شبكة قدس الإخبارية

في خطبة فرضت السجون أحكامها .. "صمود" أزهرت بين قيود "عاصم" الـ 18

04102057291971713337323028435215
يحيى موسى

غزة - خاص قدس الإخبارية: بخطواتٍ بطيئة تقطعُ صمود الشباك تلو الآخر وهي تسير في ممرٍ داخل السجن يجلس كل أسير أمام أمه أو زوجته ويفصل بينهم عازل زجاجي كجدار فصل لا يسمح لهم بعناق أو مصافحة تبرد نار الشوق، أما هي فكانت زيارتها الأولى لخطيبها عاصم الكعبي الذي لم تره ولم يرها.

كانت الزيارة كي يعرف أن هذه صمود لو أفرج عنه وهي لكي تعرف أن هذا عاصم، إلى أن وصلت للشباك الأخير الذي حدده لها من خلال المحامي، وقفا برهة من الوقت يتأملان بعضهما، ثم أمسك سماعة الهاتف وأمسكت هي الطرف الآخر من جهة العازل الزجاجي وهو يتأمل ملامحها: "أنت صمود؟ ..".

أومأت برأسها مؤكدةً ذلك بعدما غلبتها ضحكةٌ غمرتْ قلبها وهي تثبت رأسها على كلتا يديها تحاول تخزين صورته وملامحه بذاكرتها فلا تعرف متى سيسمح لها بزيارته مرة أخرى وهي المحرومة من زيارة والدها الأسير منذ أن جاءت إلى الحياة، أما هو فأعربَ عن حزنه بهذا اللقاء الأول بين خطيبين في السجن" كنت حابب نلتقي بمكان أكثر إنسانية وليس بين قضبان وسجانين وكاميرات مراقبة و.." قبل أن تقاطعه: " لا تعتذر؛ أقدر هذا الظرف".

أحكام السجون

عاصم الكعبي عقد القران على صمود سعدات (ابنة الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات) حتى تحصل على تصريح زيارة، فكانت الخطبة الحل ليرا بعضهما البعض، وهذا ما لا يحدث في أي مراسم زفاف أخرى فقد جرت العادة أن تكون المشاهدة شرطا للخطبة، لكن للسجون أحكام فرضت نفسها على عاصم وصمود.

كانت الزيارة تتويجًا لقصة نسجتْ خيوطها عام 2016م، حينما اتصلت صمود – وهي ناشطة بمجال الأسرى – على سجن النقب لترصد حجم الخسائر والأضرار التي لحقت بالأسرى جراء قمع قوات الاحتلال لأسرى الجبهة الشعبية وحركة حماس في السجن، وكان عاصم الكعبي هو من يزودها بالمعلومات ويطلعها على التفاصيل، عبر ذلك الاتصال كانت تسمع هدير أنفاسه وكأنه خارج من معركة..

- شو اللي صار عندكم ؟

يرد كمراسل من قلب الحدث: قمع مباغت واعتداء، قنابل، ضرب، اختناق، تكسير أغراض الأسرى

بعد صمتٍ ابتلع به أنفاسه أكمل عاصم التفاصيل: هناك حالات إغماء وخسائر كبيرة لكننا صامدون ..

كلمة انتقاها تلقائيًا نالَت إعجابها يذكرها بوالدها الذي انتقى اسمها "صمود"

كانت "قدس الإخبارية" تفتح قلب وذاكرة عاصم الكعبي الذي تحرر في 22 إبريل/ نيسان 2021م بعدما قضى في السجون ثمانية عشر عامًا غيب فيها في عالم "المنسيين" هناك خلف القضبان، وتستمع لبقية قصته التي يحرك تفاصيلها بصوته: "بقينا فترة نتراسل بخصوص ما يجري داخل السجون، ثم بدأت أنتبه لطريقة تفكيرها وأسلوبها ووجدانها ثم وصلنا لقناعة مشتركة بالارتباط بعدما تآلفت أفكارنا ومبادئنا، ومع أننا أرسلنا صورتين لكل منا من خلال محامٍ إلا أنها لم تكن كافية، فقررنا الخطبة كي نشاهد بعضنا لأول مرة واخترنا تاريخ 22 إبريل 2018م، وهو تاريخ اعتقالي والإفراج عني وذكرى ميلادها، فكانت التاريخ يحمل معانٍ كبيرة بالنسبة لي".

تاريخ الارتباط اجتمعت فيه مناسبات الحزن والفرح في آن واحدٍ، فبين الأسر والإفراج مسافة طويلة من القهر والسجن والتغييب القسري، دخل السجن بعمر الزهور لم يتجاوز 25 عامًا وخرج وهو يحمل ثلاثة وأربعين عاما من عمره، غزا شعره الأبيض رأسه، ورغم أن الذي بعمره خارج الأسرى لديهم أبناءٌ يقارب العمر الذي دخل به السجن، لكن صمود جاءت لتزهر في قلبه الأمل بين تلك السنوات العجاف.

وجد عاصم في صمود الاسم والصفة والفتاة الفلسطينية المناضلة المستعدة لتضحية إضافية بانتظاره حتى يخرج من السجن، وهي التي أبصرت الحياة بلا والدها الأسير أحمد سعدات، ومن لا يعرف هذا القائد الذي لاحقه الاحتلال وأمضى جل حياته مطاردًا وأسيرًا، وكثيرا ما كانت تحب أن يحكي لها عن والدها بعدما عرفت أنه جاوره في سجن "هداريم" بضع سنين.

"كنت أحكي لها عن أبو غسان (والدها) عن انسانيته، أخبرتها أن والدها ورغم أنه قائد كبير لكنه كان خجولا جدا داخل غرفة السجن، وكيف كان في مقدمة المشاركين في الإضرابات المفتوحة عن الطعام، رغم محاولة الأسرى أن يعفوه بسبب تقدمه في العمر فكان يرفض ذلك ويصمم على خوض الإضراب، أخبرتها كيف كان يحب التعرف على الأسرى الجدد ويرافقهم للتهوين عليهم في بداية أسرهم " كانت صمود تحب سماع كل شيء عن والدها تستكشفه من خلال عاصم.

حاول عاصم أن يخط عقد قرانه بقلم أهدته إياه والدته للأسير سامر المحروم عام 2006، وهو أسير أمضى أكثر من ثلاثين عاما داخل سجون الاحتلال.

"المحاولة الأولى لإخراج القلم بواسطة أسير محرر أفشلها الاحتلال فأرجع القلم إلى السجن لخشيته أن تكون فيه نطفة مهربة، فكانوا يشكون بذلك، ثم انتظرت أسيرا آخر لشهرين لإخراج القلم، لكن الاحتلال جدد اعتقال الأسير لشهرين قبل أن يصل القلم لصمود وكنا قد كتبنا القران " لا زالت الحسرة عالقة بتنهيدته: " حتى القلم منعت من إخراجه".

الليمون الصامد

عادة ما يتبادل الخطاب الورود والهدايا لتبقى ذكرى لهذه الفترة التي تسبق الزوج، لكن في حياة عاصم وصمود كان الأمر مختلفًا، ينتقي موقفًا من ذلك بعدما زارت حديثه ضحكة عابرة: "بتاريخ خطبتنا أحبننا كل واحد بمكانه أن يعمل شيئا يصمد، وكان لدي ثلاث ليمونات فقمنا بتجفيفها، وحينما خرجت من الأسر لم يسمح لي الاحتلال بإخراجها بعد أن ظلت صامدة، أما صمود فقد رأيتها قد وضعت الحبات الثلاث وسط باقة من الزهور المجففة في صدر البيت حينما زرتها لأول مرة بعد التحرر".

مرت بحياة عاصم تجارب صعبة فهو الذي يكنى بـ "أبا نادر" وهو اسم رفيق دربه نادر أبو ليل الذي جرى اغتياله عام 2004م، ثم فقدان والدته عام 2014م، ووالده قبل الإفراج عنه بعشرة شهور، "كنت على الأقل أريد الخروج من السجن وأن أجد أبي باستقبالي، لكن روحه الطاهرة صعدت للسماء بعد أن انتظرني والداي ثمانية عشر عاما يزوراني من سجن لسجن".

تقفز منه تنهيدة قهر "حرمت من نظرة الوداع".

قاسية هي السجون على الآباء، ينتظرون عمرًا طويلا لأجل احتضان ابنهم الأسير، يكون فيها الشوق كمرض لا ترياق له سوى احتضان ابنهما خارج الأسر، وكحال عاصم مئات الأسرى خرجوا ولم يجدوا آبائهم في انتظارهم.

ينحدر عاصم من أسرة مناضلة من مخيم بلاطة بنابلس. أخوته الخمسة جربوا الاعتقال أيضا كحال معظم أبناء المخيم، حتى أن الاحتلال حاول إبعادهم عن المخيم للأردن لكن نتيجة حملة تضامن نظمها أهالي المخيم فشلت المحاولة، "أتدري؛ مجموع سنوات اعتقالي أنا وأخوتي تبلغ 47 عاما".

أكثر ما كان يفرح عاصم خلال أسره هو أن يرى أسيرا يتنسم الحرية، أما بداخله فكان يرقب عداد الانتظار البطيء وهو ينهش عمره، تغلبه تنهيدة قهر: "كنت أحب وداع الأسرى المفرج عنهم، وأواسي نفسي بأنه حتما سيأتي دوري، فلا يوجد شيء يوازي الحرية لا راتب ولا جبال من ذهب، فقد كنت أرى الفرحة بعيون كل أسير رغم مرارة سنوات السجن، لذا يجب أن نتمسك بحرية الأسرى وليس بالرواتب، وهذا بالنسبة للأسرى ليست أولوية وإنما تحصيل حاصل بأن يعيش حياة كريمة".

اليوم الأخير

كانت الأفكار تتصارع بداخل عاصم في يومه الأخير بالسجن، يستحضرها بعد أن بعث سلاما لرفقاء الأسر: "كانت أصعب اللحظات طوال الثمانية عشر عاما، فيها تودع رفقاء أمضيت معهم فترة طويلة كانوا أخوة لك، خاصة أن بينهم محكومون مدى الحياة ولا يوجد لهم تاريخ إفراج، كنت اخجل من نفسي حينما يسألني أهلي عن التحضيرات، أتساءل كيف سأغادر وهؤلاء الأسرى سيبقون سنوات طغى ذلك على لهفتي بالحرية".

لم يغلق جفنه في تلك الليلة، غلبت تلك الأفكار عينيه اللتين لم يزرهما النعاس، إلى أن حان موعد الإفراج وخرج إلى عالم تغير كثيرًا، "كان بنظري حاجز معبر "الظاهرية": عدة مكعبات وجنديين إسرائيليين هكذا كان حاله حينما أسرت عام 2003م، لكني حينما أفرج عني وجدته موقعا عسكريا كبيرا، وأنت تسير تجد المستوطنات تبتلع الكثير من الأراضي، رأيت جدار الفصل العنصري لأول مرة وكلها مشاهد توجع القلب".

بعد أن انتهت تلك المشاهد، كان أخوته وخطيبته صمود باستقباله حينما حطت السيارة التي أقلته رحالها الساعة الثانية مساءً يوم الإفراج عنه، بعض أخوته لم يرهم منذ اعتقاله، أما صمود فقد استقبلته بالثوب الفلسطيني التراثي، مشهد لم يفر من حديثه " كان اللقاء الأول في عالم الحرية بدون هواتف مسجلة، وبدون حراسة".

في اليوم التالي للإفراج أفاق عاصم قبل أن تستلم الشمس مناوبتها الصباحية، أخرجته أشواقه للمخيم باكرا ولم ينتظر أي مراسم، ذهب لقبر والديه وذرف دموعه هناك، تمنى لو استطاع فقط احتضانهما، ثم ذهب لقبر صديقه نادر، على قبره سحبته الذكريات لمشاهد التصدي للاجتياحات الإسرائيلية لمنطقة نابلس القديمة، ثم زار منزل والدة الأسير خالد خديش المحكومة مدى الحياة ولديه ابن شهيد وابنان أسيران بنفس الغرفة، "رأيت الفرحة بعيني والدته لما احتضنتني وكأنها تحتضن خالد، لكن الحقيقة توجعت وتمنيت لو كان خالد بجانبي، والذي نأمل أن يكون قريبا بصفقة تبادل"، وها هو يستعد لدخول قفص الزوجية مع صمود تحت سقف واحد بلا سجون وقضبان وزجاج عازل في عالم الحرية الذي حرم منه ثمانية عشر عاما.

#صمود_سعدات #علام_كعبي