شبكة قدس الإخبارية

استقبلته بـ "وجع الفرح".. مجد وفاطمة حبٌ لم يذبله 20 قيدًا

6565.JPG
يحيى موسى

 

خاص قُدس الإخبارية: كانت الليلة الأخيرة بين القضبان الإسرائيلية بطيئة وكأنَّ عقارب الساعة تسير على سطح سلحفاة، لم يكن اليوم الأخير له في السجن أقل ثقلا من وطأة عشرين عاما قضاها داخل  سجون الاحتلال، كان يغفو غفوته الأخيرة على "حلم الحرية"، يحن إلى قلبه الذي يسكن فيه في منطقة "رأس العامود" بالقدس المحتلة.

أخيرًا، انتهت المحكومية البالغة عشرين سنة وانفضت أغلال السجن عنه لكنها تركت ندبة وعمرًا غيَّر ملامحه وغُيب فيه عن زوجته فاطمة التي لم تهنأ في قفص الزوجية سوى عامين ونصف أنجبا فيها  "منتصر"، و"زينة" التي لم يزد عمرها عن خمسة عشر يومًا لحظة أسر والدها، خرج مجد بربر يحمل سنوات أسره ويحمل زوجته وحبيبته "فاطمة" في قلبه وصورة لها في جيبه.

 بينما كانت ترفعه أكتاف الرجال احتفاء بانعتاقه من السجن، كانت عيناه تجولان بين ملامح الحاضرين، حتى لمحها تركض نحوه تتسارع الخطى كخيل يقترب من خط النهاية أو كشمس تطل من خلف الغيوم المتلبدة في شتاء بارد، وهي تفتح ذراعيها لمعانقته متزينة بطوق ورود يلف رأسها وثوب تراثي يكسوه الأبيض والأحمر استمدت منه أصالة فلسطينية في التضحية والثبات والانتصار بحمرة مشرقة، وملامح تكتسي بكل خصال الفرح لم يرها بهذه السعادة طوال فترة زيارتها له في السجن، عانقته وبقايا دموع الفرح تطفو على وجهها.

حتى هذه المراسم استكثرها الاحتلال عليهما، فقد كشفت للعالم أن هناك قصة حب وانتظار ووفاء وعذاب ظلت مدفونة بين أغلال القضبان طيلة عشرين عامًا، وأزاحت الستار عن الوجه البشع للاحتلال كما أزاحته قصصٌ أخرى، فأعاد اعتقال مجد لإرغامه على إسكات صوت الفرح، يريد أن تكون مراسم الفرح صامتة، بلا صوت، هو في الحقيقة يريد أن تبقى قصة مجد التي جابت العالم مدفونة.

 لكن الرد كان من مجد وفاطمة "لن نهزم" جملة قالها الزوجان قبل عشرين عاما وأعادا التأكيد عليها، وظلت طبول الفرح تقرع "رغم أنف السجان"، كانت هذه الطبول "محاولة لهزيمة عشرين سنةً غيرت حياة العائلة"، فلم يكن في انتظار مجد منتصر وزينة كطفلين صغيرين تركهما، بل وجدهما وقد أصبحا شابين في ربيعهما الأول.

 

الاعتقال

لا يمكن أن تختزل قصة فاطمة ومجد في لحظات الفرح بعد الإفراج عنه فقط، بل هي اللحظات التي سرقت من عمرها، يرحل مجد بذاكرته إلى الثلاثين من مارس/ آذار 2001 م كانت "شبكة قدس" تستمع لصوت الحزن الداكن بداخله قائلا: "يومها جرى اعتقالي واختطافي في فندق كنت أعمل به في القدس يومها، واقتدت إلى مكان مجهول بالقدس لليوم لم أعرف ذاك المكان".

 طوال الليل ضغطوا عليه بكل أساليب التعذيب الجسدية القاسية من ملثمي طاقم التحقيق حتى السادسة والنصف صباحًا إلى أن توقف التحقيق وجرى اقتياده إلى مركز توقيف "المسكوبية"، يحرك صوته بقايا التفاصيل "استمر التحقيق لمدة شهرين تعرضت فيها لألوان متعددة من العذاب الجسدي والنفسي بما فيها منعي من النوم لفترات طويلة وجلب زوجتي للتحقيق وإيهامي أنها موجودة على مدار أيامي في التحقيق، إضافة لمنع المحامي من زيارتي لمدة طويلة وأساليب متعددة جرى استخدامها بحقي، لكني رفضت التهم الموجهة ضدي".

أما المشهد الذي عاشته فاطمة فقد كان أصعب، تشدُ تلك اللحظات من ذاكرتها: "في اليوم ذاته، فجأة اقتحمت قوات كبيرة من المخابرات وجنود الاحتلال البيت، كان باب المنزل سيكسر من شدة القرع العنيف، رأيت أضواء الليزر تنطلق من خوذهم، يشهرون بنادقهم ضدي، كأنهم في جبهة حرب".

لحسن حظها كان منتصر يغرق في نومه، أما زينة التي تحتضنها بين ذراعيها فقد أحكمت قبضتها عليها من شدة الخوف والارتباك أمام كل الجنود الموجودين داخل المنزل، تتساءل في نفسها: "كيف لم يسمع أهل المنزل من عائلة زوجها والجيران حركة هؤلاء الجنود"، حتى أدركت بعدما قاموا بتخريب المنزل وقلبه رأسًا على عقب، أنهم اعتقلوا مجد وجاؤوا لتفتيش البيت في طريق عودتهم، وقبل اقتحام شقتها احتجزوا الجيران والعائلة، تعيش هذا الرعب وحدها.

 

يوم الحكم

في السجن، كما هي عادة الاحتلال فقد عملوا على ترتيب ملف تهم ملفقة وإرساله للمحكمة كان مجد يدرك أنه "إن كان غريمك القاضي لمين تشكي"،  وقد تحقق ما كان يخشاه فقد حكمت المحكمة الإسرائيلية عليه بالسجن لمدة واحد وعشرين عاما، وبعد الاستئناف على الحكم جرى تخفيض عام واحد.

"يوم الحكم، التاسع والعشرون من يناير/ كانون الثاني 2002، نظرت إلى عيني زوجتي وكانت مصدومة من حجم الحكم الذي أنزله الاحتلال بي، لكني حاولت – رغم كل الألم – أن أشحذ همتها وأنا أعلم أن المسألة ليست سهلة خصوصًا أننا كنا لا زلنا في بداية عهدنا بالزواج، ولدينا طفلان منتصر الذي لم يتجاوز عاما ونصف وزينة التي لم تزد عن خمسة عشر يومًا".

أدخله الحكم برحلة عذاب وقهر وبعد عن الأهل والأحباب، ولكن مع عائلة جديدة هي عائلة الأسرى الذين استقبلوه وهونوا عليه مرارة البعد، وبدأ ينخرط في صفوف الأسرى ويتفاعل مع إضراباتهم التي شارك في خمسة منها وبلغت مجموع الأيام التي خاض فيها الإضرابات نحو مائة يوم.

سجن عسقلان، الواحد والثلاثون من يوليو/ تموز 2003م، تاريخ يستحضره مجد - الذي بدا يحفظ التواريخ بدقة – من روزنامة الأيام تحرك صوته بعد تنهيدة محترقة بسنوات أسره: "اقتحمت قوات الاحتلال القسم وهم يطلقون قنابل الغاز بغرف الأسرى المغلقة، كنت أسمع صراخ الأسرى من شدة الاختناق تشعر وكأنَّ روحك ستخرج، لا يمكن أن يسقط المشهد من ذاكرتي".

مع الإضراب المفتوح عن الطعام كانت أول تجاربه في شهر آب/ أغسطس 2004 وقد أضرب يومها 19 يوما حينما انتفضت الحركة الأسيرة، "أقولها بكل صراحة وصدق، حينما تحتك بالاحتلال وممارساته وتكتشف مقدار الحق على شعبنا وفلسطينيتنا ورغبتنا في الحياة أحرارا تدرك معنى الانتماء بصورة مختلفة بالطعم واللون والرائحة ويصبح الخوف من الاحتلال كعدو يكاد لا يذكر، ولا يهمني ما سيمارس معي" كان ذلك ما أدركه في الإضراب الأول.

يستحضر صورة الانتصار في إضراب آخر: "عام 2012 أضربت الحركة الأسيرة، وانتزعنا زيارة أهالي أسرى غزة وكذلك إخراج الأسرى المعزولين من الزنازين الانفرادية (..) أذكر كيف كان الجميع يبكي بكاء الفرح رغم آلام الجوع".

كيف عشت آخر يوم بالسجن؟ ابتسم صوته مقرًا: "لا أبالغ إن قلت إن اليوم الأخير لم يختلف عن الأيام التي سبقته، سوى أن الأسرى بسجن النقب (قسم 10) قاموا بالاحتفاء بي من خلال وجبة غداء لكل الأسرى في القسم ولاحقا بتوزيع الحلويات وإقامة احتفال صغير يليق بأسير أمضى عشرين عاما وأقدر كل جهد بذل، لكني استيقظت كعادتي عند السادسة صباحا ونمت في الحادية عشرة مساءً".

الفرح الذي حظي به مجد في استقباله بالقدس، حاضر بنبرة صوته فقد أذهبت تلك المراسم بعض الحزن المتيبس على قلبه: "التقيت بجيل بأكمله استقبلني استقبالا غير مسبوق بالقدس، رغم كل الأسى وهموم الحياة الخاصة التي تلاحق الناس إلا أن حفاوة الناس أفتخر بها كونها تعبر عن أصالتهم وحبهم لشبابهم، وخصوصًا الذين ضحوا بحياتهم لأجلها".

"لكني كنت لا أفكر في تلك اللحظة إلا بزوجتي وابني منتصر وزينة ووالدي فهم أكثر الناس معاناة ولاحقوني على مدارس عشرين سنة من سجن لآخر، وكان لدي سرور أنه لأول مرة أذهب بنفسي لزيارتهم وكان ذلك إغلاق لدائرة المعاناة"، ورغم فرحه بتحرره وعناقه لأسرته بعدما حرم من هذا العناق سنوات طويلة، لكن كان بداخله حزن على الأسرى القابعين خلف قضبان الاحتلال.

لكن مراسم الفرح تلك لم يدعها الاحتلال تكتمل بعدما أعاد اعتقال مجد لعدة أيام، يزيح الستار عن تفاصيلها: "اقتادني مرة أخرى لمركز تحقيق المسكوبية، هذا المكان الذي دخلته قبل عشرين عاما أعود للدخول إليه وكانت المسافة الفاصلة بين المرحلتين يومٌ واحد فقط، وهناك حاول الاحتلال فرض شروط تتعلق في حركتي وهي اعتقال منزليا لمدة خمسة أيام، والمقصد منها منع الفرح، والثاني منعي من دخول الضفة الغربية، لكن حتى القاضية التي وقفت أمامها رفضت طلب المخابرات الإسرائيلية".

 

وجع الفرح 

أما فاطمة فكان الفرح يتراقص بين نبرات صوتها، وهي تصف لحظة الإفراج فكانت "على الأرض وطائرة فوقها في آن واحد، كنت أركض غير مصدقة أنه أفرج عنه غفوت على هذا الشيء وكأني في حلم، وفي اليوم التالي جاءت قوات الاحتلال واعتقلته وذهبنا للمحكمة أنكس رايات الفرح، وجدت نفس المدعي العام ونفس المحكمة فشعرت بالوجع".

لم تكن تتخيل فاطمة أن يتركها مجد في بداية زواجهما ويحكم حكما كبيرا، ولم تتخيل يوما أنها ستضطر للاهتمام بطفلين صغيرين وزوجها غير موجود، وهي التي لم تعش معها سوى عامين ونصف، تتساقط أفكارها "كيف سأعيش معهما مدة عشرين سنة؟".

عاشت ظروفا قاسية لا تزال جاثمة على ذاكرتها: "كنت أضطر لحمل الطفلين معًا، فهما بحاجة لاهتمام كبير بنفس الوقت، كنت أهتم بهما وأذهب لعملي وأزور مجد وأعيش في دوامة حياة صعب أحاول نسيانها".

"تمسكت بمجد، فليس من السهولة تركه بهذه الظروف، ونحن يجب علينا كزوجات وأمهات عدم التخلي عن دعم أسرانا ونهتم بهم، فزهرة أعمارهم ذهبت في سبيل فلسطين" إيمانها بذلك كان وقودًا يغرس قلبها بالصبر وهون عليها مرارة بعده.

من أصعب  المواقف التي مرت على فاطمة في غياب مجد، يوم أن أجرت لطفلها منتصر عملية جراحية (استئصال زائدة) وتنقلت بين المستشفيات مدة شهر، ويوم تحرر شقيقها علاء عام 2013 بعد أن أمضى محكوميته البالغة 12 سنة استقبلته بـ "فرح الوجع" فرحة لحرية شقيقها وحزينة على السنوات المتبقية لزوجها، وكذلك وقت نجاح منتصر بالثانوية العامة وحصوله على معدل مرتفع تجدد البكاء هنا "فقد كنت أمني النفس أن أكون أول المهنئين لمجد بنجاح منتصر".

بقيت فاطمة وفية لعهد الحب بينهما، تسقيه بالصبر لم تذبل ذلك الحب 20 قيدًا من سنوات الأسر التي فرقتهما، وها هما يعيشان تحت سقف واحدٍ من جديد، يحاولان الانتصار على الاحتلال بـ "الفرح" الذي لم تكتمل مراسمه قبل عقدين، وقد رجعا إلى قفص الزوجية بملامح ترك العمر بصمته عليها.

#أسرى #القدس