شبكة قدس الإخبارية

ناجون من تحت الأنقاض يروون لحظات تحبس الأنفاس

في زلزالٍ أحدثتهُ طائراتُ الاحتلال بشارع "الوحدة" .. عائلات قتلت وأخرى تشردت

يحيى اليعقوبي

غزة - قُدس الإخبارية: "انتبه؛ ارفع سقف المنزل بهدوء"، "أتفحص .. هل يوجد أحد يسمعني؟، "لا؛ لا يوجد، انتظر ألمح يد طفلة تحت الردم" أصوات طاقم الدفاع المدني متسارعة، يأمر ضابط الفريق سائق الجرافة بالتوقف "مهلا مهلا ..أمامي طفلة"، يكبر ما تبقى من عائلة الكولك حولها يتعلقون بقشة أمل "يارب، يارب تطلع عايشة".

"عايشة ولا مستشهدة؟".. بقلب هش ينهشه الخوف والقلق يساوره من كل اتجاه وجانب، يسأل أحد أقارب الطفلة ضباط الدفاع المدني، الذي حاول التلصص على أي نفس أو نبض من الطفلة التي جرى للتو انتشالها،  أومأ برأسه "للأسف، شهيدة"، تعالت تنهيدات الجيران "حسبنا الله ونعم الوكيل".

عادت الأصوات .."انتبه، أنزل رأسك من الحفرة" ينادي ضابط الدفاع المدني "هل يوجد أحد بالأسفل" "لا" الإجابة كانت من فوق بعدما كرر النداء عدة مرات دون جدوى، "أرى سيدة وطفل" يلفت أحد أفراد الدفاع انتباه الضابط.

على الفور تجمع الجميع حوله، هذه المرة تعلقت العائلة بخيط أمل حمل الضابط طفلة لا تتجاوز ثماني سنوات تكسوها الرمال والردم التي احتجزتها طوال ساعات طويلة، حملها بسكون الملائكة وهدوء المسنين ارتخت يديها وقدميها للأسفل بلا حركة، مضرجةً بدمائها، يتسابق الصحفيون على التقاط الصورة "رجل اسعاف يحمل ينتشل طفلة من بين الركام" سيكون هذا عنوان خبر عاجل أظهره الشريط الأحمر على شاشة التلفاز.

سيدة أخرى من عائلة الكولك ظهرت أطرافها بعد دقائق أخرى توضع على حمالة طبية لينقلها المسعفون جثة بلا روح، سجل ضابط الدفاع المدني الرقم (15) هذا الرقم لعدد شهداء عائلة الكولك وحدها في مجزرة نفذها الاحتلال بحق المدنيين بقصف منازلهم في شارع الوحدة بمدينة غزة راح ضحيتها 36 شهيدًا جلهم من الأطفال والنساء وكبار سن وهم نائمون.

زلزال صنعته الطائرات

على امتداد بصرك أحالت الطائرات عدة بيت إلى كومة من الركام، انهارت البيوت على رؤوس ساكنيها، لاحقتهم الطائرات في أكثر الأماكن أمنًا في بيوتهم، التي احتموا بداخلها من القصف المتواصل على القطاع، بلا سابق انذار أطلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية عشرات الصواريخ، لم ترحم شيخا ولا طفلة ولا امرأة كانوا نائمين آمنين.

على مسافة نحو مائتي متر لا ترى سوى بيوتًا مدمرة تصعد جرافات وفرق انقاذ من الدفاع المدني تواصل العمل منذ الواحدة فجر الأحد (16 مايو/ آيار 2021) في أعلى كومتها تحاول النبش وإزالة الردم، فقد أخرجت هذه الطواقم عشرات الأحياء الذين انهالت عليهم البيوت، كما أخرجت الشهداء.

دمار كبير خلفته الطائرات الإسرائيلية، وكأنَّ زلزالاً ضربَ المنطقة، حفر كثير تملأ الشوارع والطرقات ففي كل واحدةٍ منها سقط صاروخ لمنع طواقم الإسعافات من الوصول وإسعاف المصابين ونقلهم لمستشفى الشفاء القريب من المكان المستهدف، ليكمل الاحتلال جريمته، أبنية مائلة وأخرى منهارة.

ناجية من تحت الركام

في الطابق الثالث بمستشفى الشفاء، داخل قسم الجراحة تتمدد سناء الكولك على السرير، لا تتوقف الدموع من مفارقتها عينيها والجيران كنبع حزنٍ يستمد ماءه من جراح الفقد بعد أن فقدت خمسة من أفراد أسرتها في مجزرة  شارع الوحدة، يحاول ما بقي من أبنائها تضميد جراح قلبها التي لن تلتئم، فيما يحاول الأطباء تفقد حالتها الصحية بعدما أصابتها كسور، احتجزت هذه السيدة ست ساعات تحت الأنقاض عاشت لحظات قاسية وصعبة هي وابنها محمد لم تعرف إن كانت ستخرج حيةً أم ستموت، فأسفل منها كان الدخان ينبعث وكأنها في قبر أطبق عليها.

تعيد رسم المشهد، تمرر صوتها لجهاز التسجيل الذي وضعته على مدخل فهمها وكأنها تشد حبالها الصوتية من قعر بئر "كنا في البيت، يجلس الأولاد على أجهزة الحاسوب، جاء ابني وزوجته وطفله قصي (ستة أشهر) هربا من القصف المستمر في شقتهم بشمال غزة، وكنت نائمة قبل أن يوقظني أحد أبنائي: يما بسرعة، في قصف، كلهم نزلوا على الدرج".

عليك أن تضع قلبك بجانبك وهي تستحضر صورة المشهد من شريط الموت "تأخرت في الطابق الثالث لكي أحضر ابني محمد، ومع قساوة القصف وكأن زلزالا يضرب المنطقة مثل صوت رعد لا يتوقف، مشهد يأخذ الأبصار أبرقت الدنيا وميضًا يتبعه صوتٌ مرعب اهتزت معه جدران المنزل عدة مرات قبل أن أرى نفسي أسقط مع انهيار البيت، وأتقلب في الجو حتى أظلمت الدنيا".

نادت سناء على ابنها تمد يدها التي كانت ترتطم بحجارة تحاصرها من كل اتجاه ومكان، "يما هيني" صوته أثلج قلبها "انت عايش، فيك جروح؟".

- مش عارف اذا في جروح ولا لا، كل جسمي بوجعني..

- طيب انتبه على حالك

- يما بدي اتصل على الدفاع المدني

- اتصل.

وكأن الأم وابنها اطبق عليهم قبر، اتصل محمد بفرق الدفاع المدني التي كانت فوق الردم، لكن الوصول للطابق الثالث كان عملية صعبة، فهذا الترتيب والترقيم انتهى وتلاشى أمام تحول العمارة لكومة من الركام بفعل صواريخ طائرات الاحتلال الإسرائيلية "شفتش ابني ولا هو شايفني، كانت كتافنا ملزقين ببعض طوال ست ساعات، حاسة رجلي مشلولة" هكذا عاشت ست ساعات قاسية.

وصل إلى مسامع سناء وابنها صوت من الأعلى "في حد هان؟" تلقفت الصوت كأمٍ تحتضن ابنها "أه، احنا هان يا عالم، احنا عندنا متنا"، يواصل أحد أفراد فرق الإنقاذ الذي لم يسمعها المناداة عليها "في حد هان؟"، اعتقدت أنه سيذهب وأنها ستموت، تبكي، تصرخ، تنادي: "يا عالم احنا هان" قبل أن يسمعها الفريق ويخرجهم أحياءً وسط صيحات وتكبيرات الأقارب والجيران.

"جزاهم الله كل خير، طلعونا وعملولنا اسعافات أولية" بصوتها الخافت تشيد بدور الدفاع المدني.

تحاول استجماع قوها تحرر كلماتها بلهجة عامية ترافق صوتها قطرات دموع تنسابُ بسهولة على خدها "كانت العمارة كلها أربعة أدوار فوق بعض، اولادي وجوزي وسلفاتي كلهم تحت الدرج، فش الا انا ومحمد الي كنت حضناه وانا مش شايفاه تحت الردم".

" كنت ادعي بالسلامة لا أولادي" لحظات لن تنساها في حياتها.

كل العائلة التي كانت تحت الدرج وتهم للخروج من المنزل طالتها يد الصواريخ، لم تعطهم فرصة للنجاة ولا للتنفس ولا للحياة، استشهد زوجها وابنتها المهندسة ريهام التي كانت تحلم بل الحياة وكتبت على صفحتها "لم يبق فينا أعصاب"، ابنها الذي ترك شمال القطاع خوفا من الموت هو زوجته وابنه قصي الذي ظهر سنه الأول أمس واحتفلت العائلة ببروز ابتسامة جميلة منه، زوجها الذي ذهب لينزل والديه عن الدرج، كلهم رحلوا في وقت واحد.

كانت حركة تعج بالحياة لكل واحد منهم تفاصيل أخيرة كان يفعلها هربا من الصواريخ، لكن حياتهم تجمدت هنا مع أول صاروخ وثاني وثالث ألقته الطائرات الإسرائيلية عليهم ورحلوا بسقوط المبنى فوقهم وبانفجار الصاروخ.

تعدد على أصابعها من بقي ومن استشهد "الله يساهل عليه زوجي أبو سيم استشهد، وريهام، وعبد الحميد، وحفيدي قصي، وزوجة ابني" تلتف لابنتها ريم وابنها وسيم حولها بغرفة العمليات وتتساءل: " مين ضل"، قبل أن تغلبها الدموع وتبكي بحرقة تلسع قلبها "مضلش إلا أنا ومحمد وريم ووسيم ".

تسترجع في مصابها "الحمد لله على كل حال، أسأل الله أن يصبرني".

في الخارج تقف ابنتها ريم على باب غرفة الجراحة، تهمس في أذني "لا تعلي صوتك، لدينا قريبة في السرير المجاور لأمي اسمها زينب الكولك فقدت معظم أهلها، ولم تعرف ما جرى".

عمارة الكولك تتكون من ثلاثة طوابق يعيش الجد والجدة وابنتهم في الأول، وفي الثاني يعيش أبو وسيم (والد ريم) وأبنائه، وفي الثالث يعيش أعمام ريم كل واحد في شقة ولدى كل واحد فيهم نحو خمسة أبناء، ترثي حالها "أهلي كلهم استشهدوا، فقدت من عائلتي في العمارة أربعة عشر فردًا".

تفرد ذراعيها تعلي نبرة صوتها "ما جرى فاجعة، يعيش في كل البيوت المستهدفة مدنيون أنزلت الطائرات صواريخها عليها".

بوجه شاحب يشابه سواد عباءتها، تستدير نحو الغرفة التي بها زينب تخفض نبرة صوتها، معه تغير مسار حديثها أيضًا "فقدت أمها واثنين من اخوتها وشقيقتها ولم يبق لها سوى والدها وشقيقها، لم تعرف ما جرى حتى الآن، رغم تكرار سؤالها لنا عن والدها ولماذا لم يأتِ للمشفى".

تعلق ريم "والله مش عارف ايش احكيلها، مهما خبينا عليها مصير الحقيقة تبين".

في غرفة أخرى، يرقد عزيز عزت الكولك يتلقى العلاج، هو الآخر لا يعرف مصير عائلته التي قضى فيها والده وأخوته.

على أبواب غرفة أخرى، محمد جبر جار العائلة جاء ليرافق مصابين آخرين من العائلة، يحتار في وصف المشهد "المرعب": "الصواريخ نزلت علينا مثل المطر، الكل صار يصرخ، الحي نزل للشوارع، نساء، رجال، أطفال الجميع كان يركض نحو مستشفى الشفاء، ثم عدنا لنجد كارثة وكأن زلزالا ضرب المنطقة، كنا نسمع أصوات بعض المفقودين  على الهاتف، للأسف استشهدوا".

مشاهد كثيرة أمامك، في كل ركن هناك قصة وحكاية، أبو سعيد الكحلوت انتهى من عمل صعب في  الإنقاذ يحاول اخذ قسط من الراحة لكن كل ما قدمه كان بنفس راضية  مقرًا "نحن نعمل في حالة طوارئ وكل هذا لأجل خدمة شعبنا" يدخل زميل آخر على أجواء حديثنا "لا يوجد جرائم أبشع من قتل المدنيين، ما أقسى المشهد وأنت تخرج الأطفال بسن ثلاث سنوات أشلاء"، زميل ثالث لهم وقد أذهب العمل صوته لا زال هذا المشهد يرعبه "كنت أرفع سقف البيت فجأت ظهر لي عدة أفراد أنقذت منه أحياء وأخرجنا شهداء".

بخطوات سريعة يحمل أحد الجيران حقائب وأمتعة هو وبعض أفراد أسرته، يفرغ ما في قلبه من خوف بلهجة عامية "فش مكان نقعد فيه، صارت المنطقة غير آمنة".

لا زالت أجواء ما حدث في ليلة دامية ترافقه "جدران المنزل كانت تتراقص، والبيت يرتجف (..) ما جرى نكبة حقيقية، دمار بغمضة عين".

أنس وشيماء .. فرحة لم تكتمل

ارتخى جسده المتعب على حائط و تحت ظلال شجرة هاربًا من شمس الظهيرة، يسترق بعضًا من الوقت، هي الأخرى فردت جناحيها حاجبة الخيوط الصفراء عنه تظلّه تحت ظلها الوحيد هناك، بعدما أمضى ثلاث عشرة ساعة يرقب أنس اليازجي عمل فرق الدفاع المدني في البحث عن خطيبته شيماء أبو العوف، المفقودة تحت عمارة سكنية انهالت على رؤوس ساكنيها.

"بالأمس، تحدثت معها اطمئن عليها، ونحن نتحدث انقطع الاتصال، فعاودت الاتصال فأدركت وجود شيء قد حدث، تزامن مع أصوات صواريخ " ارتج مع ذلك قلب أنس اليازجي.

يضرب كفيه ببعضهما "عرسنا كان بعيد العيد، كنا بنشطب الشقة وبنسق مع بعض.. فجأة كل شيء تدمر".

"اسال الله تطلع عايشة وان كانت شهيدة اسال الله يصبرنا"، ما لبث حتى قطع صوت  قادم تجاه الردم، هذا الارتخاء اللحظي، على الفور حمل أنس نفسه وصعد مباشرة على كومة الردم، يحدق والقلق يستعر بداخل قلبه، لكن خطيبته لم تظهر.

 

#غزة #الاحتلال #مجزرة #إسرائيل #شهداء #عدوان #قصف #شارع الوحدة