شبكة قدس الإخبارية

بـ 5 رصاصات إسرائيلية اخترقت جسده

في رحلةٍ لم تَكْتمِل .. الطفل الشهيد "محمد العلامي" خُطِفَ من قلبِ والده

162766435965371
يحيى اليعقوبي

الخليل - خاص قدس الإخبارية: يقفُ الأبُ المكلوم أمامَ جثةِ طفله الممددة أمامه بهدوء وسكينة، بلا هدير أنفاسٍ بلا خفقان دقات قلب بلا ضحكةٍ ملائكية، يقفُ بحرقة قلبه ودموعٍ تلسعُ عينيه "مش قادر أوصفلك شو محمد .. محمد حياتي؛ هذا دم قلبي خطفوه من جوا قلبي".

يتأمل والده كل ذلك بعينين تحاصرهما الدموع، يشيعُ فرحته "أنا اللي متت مش محمد!"، يطبع قبلةً على جبينه لكنها لم تكفِ لتبريد نيران قهره يريد تأخير مراسم الوداع يحافظ على صلابةٍ هشم أعمدة تماسكها محمد الذي يحزم حقائب سفره إلى السماء ، فوضع قبلة ثانية وثالثة وكرر المحاولة كثيرًا وكلها لم تكف فقد غادرت الروح الجسد، يودعه بحسرةٍ ورجة جسدٍ تختصر حكاية الفراق "والله عارف يابا انه نصيبك تروح هيك، روح الله يرضى عليك .. حسبي الله ونعم الوكيل فيهم".

حديث الموتى مع الأحياء موجع، فكيف إن كان الحوار بين أب وطفله!؟، إن كان الكلام لا يعيد المفقودين، ولا يحرك الضمائر الميتة، ولا يزيل طبقة متيبسة عن قلوب متحجرة، اختارت طريقًا ساندت فيه الجلاد وضربت بسياط الخذلان على أوجاع المظلومين.

رحلة لم تكتمل

بداية القصة، الليل يسدلُ ستاره الحالك، لحظة عودة مؤيد العلامي من عمله بالداخل المحتل مثقلاً بالنعاس، ليغفو في نومٍ عميق عدة ساعات، قطع ستار صمته طفله محمد (11 عامًا) الذي أيقظه: "بدنا نطلع على البلد نشتري أغراض وخبز وطعام"، الأب الذي لم يعتد على رفض طلب فرحته الأولى وابنه الذي تأخر قدومه للحياة سبعة أعوام بعد زواجه، وأنفقَ كل ما يملك كي يسمع صوت تغريدةَ طفلٍ في المنزل كعصفورٍ يغرد على أغصان الفرح.

توجهوا بواسطة مركبته لمركز بلدة "بيت أمر" في الخليل بالضفة الغربية، جلس محمد بالمقعد الخلفي للمركبة بجواره كانت تجلس شقيقته عنان (تسع سنوات) وشقيقه أحمد (خمس سنوات)، وقبل جلب الأغراض مروا على منزل جدته وكانت قد جهزت طبقًا من المعمول، محمد أعرب لها عن لهفته لتذوق قطعة "والله يا ستي من زمان نفسي أكل معمول" ثم استأذن منها تناول قطعة واحدة، طلب أثار ضحك الجدة التي وضعت الطبق تحت إمرته: "كل قد ما بدك .. هي الصدر قدامك".

اتصال هاتفي ورده من زوجته أضافت عدة أغراضٍ أخرى للقائمة، احتار محمد في حفظها بعدما كلفه والده بتدوين ما طلبته أمه في عقله، لكن جدته سهلت له طريقةً في الحفظ، بعدما أمسكت يديه: "عد ست أغراض، واذا اشتريت هذا العدد بتكون جبت كل اللي طلبته أمك".

"زرنا عمته، وذهبنا للسوق، في محل الخضار انتقيت حبات الطماطم وهو اختار انتقاء حبات الكوسيا، واشترينا "ربطة خبز" وبعض الأغراض الأخرى، وعدنا باتجاه المنزل لكن لم أدرِ أو انتبه أن جنودَ جيش الاحتلال نزلوا من النقطة العسكرية الموجودة في المنطقة إلى مقبرة أسفل النقطة مخصصة لدفن الأجنَّة الموتى" .. على مدار خمس وأربعين دقيقةً استمعت " قدس" إلى صوت والد محمد المكلوم بجرح الفراق، أعادت نسج خيوط قصة وجريمة.

صوتٌ قادمٌ من المقعد الخلفي بعد قطع مسافة أصبحت فيها المركبة قريبة من المنزل:

- بابا؛ نسيت اشتري غرض

- ضروري بدك إياه يا محمد!؟

- ضروري كتير ..

- طيب الحين برجع بنجيبها

رجع الأب بالمركبة للخلف واستدار بالسيارة باتجاه البلدة مرة أخرى وكان متجر المواد الغذائية يبعد عنه نحو 300 متر، دارات عجلات السيارة دورتها، أصوات رشقات رصاصات اقتحمت أذاننا، "لا أعرف ما الذي يجري، فطلبت من ابنائي الانخفاض".

توقفت أصوات رشقات الرصاص التي جهل والد محمد أين وجهت مستقرها، "استدرت أطمئن على أولادي، لأجد رأس محمد يتوسد قدم شقيقته، لكنه لم يلتفت لطلبي له: قوم يا محمد هينا عدينا الجيش، ولم يتفوه بكلمة واحدة، اعتقدت أن الخوف يكبل أحباله الصوتية، أيضًا لم ينصتْ لطلب شقيقته له بالنهوض" .. يعتصر صوته بالحزن وهو يعيد رسم المشهد من بدايته.

قبل الوصول لـ "السوبرماركت" بدأت عجلات السيارة تتراقص وبدأ يفقد التحكم بها، أدرك أن محمدًا أصيب، فاستطاع إيقافها، في الأثناء مرت جنازة لحظة نزوله من المركبة لتفقد محمد، لم يستطع حبس صوته عن الصراخ: "طخو ابني .. طخو ابني".

أحد الشبان فتح السيارة واسند محمد، فكان الدم يتدفق من ظهره مثل صنبور مياه مفتوح.

اتصالٌ هاتفي، المتصل زوجته، على عجل رد على المكالمة: "انت وين!؟" تسأله، في غمرة الغضب أطلق صرخةً دوى صداها في قلبها .. "طخوا محمد!".

يستحضر صورة محمد مضرجًا بدمائه بلهجة أهل "بيت أمر": "صرت أوكل بحالي من القهر لما شفت خمس رصاصات جوات جسمه، ما عندهم قلب .. الله لا يسامحهم دنيا وآخرة".

نقله الشباب بسيارةٍ للمستوصف، وركب الأب بسيارة أخرى، فكان المستوصفُ مغلقًا، ذهبوا به لعيادة طبيب يدعي محمد أبو الفهد فقام بوقف النزيف وقال: "لا استطيع فعل اكثر من ذلك، ويبدو أن القلب متوقف منذ عشرين دقيقةٍ".

"ذهبوا به لمقر الهلال الأحمر لكن كان مغلقًا في الأعلى، وصلت إلى مستشفى الميزان بالخليل وبدأت أتنقل بين الغرف وأسال الممرضات والاستعلامات، دون جدوى، حتى ذهب به الشباب للمستشفى الأهالي بعد ساعةٍ من إصابته، ساعةٌ حتى وصلنا إلى مستشفى عن أي إهمال أتحدث ونحن في بيت أمّر منطقة مواجهة، أين إسعافات الهلال الأحمر ولماذا سحبت من القرية!؟".. حلقة أخرى من المعاناة التي عايشها والده ينبش في تفاصيلها.

قشة أمل

في المشفى "الأهلي" تجمع الأطباء حول محمد المضرج بدمائه على مدار ست دقائق من الضغط واستعمال أجهزة طبية أعادوا تشغيل القلب، وأعادوا الفرح لقلب والديه وحوّل للعمليات، هناك مكث سبع ساعاتٍ، مضت كسبعةٍ أعوامٍ تعلقا بخيطِ أملٍ رفيع، لهجا بالدعاء، والمناجاة، "كنت أبكي، أتضرعُ إلى الله، لم استطع الجلوس، لم استطع النظر بأي إنسان، زوجتي الحامل أيضًا كانت بنفس حالتي، أحدق في سقف الصالة مغمضًا عيني، أنتظر خروج الطبيب ليقول لي: ابنك تحسن".

لكن في جعبة الطبيب الذي خرج شيء خالف توقعاته: "ابنك حالته خطرة، الرصاصة اخترقت رئته ولازم اجراء عملية قص لها .. ما بديش اجاملك، وأقلك بده يعيش، وضعه خطير جدًا"، وكأنَّ الطبيب كان يحول تخفيف وطأة الخبر، أو تجزئة الصدمة، في النهاية الصدمة واحدة سواء جاء الخبر مرة واحدة، أو على فترات وساعات، أضرم القلق واستعر بداخله.

بعد برهةٍ من الوقت حاولت إحدى الفضائيات إجراء مقابلة معه داخل غرفة العمليات، وقبل بدء التسجيل تجمع الأطباء حول محمد فجأة، وبدأوا بمحاولة إنعاش قلبه مرة أخرى، لكنه روحه صعدت إلى السماء، "رأيت ابني يصاب أمامي عيني، ويتوقف قلبه كذلك، وانا الذي كنت أخاف عليه من الهواء" لم يستطع حبس دموعه هنا.

في المقعد الخلفي من المركبة، كان محمد ينبضُ بالحياة، ذاهب في مشوار عائلي ينظرُ للفضاء الواسع أمامه للأشجار للجبال للورود التي سيتسابق مع فراشاتها ينظرُ من شرفة المركبة للطبيعة التي ستحتضن طفولته وشبابه – هكذا كان يظن صاحبنا الطفل - يضعُ بعض الأطعمة بجانبه، يتقاذف الفرح بداخله.

جنود الاحتلال مستعدون دومًا لقتل كل فرحةٍ، وتفريق كل شملٍ أطلقوا الرصاص عليه، ونزفت دماؤه التي اختلطت مع الطعام، طفل صغير لم يتجاوز أحد عشر عامًا يعدمُ بدمٍ بارد وهو يسير بمركبة مع عائلته، ذنبه أنه ابتسم أنه خرج للتنزه وللبحث عن فسحة فرحٍ في حضن والده هربًا من صور المآسي، لكنه كان الهدف والقصة التالية.

وجع الفراق يطبق على صوت والده، تأبى الدموع إلا أن ترافقه وتلتصق به "ربيته تربية صحيح، أتم ختم حفظ القرآن الكريم في رمضان، أذكر أنه صام رمضان وهو بالصف الأول، كنت أقول له: أفطر يابا انت صغير، لكنه واصل الصيام، حاول صيام العشر من ذي الحجة الأخيرة لكني أخبرته أنه ليس مطلوبًا منه، وأنه صغير، فصام يوم عرفة، وظل وأقفا على رأس شقيقته عنان حتى لا تفطر، دائمًا يخبرني أنه يتمنى الصلاة بالأقصى وحققت له ذلك، وأن يؤدي مناسك العمرة والحج".

5 رصاصات

تشعر بعمق الحزن الذي يرافق صوته والده "أربعة عشرة رصاصة اخترقت السيارة، خمس منها أصابت ظهر محمد، شو سوينا عشان هيك يعملوا فينا (..) رحنا نجيب لقمة عيشنا، محمد ما سوى شي، بعد ما قتلوا محمد ضيعوا عمري، سبع سنين وأنا استناه".

بفرحةٍ لم "تسعها الدنيا" قرعت أجراسها في البيت، طلَّ محمد على الدنيا، "كنت فرحان فيه كتير، اخافه عليه من الهواء، المنشفة التي استعملها ما اخليه يمسح فيها من خوفي عليه؛ فرحت يوم ما نولد، كنت استناه يكبر أفرح فيه بالتوجيهي بالجامعة لما يتزوج ويكبر وأشوف أولاده"، كلها أحلام تبخرت الآن " لم يكن محمد ابنا فقط، بل صديق لوالده.

يقفُ والده على نوافذ الذاكرة التي يلمعُ منها محمد "قال لابن اخويا قبل ساعات من استشهاده أنه رأى نفسه يذهب للبحر وهناك أطلق رصاص عليه دخل في ثلج أبيض، قبلها بساعتين ارتدى شال أبيض ولف رأسه كما يلفُ الموتى يردد: عالقدس رايحين شهداء بالملايين".

ادخر محمد "عيديته" لشراء ملابس وحقيبة للمدرسة، في أحد أرفف ذاكرته يحرك صوته مشهد من أيام العيد "ذهبنا لشراء أضحية لجده وكان فرحًا، وطلب أن نحضرها لمنزلنا"، تختزن الذاكرة كذلك موقفًا آخرًا، حينما نال العلامة الكاملة في الامتحانات الدراسية، لكن وجهت طموحه كانت تفوق آخر، حدث به والديه حينما فرحا لتفوقه المدرسي: "بدي نجاح الآخرة، لما انزل القبر وأخد فيه امتياز".

تسمعُ صوت بكاءه، وكأنها قطرات ماء هاربة من غيمةٍ ممطرة "دفنت ربطة الخبز المغمسة بدمه في قبره، بلقمة العيش التي كان يحملها، لتكون شاهدة على الجريمة (..) أحدثك الآن وأتخيل صورته وهو يقفز أمامي، يلعب مع أخوته، لم نصدق أنه رحل وفارقنا".

تطفو بقايا تفاصيل الجريمة على حديثه "أخبرتُ لاحقًا، أن هناك شخصًا جاء ودفن جنينًا متوفيًا، في المقبرة أسفل النقطة، فنزل الجيش لتفحص الأمر وأخرجوا جثة الجنين مدة ساعتين في الشمس، ويدعون أنهم اشتبهوا بنا لحظة المرور، أنظر كيف أصبحنا نقتل وتعدم حياتنا لمجرد الشك، فما ذنبنا بذلك!؟ ولماذا قتلوا ابني!؟".

مضت الليلة الأولى لغياب محمد ثقيلة على قلب الأب، لم يزره النعاس ولم يسدل هذه المرة ستار جفنيه، لكي يوقظه محمد من غفوته، انطفأ وهج الفرح بداخله، دفن محمد بجوار عمه الشهيد الصحفي أمجد العلامي الذي استشهد في 18 مارس/ آذار 2003، وبجوار خاله نضال العلامي الذي استشهد في بعد عمه بيومين حينما اعتدى جنود الاحتلال على بيت العزاء، وكان يتمنى أن يدفن بجانب قبريهما.

يتكرر نفس المشهد، فأثناء مراسم دفن محمد ومواراته الثرى اعتدى جنود الاحتلال على الجنازة، أحد الشبان الذين كانوا يحملون جثمانه ويدعى شوكت عوض (19 عامًا) طالته رصاصة إسرائيلية فاستشهد، ثمانية عشر عامًا فرقت الحدثين، لكن بقيت آلة القتل واحدة لا تتغير مع مرور الزمن.

"ذهبت إلى قبره في الصباح، أحمل أشواقي إليه، للحديث معه، لرؤيته، لضمه، وضعت الورود التي كان يسقيها في بيتنا على قبره " حدثه والده طويلا، حديث بلا رد، من جانب واحد، غلبته دموعٌ روت قبرَه وبللته، راضٍ بقضاء الله لكن حرقة قلبه الذي يلسعه الفراق يرسل نيرانه تنهيدات تحملها أحباله الصوتية المختنقة "فديته للأقصى، والقدس .. محمد ابن الشعب الفلسطيني".

فمن سيعيد لوالده الحياة بعدما خطفوا نبضه!؟

#محمد_العلامي