شبكة قدس الإخبارية

معين العالول.. "طبيب الإنسانية" وداعا

17445516_401
يحيى موسى

 

غزة - قُدس الإخبارية: ذاك المساء كان مختلفًا، به طقوسٌ ومراسم روتينية جميلة، مساءٌ لا تزال الصواريخ الإسرائيلية فيه تضرب منازل المدنيين في قطاع غزة، بلا هوادة ولا رحمة، أصواتُ القصف كرعد لا يتوقف، وزلزال يغير معالم أي منطقة ومنزل وصلته يداها الآثمة، يلقي الطبيب معين العالول نظرته على ساعة الحائط بعدما طرقت الثانية عشرة منتصف الليل ودخلت في يوم جديد (الأحد 16 مايو/ أيار 2021).

ثم تفتح المذياع، وبدأت سورة "البقرة" تبعث الطمأنينة في قلب ابنته آية (25 عامًا) وهي تجلس بجانب والديها ترتعد من أصوات الصواريخ فوجود الأب "هو الأمان"، الشريط الأحمر على التلفاز يظهر احتدام القصف، ويبرز خبرًا عاجلاً: "المقاومة تقصف (تل أبيب)" يقفزُ الخوفُ في قلب ابنته.

كانت عقارب الساعة ثقيلة في دورانها وكأنها تجرُ حجارةً خلفها وهي تمر على قلب "آية"، لم تستطع إبقاء مشاعرها حبيسة لأفكارها "الله يستر من هالليلة"، فيما لا تتوقف إشعارات هاتفها المحمول من إرسال شحنة أخبار، لا تكف عن إصدار أصواتها، وبدأت الهواجس تتساقط على نوافذ أفكارها.

"ما رأيكم بالنوم بالصالون".. الخوف يستوطنُ صوتها وهي تحدث والديها.

تعلم آية صعوبة نقل والدها الطبيب الذي طرق من العمر سبعة وستين عامًا، ويجلس ممددًا على فراشه لا يقوى على التحرك منذ سبعة أشهر بعد تعرضه لكسرٍ في الحوض، ومؤخرًا فقط بدأ يتحرك بخطواتٍ ثقيلة بواسطة جهاز مساعد (ووكر). 

أحزمة الرحيل دون أن يدري

"لا، اذهبي أنت ووالدتك، وأنا هنا على سريري" قالها بابتسامة، وكأنَّه حدسٌ داخلي يشدُ به أحزمة الرحيل ويحزم حقائب الوداع، دون أن يدري ابتسم أيضًا: "ايش بده يجيني صاروخ، بنموت شهداء.. أحلى موتـ .." لم يكمل الكلام حتى قاطعته ابنته وزوجته "بعيد الشر، ربنا يحفظك".

"ما حدث كان غير متوقع".. تقول آية وهي تستحضر صورة آخر لقاء جمعها بوالدها: "كنت أجلس بجانب السرير على فرشتي، بينما والديّ ممددان، لم أرَ سوى لهب يحرقني ويسحبني وأتقلبُ معه في سواد".

فتحت عيناها بعدما انقشعت الغشاوة عنهما لتجد نفسها تحت ركام، للوهلة الأولى "لم أعرف إن كنت على قيد الحياة أم إني مت، لكن صوت أمي المختنق تحت الركام أعطاني إشارة  أني لا زلت حية: "آية أنت عايشة" بصوت مبحوح وبكثير من الصبر تحرك المشهد أمامها.

تعطلت حركة صوتها، وحبست دموعها التي تحاصر حواف عينيها وفقدت القدرة على المواصلة، لكن قساوة المشهد تجثم كجبل شاهق الارتفاع على عينيها، تعيد ترتيب الحدث "صرختُ بصوتٍ عالٍ: "وين بابا؟"، فأخبرتني أمي أنه حي، ولم أدرِ إن كانت تريد طمأنتي فقط، ثم بدأت بإزالة الركام الذي لم يكن كبيرًا فوقي".

أغمضت آية عينيها وأخذت نفسًا عميقًا، تهم للمناداة على الجيران وأبناء الحي من فوق شقتهم الواقعة بالطابق الأول (هكذا كانت تظن) قبل أن تحدق حولها لتجد نفسها في أسفل المنزل وقد ألقاهم الصاروخ خارجًا، هرعت لإنقاذ والدتها التي تحاصرها كومة من حجارة تغطي معظم جسدها ترتجف أطرافها، "مش حتقدري لحالك نادي على الجيران" امتثلت آية لأوامر والدتها وبدأت بالاستغاثة "يا ناس، بابا.. ماما تحت الردم".

كل الأحداث السابقة حدثت في أقل من دقيقة، سرعان ما خرج الناس على الصوت، وبدأت تصل سيارات الإسعاف والدفاع المدني، رغم اشتداد القصف الذي تزامن مع ارتكاب طائرات الاحتلال مجزرة في شارع الوحدة نتج عنها استشهاد 46 من الأهالي غالبيتهم من النساء والأطفال.

تنقش الحزن على جدار قلبها، وينبعث مع أحبالها الصوتية، تلسعها دموع الفراق "في المشفى علمت أنه استشهد، رحم الله روحه الطاهرة والله يصبرنا على فراقه".

ليس هناك أقسى على النفس من رؤية من تحب مُسجى بلا حِراك، لا تراه ولا يراك، رحل والدها ولا زالت همساته تئن في آذان آية وأخوتها الأربعة (شابان وابنتان)، ترك بصماته منقوشة على جدارِ قلوبهم، تصدح بداخلهم.

تمسّك بالمهنة حتى آخر لحظة

"سيرته عطرة، استمر لآخر يوم وهو يتابع مرضاه من البيت" تلمع سيرة والدها كنجمة لم ينطفئ وهجها ولم يأفل نورها فالبصمة التي تركها أكبر من أن تنساها آية وكل من عرفه، تخرج بعضها من صندوق الذاكرة "قبل عامين جاءت أم طفل كان يعالجه أبي المتخصص في الصحة النفسية ولديه تخصص نادر في تخطيط الدماغ (مخ وأعصاب) على مستوى قطاع غزة لا يحمل هذا التخصص سوى ثلاثة أطباء منهم أمي، كانت السيدة  تعالج ابنها المصاب بنوبة كهربائية (صرع) وبدأ في علاجه منذ الابتدائية حتى التوجيهي، فحصل على معدل 99% ".

ما زال الفرح الذي تراقص في وجه تلك السيدة حاضرًا في حديث ابنته "جاءت تشكره لأن له فضل كبير في هذا التفوق (..) في أيام الحرب لم تستطع السيدة الوصول إلى بيتنا، فأرسل علاجها مع أخي وحينما سألت والدي عن الكشفية، رفض أبي الحصول على أي مبلغ مكتفيًا بأن ينال من دعوات تلك السيدة ثمنًا لهذه الخدمة".

أودع الطبيب معين العالول مبادئ كثيرة لدى أبنائه "اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللُّطْف فيه" صوته يأتيها من بعيد يذكرها بذلك الدعاء الذي كان منهجا في حياته، وهو الآن يجعلها متماسكة، في حديثها مع "قدس الإخبارية"، كانت أحبالها الصوتية تحمل كلمات ممزوجة بالصبر والرضى تغبط والدها على هذه "الكرامة" التي نالها ولعلها ما تصبرهم على وجع الفراق: "جاءت أبي عروض للعيش في برشلونة وفرنسا التي أمضى فيها عامين، والسعودية التي عمل في مستشفياتها خمسة عشر عاما، لكنه فضل البقاء هنا".

حينما تحاول آية أن تغفو وترحل بعيدًا بأفكارها، سيمر طيف والدها عليها، سيأتيها صوته وهي تعرض عليه قبل مدة أن يذهب معها للعيش بتركيا مع والدتها لتكمل دراستها العليا، ستتذكر رفضه للعرض "لا وين أروح أنا ما بغادر أرضي" لقد رأت الوطن في عيون والدها، ورأت ألوان الوحدة تترك بصمتها على عينيه، فكان يرى الوطن من داخل قلبه، وغرس حبًا لا جذور بداخله.

انتزع منها والدها ابتسامة من بقايا حطام الفقد تختبئ خلفها الأحزان، "جاء الكثير من الشباب لبيت العزاء ممن كانوا يتعاطون "الترامادول" المخدر، وساهم بعلاج الكثير منهم، أحدهم قال: "حيضيعوا الشباب من وراك يا دكتور معين".

اكتسب الدكتور أساليب عديدة في كسب قلوب الشباب، "المعاملة نفسها" كانت أحد الطرق العلاجية.

رغم الألم الذي يعتصر قلبها ويرتطم حطامه بداخلها، ترك والدها لحظات "حلوة" ستذكرها به كلما حاولت الأيام محوه، أحد تلك المواقف التي تشدها كان في أيام العدوان "انقطع الإنترنت، وكان لدي امتحان عن بعد، قرأ والدي مخاوفي على مستقبلي العلمي، فطلب مني أن أذهب لبيت أخي القريب مني، لكني رفضت ذلك كون طائرات الاحتلال تحتل سماء غزة".

تزورها كلماته "تخافيش بضلني معك على التلفون حتى تقدمي الامتحان" لكن ذلك التخطيط الذي كان في يوم رحيل والدها لم يتم، "برحيله فقدت طعم الحياة، أفتقد حنانه الكبير" في قداسة الصمت، نابت لغة العيون رواية القصة.

للدكتور معين العالون بصمة كبيرة في خدمة قطاع الصحة، تقلد منصب مدير الصحة النفسية بشمال قطاع غزة، برحيله يفتقد هذا القطاع أحد أعمدته.

"كان أبي خدوما، يساعد كل من قصده، لم يترك عمله حتى وهو جالس في البيت بعدما أقعدته إصابته، فقد ظلت عيادته الخاصة تعمل ويأتي له المرضى للبيت حتى آخر يوم رغم تقاعده منذ سبعة أعوام" يرحل ابنه أحمد لمحطات في حياة والده، فقد حظي تخصصه النادر على اهتمام منظمة الصحة العالمية ومنظمة أطباء بلا حدود.

سافر الدكتور معين إلى إيران لستة أشهر، وهناك عايش عمل مستشفيات الصحة النفسية في إيران، وحاول إنشاء مصحات نفسية في غزة، وخاض حربا في معالجة الشباب المدمنين بسبب تعاطي الترامادول وكان له باع طويل في ذلك، عمل في حياته المهنية لمدة 15 عاما رئيسا لقسم الطوارئ في مستشفى بدر بالمدينة المنورة بالسعودية، كان يلبي نداء الواجب الطبي أوقات الحروب على غزة، "تخصص تخطيط الدماغ يعد من التخصصات النادرة في قطاع غزة، وكان يقرأ التخطيط حتى آخر أيامه وهو ممدد على الفراش" يروي أحمد رحلة والده والحزن يزاحم صوته.

#غزة #صحة #طب #شهداء #قصف