بات سباقًا مع الزمن، يتطلب القفز من الحدث الساخن إلى الحدث الساخن التالي، دون التمكن من رسم خط واضح لرواية أي شيء.

إن الاحتجاجات الأخيرة في الضفة الغربية، والتي بدأت بعد استشهاد المعارض الفلسطيني نزار بنات أواخر حزيران الماضي، أعادت السلطة الفلسطينية إلى مركز النقاش الفلسطيني الداخلي، بعد أن كانت هبة حي الشيخ جراح والعدوان على غزة، خلال شهر رمضان الأخير، قد وضعتها على هامش الأحداث. ومع ذلك، فإن موجة الغضب التي اجتاحت مدن الضفة الغربية إثر فاجعة نزار بنات لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع للنضال الفلسطيني، حيث حالة شعبية أوسع بكثير من السلطة وحدودها، لم تزل تعبر عن نفسها. إن ما حصل خلال هبة الشيخ جراح كان تاريخيًا بكل المقاييس. فلأول مرة منذ سنين طويلة ينتفض الفلسطينيون على الاستعمار الصهيوني في كامل فلسطين التاريخية، في وقت واحد، وبزخم أعاد الحديث عن كل فلسطين "من البحر إلى النهر" إلى واجهة النقاش الجدي. لكن هذا الزخم لم يسيطر على الحدث السياسي اليومي طويلًا، رغم أنه لم ينته. ورغم أهمية الأحداث اليومية، فإن تحت السطح رواية مختلفة لتاريخ موازٍ، لفلسطين أخرى، لم تزل مستمرة.

خط تطور موازي

لم تولد فلسطين ككيان سياسي حديث كما فعلت البلدان العربية المجاورة. ففي معظم الأقطار العربية، ولدت الدولة أولًا، ثم تلاها تشكل المجتمع في الحدود القطرية التي خلفها الاستعمار. فلم يترك الاستعمار خلفه، في الوطن العربي، حدودًا اصطنعها عقب الحرب العالمية الأولى فحسب، بل ترك أيضًا مؤسسات بيروقراطية حديثة، وترك على رأسها نخبًا تقليدية، إما عسكرية أو قبلية أو طائفية، مع استثناءات قليلة جدًا. هذه النخب شرعت بإعادة تشكيل المجتمعات من أعلى لأسفل، حول الهويات القطرية، وحول سلطة الدولة في مركز هذه الهويات. غير إن مرور الزمن وتعاقب الأجيال على الدول العربية القطرية كشف عن عجز هذا النموذج من الدول، خاصة مع انفتاح العالم العربي على العولمة، ونشأة جيل يحمل تطلعات وأفكار جديدة تتجاوز ما يمكن للدولة القطرية أن تقدمه.

فلسطين بدورها لم تمر بمثل هذا التطور التاريخي. فبدلًا من الاستقلال كانت النكبة، التي لم تهجر نصف الفلسطينيين خارج أرضهم فحسب، بل قضت على ما كان موجودًا من نخب ومؤسسات. كان على الفلسطينيين أن ينتظروا جيلًا كاملًا ليبدأوا ببناء حركة وطنية من جديد، أواسط الستينيات، وبدأت هذه الحركة الوطنية من الشتات في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. حركة التحرر الوطني هذه هي ذاتها التي تطورت لاحقًا لتتحول إلى مشروع دولة، كما يشرح يزيد صايغ في عمله الموسوعي "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة"، عبر بناء مؤسسات بيروقراطية حول الكفاح المسلح، والتمسك بحق التمثيل السياسي للفلسطينيين، حتى دخولها في عملية التسوية. تولدت عنها بعد ذلك السلطة الفلسطينية، التي تدير الشؤون المدنية للفلسطينيين اليوم، في الضفة الغربية وقطاع غزة. سلطة منقسمة بين فصيلين يتنازعان السيطرة عليها، ومحاصرة في مناطق معزولة عن بعضها من قبل دولة الاحتلال ومستوطناتها.

لكن خلال العشرين سنة السابقة على اتفاق أوسلو وعودة منظمة التحرير وإنشاء السلطة، كان نموذج مختلف لفلسطين يتطور داخل الأرض الفلسطينية. كانت مجموعات التطوع التي بدأت أوائل السبعينيات قد تحولت إلى حركة منتشرة في كل الأرض المحتلة، وكانت قد بدأت تعبر، إضافة إلى طابعها الاجتماعي، عن طابعها السياسي، خاصة في تصديها لمشاريع روابط القرى آنذاك. في الفترة نفسها تأسست أطر اجتماعية ومهنية كثيرة، من اتحادات وجمعيات تعمل في الزراعة، والصحة، والثقافة، والخدمات الاجتماعية، والتعليم، وترتكز إلى تبرعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، إضافة إلى جهود التطوع. هذه الشبكة الواسعة من الأطر الاجتماعية والمدنية هي التي من خلالها أدار الفلسطينيون انتفاضتهم الأولى أواخر الثمانينيات، واستطاعوا عبرها أن يوفروا الحد الأدنى من الخدمات للاستغناء عن الإدارة المدنية للاحتلال. بكلمات أخرى، ولدت فلسطين على الأرض الفلسطينية، كمجتمع مدني منظم، يقود نضالًا تحرريًا ويوفر إطارًا للتعبير عن الهوية الوطنية، قبل أن تكون هناك دولة. إنها حالة وحيدة من نوعها في الوطن العربي، وفريدة على مستوى العالم.

هوية متجاوزة للحدود

تغيرت أشياء كثيرة منذ ذلك الحين. فالمجتمع المدني الفلسطيني تحولت معظم مؤسساته إلى وكالات محترفة، تعتمد على التمويل الأجنبي، مما أفقدها طابعها التطوعي والاجتماعي. بدورها تحولت السلطة الفلسطينية إلى أكبر مشغل للفلسطينيين، يتبعها القطاع الخاص الذي كبر حجمًا وارباطًا برأس المال العالمي (والإسرائيلي).

لكن معنى المواطنة، والتنوع السياسي والاجتماعي، وحس الاستقلالية عن السلطة السياسية، بل معنى الحرية بمعناها الأكثر اتقادًا، الأشد انفتاحًا على المستقبل عندما لا تقيدها حدود برنامج سياسي محدد، هي أمور لا تزول بسهولة من الوعي الجمعي لأي مجتمع، إذا استطاع ولو جيل واحد أن يعيشها بلحمه الحي. إنها أبعاد شكلت معنى أن يكون المرء فلسطينيًا في الأرض المحتلة، وهي ثقافة لم تختف بالكامل خلال الثلاثين سنة الماضية، بدليل أن جيلًا جديدًا من الفلسطينيين يعبر عنها اليوم في شوارع الضفة الغربية.

إنه جيل يفهم فلسطين كاملة، متجاوزة لحدود أي مشروع سياسي. فلسطين يوحد بين أجزائها، في عكا والقدس ورام الله وغزة والشتات، حس جماعي لا يرتبط بأي دولة أو قيادة، بل بالتضامن الجماعي، وبالأرض. إنها فلسطين تعود إلى واجهة الأحداث بين الحين والآخر، وتحكي قصتها بنفسها، حيث لا يلزم المرء سوى إيجاد النظر إليها.