شبكة قدس الإخبارية

اعتقالات الداخل: ما الذي يريده الاحتلال؟

أحمد العاروري

فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: في هذه اللحظات التي تقرأ فيها هذا التقرير، ربما يتعرض فلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 لعملية اعتقال من جانب قوات الاحتلال، في حملة هي الأشرس منذ سنوات، بعد هبة شعبية أربكت الأجهزة السياسية والأمنية الإسرائيلية، وأعادت الزمن إلى الوراء قبل النكبة التي فتت المجتمع الفلسطيني ودمرته.

تشير آخر الإحصائيات إلى أن الاحتلال اعتقل أكثر من 1700 فلسطيني من بلدات ومدن الداخل المحتل، منذ انطلاق الهبة الشعبية، وما زالت الحملة مستمرة، كما أعلنت شرطة الاحتلال بمشاركة المخابرات وقوات خاصة.

وأوضح المحامي يامن زيدان في حديث مع "شبكة قدس"، أن الاعتقالات تركزت أساساً على النشطاء والمنظمين في الأحزاب والشبان والفتية الذين شاركوا في التظاهرات.

وأكد زيدان تعرض عدد من المعتقلين للاعتداء من عناصر شرطة الاحتلال والقوات الخاصة، خلال اعتقالهم، وتعرضوا لانتهاكات سافرة.

يرى نشطاء ومحللون أن حملة الاعتقالات محاولة "يائسة" من الاحتلال لمنع اندلاع انتفاضة في الداخل يبدو أنها اقتربت، وهو ما يتفق معه الناشط مهند أبو غوش الذي اعتبر أن "إسرائيل في موضوع الاعتقالات ينطبق عليها المثل الفلسطيني: واوي بلع منجل".

وأضاف: يبدو أن الاحتلال واقع في حالة تخبّط، وبهذا المعنى لا أظن أنه من الممكن أن الاحتلال لديه خطّة لمنع اندلاع هبة، أو قدرة على تخيّل ردة فعل الشارع، ولذا فهو واقع، في هذه المرحلة بالذات، في دائرة ردود الفعل الميكانيكية.

واعتبر أبو غوش أن منظومة الاحتلال تعمل بشكل "ميكانيكي" على الشكل الذي تعوّدت عليه، قمع ثم قمع، من دون الحاجة لأن يكون لديها خطّة، وأوضح: أعلن جهاز الشرطة الإسرائيلي عن حملة الـ “500" وقال بأن الحملة تستهدف "محرّضين ومشاغبين" يمكن إدانتهم بعد أن حضّرت النيابة والشرطة ملفّات فردية لكل منهم تكفل إدانته بشكل سريع، الحاصل على الأرض كان حملة شديدة الارتباك، عنفها بالذات يشي بارتباكها، الكثير من المعتقلين خرجوا خلال أقل من 48 ساعة بعد الاعتقال، من دون أن يتمكن محققو الشرطة من الإيقاع بهم.

وأكد أنه رغم أن "الجهاز الأمني للاحتلال يعمل بصورة ميكانيكية وسخيفة على هذا النحو، إلا أن دوائر صنع القرار تدرك أن حملة اعتقالات واسعة النطاق ستخلق حالة جماهيرية مضادة، نحن هنا نتحدث عن 500 معتقل بتهم أمنية سيضطر إلى حبسهم، لدواعي لوجستية، إما في أقسام مخصصة، أو مع سائر المعتقلين الفلسطينيين".

وأشار إلى تجربة "سجن أنصار" التي أسهمت كما قال في مد لهيب الانتفاضة الأولى في أرجاء الأرض المحتلة، وأضاف: هذا عن السجناء، أما عن الدائرة الأوسع المحيطة بهم من عائلات وأصدقاء، فسيجرب هؤلاء يوميا سقوط كذبة التعايش، ويضطرون للتعامل مع أحط المهمات الوظيفية في الجهاز الاحتلالي: سلطة السجون وسجانيها.

وتابع: علينا أن نذكّر بأنه وكما أن تجربة ليلة الاعتقال هي بحد ذاتها تجربة جامعة وتخلق عداء مع الاحتلال وأجهزته، فإن تجربة الاحتفاء بالإفراج عن هؤلاء بعد شهور من اعتقالهم، فيما لو طالت فترات الاعتقال، سيعني استعادة الفضاء الجماعي الفلسطيني، هذا سيكون أيضا تذكيرا مهمّا بالسبب الذي اعتقل من أجله هؤلاء، وسيعني محطة جديدة من الاشتباك مع صورة المحتل.

وحول هل تنجح الاعتقالات فعلاً في منع تمدد الفعل النضالي، قال: في حالة المد الانتفاضي، لن تعمل الاعتقالات سوى كونها محركا لإشراك المزيد من الدوائر في الفعل. أعتقد أن المطلوب الآن من المجتمع الفلسطيني العمل على مد بنية تحتية تكفل احتضان السجناء وعائلاتهم. نحن لا نتحدث عن منظومة مالية مثلا، بل منظومة إسناد مجتمعي قادرة على تذكير المعتقلين المرتبكين في تجاربهم الأولى، بأن ما يقومون به ليس فعلا فرديا، وهو إسهام في البطولة الجماعية وفي الدفاع عن عائلاتهم وشعبهم.

واعتبر المحامي يامن زيدان أن هدف الاعتقالات "ترهيب الناس وتخويفها وبالتالي ردعها من الاشتراك في هبات ومظاهرات ومستقبلاً".

وأكد أن "مردوداً إيجابياً" سينعكس على المجتمع الفلسطيني من هذه الاعتقالات، وأوضح: نريد استثمار هذه الاعتقالات لتوعية الشباب وطنياً وسياسياً.

وأشار إلى أن الاحتلال لم يتوقع الهبة التي اندلعت في الداخل، وقال: الاحتلال أضعف مما نتصوره، وهو ليس قوياً بقدر ما نحن ضعفاء.

ويتفق الباحث في الشؤون الإسرائيلية، عماد أبو عواد، مع من يرى أن الهبة شكلت "صدمة للاحتلال"، وقال: الاحتلال كان يعتقد أن مشاكل فلسطيني الداخل تنحصر في قضايا العنصرية والفقر والمطالب المعيشية وغيرها، ووصل إلى وهم أنه نجح بأسرلة وتدجين قسم منهم.

وأضاف: بعد 70 سنة من مشاريع الاحتلال عادت المطالب وطنية مرتبطة بالأرض والحق الفلسطيني التاريخي، وهذا عودة للرقم 1948، وإذا كان الاحتلال يعتقد أن الصراع يدور على 1967، جاء صوت من الداخل كي يقول نحن لنا مشكلة معك.

وتابع: هذه الهبات ستكرر وخطورتها في الاحتكاك المباشر، 2 مليون ونصف في احتكاك مع الاحتلال، والخطر يمكن أن الهبة أوصلت رسائل أنه "لا تعايش" مع الإسرائيليين، وهو ما سيدفع المستوطنين الذين لا يريدون الانخراط في الصراع المغادرة.

وقال: الاحتلال لديه قناعة أن الاعتقالات لن تغير شيئاً على أرض الواقع، لكنها لا تقدر على عدم فعل شيء، وهي في جزء منها لإشباع الرغبة الانتقامية، وما تقوم به هو الانتقام بهدف الانتقام فقط، وفي تصوري أن هذه الاعتقالات لن تمنع هبة قادمة لأن معظمهم عملياً سيتم الإفراج عنهم، وفي الداخل لديهم خبرة في مواجهة المخابرات والقضاء.

يرى أبو غوش أن ما وصل إلى نقطة اللاعودة، بعد هذه الهبة، هو "الوهم" الذي يحاول بعض المطبّعين ومربّيهم الإسرائيليون من محبي السلام، بيعه للفلسطينيين.

وتابع: نقطة اللاعودة هذه قطعناها منذ زمن، ويتم التأكيد عليها بشكل مستمر، نذكّر مثلا بقانون "يهودية الدولة"، و "مشروع برافر"، وهدم قرى بأكملها على رؤوس ساكنيها (أم الحيران، والعراقيب، في النقب، والمخططات التي تستهدف جبل البابا في القدس، ومسافر يطّا وسوسيا قرب الخليل). 

وقال: كل ما فعلته الهبّة الأخيرة هو تقديم الإجابة الفلسطينية على نقطة اللاعودة هذه، فيما يتعلق بدولة الاحتلال والأسرلة: لست واثقا أن هذا أصلا ما تريده الحكومات الإسرائيلية اليوم، لقد انفجرت هتافات أبو عبيدة في قلب يافا وحيفا واللد والنقب وأم الفحم، لحظة انطلاق هذا الهتاف هي لحظة تحرر فارقة، ولا شيء بإمكانه إعادة الزمن وراء لحظة التحرر هذه.

وأضاف: إن لم يكن فشل 73 عاما من محاولات الأسرلة كافيا لكي يدرك الإسرائيليون أن عليهم الإقلاع عن المحاولة، فعلينا بصراحة أن ننتزع لقب ملك الصبر من صاحبه الأصلي ونمنحهم إياه، تقديرا لمجهودهم.

من جانبه، يرى الباحث في الشؤون الإسرائيلية، عماد أبو عواد أن الهبة الحالية البداية التي تقود إلى هبات ممتالية، وقال: الهبة القادمة لن تطول.

وحول دور المقاومة في غزة في دعم الهبة، قال: الذي حرك الشارع هو المقاومة، وأول من هتف للمقاومة هم أهالي القدس، وارتباطهم فعلياً بالداخل أكثر من الضفة، وحراك المقاومة شجعت الفلسطينيين في كل مكان ومنحتهم الثقة أن بإمكانهم التغيير، وعندما يعتقل الاحتلال الفنان معين الأعسم مثلاً ليس على خلفية أغنية، بل لمعاقبته على تفاخره واعتزازه بالمقاومة.

وتابع: الأخطر من الإضراب الشامل الذي خاضه الفلسطينيون في كل فلسطين، هو رفع المطالب الوطنية، نتنياهو قال في تصريحات هؤلاء يتم توجيههم من قبل حماس، في إشارة للمتظاهرين، والاحتلال انزعج من الالتزام الكبير بالإضراب، لذلك هو دائماً يصف فلسطيني الداخل بالعرب، لأنه يحاول تصويرهم بأقلية عربية، وليس فلسطينيين لديهم هوية وطنية.

الاعتقالات: سياسات السيطرة على الجسد

تشير الباحثة مي هماش إلى أن الاعتقال لدى الاحتلال، يتم عن طريق ثلاثة طرق، إما بالاستدعاء باتصال ضابط المنطقة هاتفيا بالشخص أو بمنزل عائلته أو من خلال مداهمة المنزل ليلاً، أو من خلال التوقيف على الحواجز، وقالت: كل واحدة من هذه الطرق تشير لآلية تحكم بالجسد بكل مكوناته عاطفياً ونفسياً وجسدياً.

وتابعت: الاتصال الهاتفي الذي يتلقاه الفلسطيني من ضابط مخابرات الاحتلال، يكون على صيغتين الأولى وهي "المحادثة اللطيفة" التي يكون فيها الحديث خال من معاني السلطة ويتم في الحديث عن "تعال نشرب فنجان قهوة"، في محاولة لكسر الحواجز، وأوضحت: يحاول الضابط كسر حالة الحدة والعنف والقوة المنقوشة بأذهان الفلسطينيين عن العدو الصهيوني، فيخلق صراعاً داخلياً لدى المستدعى: "شو رح يسألوني وشو رح اجاوب.. واذا جاوبت هيك فأنا بقدم هي المعلومة"، ومن الممكن أن يحصل انهاك نفسي لديه وهو أحد أهداف الاستدعاء، وما ينقصه هو ورقة كي يدلي بإفادته عليها.

وأشارت إلى "سياسة العزل قبل التحقيق" التي تحدث عنها بشكل موسع الأسير المحرر والكاتب وليد الهودلي؛ وهي تحول الاسير لمحقق ومحقق معه وما ينقصه هو كتابة الإفادة، وقالت: هذا بتم من خلال وضع الشخص المستدعى داخل إطار نفسي يلزمه بأن يفكر بهذه الطريقة مثل أن يكون موعد الاستدعاء بعد أسبوع أو في اليوم التالي، ويتعمد الضابط تركه بس يستنى قبل جلسة الاستجواب ساعات طويلة، وقد يؤجل الجلسة إلى موعد آخر، بهدف خلق توتر للجسد تدفعه "لإعادة ترتيب" أولوياته التي يبني شخصيته عليها، وهي "المجتمع، والأصدقاء، والعائلة، والذات".

وتابعت هماش: الهدف هدم الشخصية و"السوبر إيجو" أو "الأنا العليا" وبدلاً من أن يفكر الشخص بهذه الهرمية، يجبر على الذهاب للسؤال عن الذات، والخوف من المجهول، وهذا طبعاً سؤال أناني تحت استعمار استيطاني، لأن جسدي هو جسد الكل الفلسطيني، وبمجرد التخلي عن هي الفكرة يعني سهولة الوصول للمعلومات عند الشخص المستدعى وسهولة تحطيم شخصيته وتفكيك وعيه وحتى محوه.

وأشارت إلى كثيراً من الأسرى لديهم الوعي لسياسات الاحتلال، ويكونوا "استراتيجيات دفاعية" ويكون لديهم موقف منذ اللحظة الأولى برفض تسليم حالهم، وهذا يعطي انطباعاً لدى المحقق أننا نتعامل مع شخصية عنيدة فيها روح تمرد ويجب أن يستخدم القوة لإخضاعها.

وأضافت: بعض الأسرى يتوجهون للاستدعاء لكنهم لا يلتزمون الصمت، ولا يجيبون إلا بإجابات مقتضبة، وهذه استراتيجيات يتم بلورتها خلال التحقيق، ويختار المحققون الأدوات المناسبة لإخضاع الأسير.

وحول أهداف مخابرات الاحتلال من الاتصال بأهالي الأشخاص المستهدفين، قالت: الاتصال مع العائلة يعكس نوعاً من التهديد المبطن بفكرة الأهل والعقاب الجماعي المحفور بذاكرة الناس، والذي قد ينعكس على كل العائلة سواء بهدم المنزل أو اعتقال أحد أفرادها، لذلك قد يجبر بعض الأهل على أن يرضح نجلهم للاستدعاء لتجنب كثير من العقوبات والتبعات.

وتابعت: في هذه الحالة إذا لم يملك الشخص الوعي الكافي فقد يخلق عنده شعوراً "بالتخلي"، الأمر الذي قد يؤثر بشكل واضح وعلى قدرته على خلق استراتيجيات مقاومة وآليات صمود، وطبعا لا نستطيع النعميم بهذا الشعور "التخلي" لأن هناك وعياً وإن كان مخفياً عن هدف هذه الاستراتيجية.

وحول المداهمات التي ينفذها جيش الاحتلال للبيوت، قالت: الاقتحامات والمداهمات تتسبب بكثير من المشاعر التي تنعكس على الجسد وتكبله، فالمداهمة في منتصف الليل وهو الوقت الحميمي سواء للنوم أو لخلق مساحة خاصة، تعني "تفكيك العوالم" الآمنة التي تخلقها الأسرة والشخص لنفسه.

وأضافت: هذا الانتهاك بترتب عليه اقتحام الخصوصية الجسدية سواء للذكر أو الأنثى بما يحمله من انكشاف على الجسد وتعريته ومصادرة الأغراض الخاصة، والأهم برأيي تماهي الحدود الجسدية وقدرة الجيش على تثبيت الجسد وتذليله لوصم القوة ليس فقط على جسد الأسير بل على كل أفراد عائلته، على اعتبار أن "جسد واحداً سيربي باقي الأجساد ويخلق فيها الانضباط".

واعتبرت مي أن الاستدعاء على الحواجز "مخيف" كما تشير تجارب عدد من الأسرى، وأوضحت: لأن حالة من القلق ستولد داخل الأسير حول ردة فعل أهله حول فكرة أنه خرج ولم يعد، وحتى لو أفرج عنه بعد فترة من الاحتجاز فإن العائلة ستبقى مسكونة بالخوف من مسألة التنقل، ويخلق لديها "حالة خضوع" مبطنة تتمثل بالنصائج التي توجهها له.

وأضافت: الاستدعاء على الحواجز يعني الاستفراد بالاسير وإشعاره بالمراقبة والسيطرة على تحركاته، وهذا طبعا يترك لديه شعوراً بالخوف، والمراقبة من أشد وأعنف وسائل التعذيب الخفية، وتعمل على تحويل الإنسان لشخص منضبط وبالمعنى الاستعماري لشخص منهزم وخاضع ومستسلم.

وتطرقت إلى التقنيات التي تستخدمها مخابرات الاحتلال خلال التحقيق والاستجواب، وقالت: كثير من التفاصيل في مكان وزمان التحقيق تكون مدروسة، المكان دائماً ما يثير الرعب لدى الأسير، لأن طبيعة البناء فيه تكون قريبة من المناطق المحصنة التي لا يمكن اختراقها ولا يعلم أحد ماذا يحدث داخلها، وهو ما يخلق فكرة "المصير المجهول".

وتابعت: يبدأ الأسير بطرح الأسئلة داخله: في أي معسكر أو زنزانة أنا؟ مين سيحقق معي ومتى؟ وعندها تبدأ "حركة الزمن" التي وصفها وليد دقة "بالزمن الموازي"، وهو زمن موازِ للواقع ولكنه ليس في توقيته، الزمن يسير فيه بطريقة مختلفة تماماً عن أرض الواقع.

وأوضحت: هذا يعود لجملة من التفاصيل المتعلقة بالزنزانة التي تكون خالية وصغيرة ورائحتها سيئة وباردة، وغير صحية ولا تناسب الحياة البشرية، وأشارت إلى تجربة الأسير المحرر عصمت منصور الذي قال إنه اكتشف عوالم جديدة بعد أن تم إنارة الزنزانة التي كان محتجزاً فيها، كتابات الأسرى الذين مروا سابقاً على الزنزانة، بيت نمل فيها، وهي محاولات لكسر جمود المكان والزمان الذي يضع الاستعمار الأسير فيه كي يدفعه للبحث عن الخلاص الفردي.

وأشارت إلى وسائل مختلفة تتبعها مخابرات الاحتلال لإخضاع جسد الأسير بكل بناه الذهنية والعصبية والعاطفية والنفسية والبدنية، وتابعت: زنزانة التحقيق بعيداً عن تصميمها الهندسي الذي يهدف لمحاصرة عالم ومخيلة الأسير في مكان واحد وهو الكرسي المشبوح عليه، يضع الاحتلال وسيلة المراقبة من خلال الكاميرات وفي الجدران الذي يراقب المحققون الأسير من خلاله، وهذا يترك لدى الأسير شعوراً أن أي تصرف يقوم به هو استجابة للحالة التي يحتجز فيها، فيخضع جسده حتى يخفي توتر جسده وتفاعله مع المكان.

وأوضحت: مثلاً يحاول الأسير منع نفسه من هز قدمه وهو وضع طبيعي عند التوتر، أو أن يقضم أظافره أو أن يصرخ ويشتم الخ من ردات الفعل الطبيعية جداً لجسد في موضع سلطة ومراقبة، وبالتالي هي لها انعكاسات على الجسد حيث تتعبه كثيراً وتفقده قدرته على المقاومة رويداً روديداً.

وأشارت إلى أن بعض الأسرى يستغل هذه اللحظات بقراءة القرآن، وبعضهم بالغناء للشيخ إمام مثلاً، أو بالضحك، وهي كلها استراتيجيات لتحرير الجسد من قيود المراقبة.

وحول التعذيب، قالت: قبل عام 1999 أصدرت حكومة الاحتلال بتقييد التعذيب من خلال عملية بيروقراطية، ليتم السماح باستخدام أداة تعذيب معينة وفق دراسة بعدّها المحقق ليقنع فيها القاضي.

وأضافت أن القرار صدر بعد ارتقاء عدد من الأسرى نتيجة الوحشية المفرطة خلال التعذيب، وقالت: الشخص الذي يمارس التعذيب ليس بيروقراطياً يقوم بوظيفة لتحقيق هدف، بل يحقق ذاتيته بالتعذيب وبحصل على علاوات ورتب من خلال الاعتراف الذي حصل عليه من قوته.

وتابعت: بعد 1999 بقي التعذيب لكن حصلت تغيرات بسيطة، حيث نص القانون أن التعذيب الجسدي لا يستخدم إلا في ما يسمى حالة "القنبلة الموقوتة" وهي أن تزعم المخابرات أن لدى أسير معلومات خطيرة قد يقف خلفها احتمال وقوع عملية، فيتم استخدام التعذيب "بهدف ردعه"، حسب مزاعمهم.

وقالت: وهذا غير صحيح لأن وسائل التعذيب بقيت مثل ما هي، لكن القانون يقول إن الشبح مسموح لمدة 37 ساعة متواصلة، ويحتاج الاستمرار فيه إلى أمر قضائي جديد، فيقوم المحققون بإنزال الأسير على الزنزانة لمدة ساعتين، ويمارس بحقه وسائل تعذيب أخرى مثل الضرب على الباب أو تشغيل الموسيقى بشكل صاخب، لدرجة تفقده السيطرة على جسده وتنهار قواه بالمعنى الحرفي، ثم يعيدونه إلى الشبح دون الحاجة لاستصدار قرار قضائي.

وأشارت إلى "الشبح" أحد أدوات التعذيب، وقالت: الشبح ليس فقط بتقييد الأسير وتثبيت جسده بوضعيات مختلفة، في بعض الحالات يتم تحت المطر أو بوضعية "الموزة" وكسر الظهر، أو داخل الخزانة أو الثلاجة.

وأكدت أن للشبح أضرار على أجساد الأسرى، وأوضحت: أسير من الذين قابلتهم يعاني من مشاكل في المشي، رغم أنه مرت سنين طويلة على تحرره من السجن، نتيجة شبحه داخل الخزانة.

وقالت إن أحد أهداف التعذيب خلق حالة من إعطاب للجسد ليحوله إلى "عالة" غير قادر على القيام بالوظائف الأساسية له، وبعض الأسرى الذين شبحوا داخل الثلاثة لمدة طويلة على درجات حرارة متدنية، لم يستطع التعبير عن التجربة، سوى "بالتصفير" لأنه كان يقضي وقته بالتصفير.

ومن بين "التكتيكات" التي يتبعها الاحتلال في التحقيق "ثنائية المحقق الطيب والشرير"، وأوضحت مي: أحد المحققين يحاول لعب دور الرجل الكبير المثقف الهادئ الذي "لا يحب العنف" وهو النوع الأحقر، في مقابلة مع محقق إسرائيلي يكشف أن المخابرات تحتاح الذي يلعب دور المحقق الطيب كثيراً لأنه هو "الأقوى"، حسب وصفه، والقادر على الوصول إلى "سر الأسير" لأن الإنسان تحت الضغط بحاجة لإخبار قصته.

وتابعت: بعض الأسرى تعرض لتعذيب مركب، بحيث يكون مشبوحاً ويتعرض للصعق أو الضرب مع توجيه الإهانات له، والتحرشات الواضحة به التي يمكن أن نصفها بأنها "تعذيب جسدي وجنسي".

وقالت: هذه الحالة من التعذيب أسميها "ألم موازي للثقافة" خيث تتفكك كل عوالم الأشخاص الثقافية الذين لا يملكون الأيدلوجيا السياسية الكافية، فيجبر على البحث عن "خلاصه الفردي"، لأنه لا يملك الوعي والثقافة والقوية الجسدية التي تسمح له بالصمود، بالمقابل هناك من يلجأ خلال تعرضه للتعذيب للاقتداء برموز مثل بلال بن رباح، أو جميلة بو حيرد في حالة الأسيرات، أو إبراهيم الراعي في حال كان الأسير يسارياً مثلا".

وأكدت هماش أن وسائل التحقيق والاستجواب المعروفة وتلك التي لا يقدر الأسرى التعبير عنها، هدفها الأساسي الوصول "لمحو جسدي وثقافي،جسدي بإعطاب الجسد، وثقافي بالتشكيك بالمعلومات التي يحملها الأسير وبالتالي تحويله إلى شخص منهزم ومشوه ثقافياً، أو على الأقل كي وعيه بحيث لا يعود لأعمال المقاومة، وكسر الرمزية المرتبطة بجسده لدى الناس".

 

#غزة #فلسطين #الاحتلال #الأسرى #إسرائيل #الضفة #المقاومة #اعتقالات #الداخل #التعذيب #التحقيق