شبكة قدس الإخبارية

أبو هيثم "ملك التاكسي".. الجندي المجهول الذي لم يمنعه قصف الطائرات عن عمله

218066024_794394537802217_1351873761437748482_n
دعاء شاهين

غزة - خاص قُدس الإخبارية: بينما كانت غزة ساحة حرب والصواريخ تنهال من كل اتجاه، في اليوم السادس من العدوان الأخير، بالكاد خلد سائق التاكسي "أبو هيثم" للراحة من عمله، بعد أن أنهك جسده التعب بعد يومٍ شاق ومرعب.

رن هاتف المكتب الذي يعمل به، الساعة كانت تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، وبالطبع لا يجرؤ أحد على التحرك في شوارع غزة، فكل ما تصوره طائرات الاستطلاع الاحتلال التي لا تنفك عن سماء غزة، يتم قصفه على الفور.

أجاب أبو هيثم  على مكالمة خاطفة :" ألو مكتب تكسيات مصر نريد تاكسي طلب لتوصلينا على شارع مسعود شمال قطاع غزة". السائق مرتبك كيف يمكنه العبور في تلك المنطقة وهو يعلم أنه ذاهب لموت محتم، وتحديدًا في هذا التوقيت، فالمنطقة كلها شبه عسكرية مغلقة والظلام دامس، ولا ينير المنطقة بين الفينة والأخرى سوى لهب الصواريخ.

لكنه سريعًا ما وافق، لتلبية الطلب أخذ مفاتيح مركبته وقبض بيديه على  المقود وذهب لتوصيل الزبون مصارعًا الأسفلت، وأخذه لمنزله في تلك المنطقة دون أن يسأله ما الذي أخرجه في هذا الوقت، لم يكن يفكر حينها سوى بالنجاة والخروج من تلك المنطقة بأمن وسلام.

الخمسيني أبو هيثم أبو حجيلة، "ملك التاكسي"، سائق أجرة من الطراز الأول، فهو يعمل في مهنته منذ 45 عامًا، يحفظ شوارع قطاع غزة عن ظهر قلب، يعيش أحلامًا وآمالا لم تنجح صواريخ الاحتلال ومدافع في قتلها.

يقول أبو هيثم: " أن تكون سائق أجرة وتعمل في الحرب يعني أنك ستواجه الموت في كل لحظة، وبنفس الوقت ليس أمامك خيار آخر سوى أن تبقى على رأس عملك لأنه في كل لحظة هناك ناس بحاجة للتنقل والهروب من حمم الصورايخ، وأيضًا من يريد أن يذهب لعمله خاصة الأطقم الصحافية والطبية وغيرهم ممن تتطلب مهنتهم منهم التواجد فيها على مدار الساعة، فالجميع أمام مسؤولية إنسانية ويقاوم فكلنا أمام خطوط النار".

يضيف: "منذ بداية الحرب التي استمرت 11 يومًا، لم أترك مقود التاكسي للنوم سوى ساعتين فقط، طوعت نفسي من أجل البقاء على رأس عملي، حتى عائلتي لم أكن معها، تركتهم في تلك الفترة وكنت أكتفي فقط بالمكالمات الهاتفية للاطمئنان عليهم، حيث كانوا ينتظرون مكالمته على أحر من الجمر".

لم يكن سهلًا على أبو هيثم ترك عائلته، خاصة عندما كان يهاتف أحد أبنائه ويرد عليه حفيده: "وينك يا جدو مشتاقين إلك متى بدك تيجي وتيجبلنا حاجات زي كل مرة، احنا بنستناك"، كانت تسقط على سمع جدهم فيقبض على جمر مشاعره حتى لا تذرف عيناه الدموع شوقًا لأحفاده الذين يعتبرهم أغلى ما عنده، وكان الخوف يسكن قلبه أن تقتله طائرات "إسرائيل" وتحرمهم من اللقاء مرة أخرى.

يروي أبو حجيلة: "عندما كنت أسمع صوت أحفادي على الهاتف ينتابني الأمل والصبر رغم التعب والإرهاق الشديدن الذي كنت أعيشه في الحرب، خاصة بعض مرور مواقف كانت من أصعب التجارب التي مررت بها طيلة حياتي".

 ويذكر أنه بينما كان متوجهًا لتوصيل أحد الزبائن في منطقة المنطار شرق قطاع غزة، قصفت طائرات الاحتلال من نوع إف 16 هدفاً في المنطقة، فتوجه بالفور للمكان، عله يقدم أي مساعدة وينقل أي من الأشخاص في حال كان هنالك إصابات.

لكنه عندما وصل شعر بصدمة  كبيرة بدأ صوت تكبيراته بشكل لا إرادي تعلو في المكان ويصرخ" الله أكبر .. الله أكبر هذا إبني خميس مصاب، غرقان بدمه أكيد استشهد، خميس شهيد". ثم قام بنقله بالفور لمشفى الشفاء فتبين  أنه مصاب وحالته حرجة مكث في العناية المكثفة ثلاثة أيام ثم خرج بعد أن استقرت حالته.

المحزن في الأمر بالنسبة لأبو هيثم أنه، حتى وإن كان إبنه في المستشفى فهو مضطر أن يبقى ملازماً لعمله، وكان يحاول بشق الأنفس، أن يوازن بين مشاعره والاطمئنان عليه عبر مكالمات  هاتفية قصيرة، وأحيانًا زيارات خاطفة للمستشفى لا تتعدى دقائق معدودة.

يعلم أبو هيثم أن وجوده على رأس عمله أمر في غاية الأهمية، فهو لم يكن مجرد سائق تاكسي فكان يعمل مسعف في حال تطلب الأمر منه ذلك، وأحيانًا مساعداً للطواقم الصحافية في عملهم والنزول معهم للميدان، فكان الجندي المجهول الذي يتنقل في كل مكان.

ويذكر لحظة قصف برج الجوهرة، حيث كان متوجهًا لنقل  مجموعة من الصحافيين لتغطية من مكان عملهم، حينها لم يكن بينه وبينهم وبين الموت سوى شعرة، حيث قصفت طائرات الاحتلال بصاروح إنذار تمهيدًا لقصف برج الجوهرة وكانوا بالمقابل منه، فالقدرة الإلاهية تدخلت لإنقاذهم فمع قوة ضربة القصف تحركت السيارة عن مسارها سريعًا، وقادها أبو هيثم لمنطقة لا تبعد كثيرًا المهم أن لا يطولهم الاستهداف حيث صورايخ الاحتلال لاترحم، كما يقول.

ويردف قائلاً وهو يضع يديه على جبينه، حيث مشاعر الأسى وذكريات الحرب ما زالت تؤثر عليه: عملت سائقاً ما بين فترة الانتفاضة الأولى، والاجتياحات والحروب على القطاع، لكن الاحتلال في كل حرب يكون أشرس مما قبل.

لم تكن هذه التجربة الأولى لأبي هيثم، فقد شهد الحروب المتكررة على القطاع، لكنه لم يفكر لو للحظة بترك مهنتنه، كما يقول، بل يؤكد على أن عمله في الحروب ذو طابع إنساني أكثر من كونه يميل للعائد المادي، رغم تعرضه للإصابة في قدمه بينما كان يعمل خلال حرب 2014، لكنه مصر على ممارسة مهنته حاملًا روحه على كفه.