شبكة قدس الإخبارية

من علامة واحدة عرفت أمينة سر "جبل فلسطين" أنه يشد أحزمة الرحيل

161718753917461 (1)
يحيى موسى

غزة - خاص قدس الإخبارية: توقفت أنفاسهُ عن الهدير؛ وعلا صوت التكبير تنعاه المآذن، وتنسابُ الدموع من عيون المشيعين، "أبو عاصف" الشيخ عمر البرغوثي الذي بالأمس كان أسيرًا أودع من حياته نحو ثلاثين عامًا خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي، وأخرى قضاها محاصًرا تضيق عليه الدنيا خارج السجن، أخيرًا انتهى الحصار وحمل حرًا على أكتاف الرجال، تعرج روحهُ إلى السماء، بعدما نال من جسده عدو آخر غير مرئي (فيروس كورونا).

أم عاصف التي عاشت معه على "الحلوة والمرة" وقفت بين الجموع الغفيرة، تنطق الصمت الذي تخزن في صوتها، وقد أثلج صدرها مشهد آلاف المشيعين تلقي السلام الأخير على جثمانه الذي بدأ يبتعد شيئًا فشيئًا في مراسم الوداع الأخيرة: "الله يسهل عليك يا أبو عاصف، تعبت بما فيه الكفاية، وربنا أكرمك بالشهادة، لو أنك على قيد الحياة كي ترى زرعك، شيء يثلج الصدر، ونيالك لما تحضن صالح الأب والولد وفرحة الأم، اللي حيكونوا باستقبالك وهنيئا لك يا أبو عاصف".

عبر الجانب الآخر من الهاتف، تسمع صوت أم عاصف، وكأنه ممتزج بصلابة الجبال، لكن الحزن المحشو بين كلماتها أكبر من أن تخفيه، فمن تتحدث عنه كان كل شيءٍ في حياتها: "عاش أبو عاصف مجاهدا ومات مجاهدا، حتى بمرضه كان في جهاد حتى آخر أنفاسه".

معركة كورونا ..

ممد على سرير المرض، يخوض معركة أخرى مع عدو غير مرئي، تشابكت يدييها بيده، تطوقه بذراعها، غير آبهة بانتقال الفيروس إليها، مشهد آثار استغراب أحد الممرضين، فمازحها بلطف: "خالتوا أم عاصف، ما بدك تبطلي حب"، أومأت برأسها وفردت ابتسامة عريضة على وجنتيها، ضاحكة: "والله يا ابني، حب أبو عاصف ما بينتهي".

كان وقع الفيروس الذي بدأ يشتد ثقيلا على أنفاس أبو عاصف، التي بدأت تجتاز قصبته الهوائية، كمياه تحاول عبور سد مغلق إلا من بعض الثقوب التي تسمح لها بالمرور، مشهد كان صعبا على أم عاصف الحاجة (سهير البرغوثي)، وعلى من حوله.

تستحضر صورته آنذاك: "جاءه الطبيب بعدما رأه على هذه الحال وقاله له: "بدي أعطيك شوية مهدئات عشان تنام وترتاح"، وبالكاد مرت نصف ساعة شعرت وكأنه يقاتل نفسه قتالا شرشا، يتنفس بصعوبة، وهذا ما جعلني أعاتبه: مشان الله، بحس أنه عقلك بضال شغال، أعط لنفسك فرصة إنك ترتاح، واطلع هم الدنيا من راسك على الأقل في مرضك، فكان قبل مرضه يمضي للإصلاح في مشكلتين عائليتين واحدة منهن بمحافظة طولكرم".

التقط أبو عاصف أنفاسه، وأفرغ ما في قلبه لها: "هدا سباق مع الزمن.. الأمر فيه حقن دماء كيف بدي ارتاح!؟"، تعلق أم عاصف بعدما ألقت على روحه الطاهرة السلام: "لقد آثر الناس على نفسه وبيته، حتى ابنتي وهي متزوجة عاتبته في يوم تطلب منه أن يعيش لأجلنا عامين فقط، وصارحته يومها: والله هالأهل بروحوا على بناتهم بأعياد ومناسبات، مرات بغار الواحد.. انت كم مرة حضرت أعيادنا".

أبو عاصف التي أكلت السجون من عمره ثلاثين عامًا وغيبته قسرًا وعاش في حصار داخل وخارج السجن وضيق الاحتلال عليه حياته، يتفهم كلام ابنته، لكن يذكرها بأشياء ليس لها ثمن: "صحيح هؤلاء الناس يعيدون على بناتهم، لكني أعطيك حبا وكرامة وعزة وأعطيك ما لم يعطه غيري، وهذا الشيء سترونه إن تعبت أو مت".

دون أن يدري كان أبو عاصف، يقيم مراسم رحيل، وكأن الراحيل يجرون طيفهم وأرواحهم ولحظاتهم الأخيرة يعيشون مراسم وداع لا يمكن تفسيرها، أومأ لشريكة حياته مشيرا بإصبعه نحو الورقة والقلم، وخط رسالته الأخيرة لها: "منذ اليوم الأول لارتباطنا كنت الزوجة والحبيبة والسند، رضيت عنك دنيا وآخر، وأطلب منك الآن أن تسامحيني"، أمسكت أم عاصف الورقة وقرأتها في الخارج، تنساب دموعها بخفة وتلسعها قسوة الفراق، كلمات كانت علامة بأن سندها يشد أحزمة الرحيل، وبقيت بقربه تشاهد صراعه الأخير، تدنو من قلبه، وتقبل جبينه علها تخفف عنه، ولا تدري هي الأخرى أنها طبعت قبلة الوداع، حتى عرجت روحه إلى السماء وهدأت أنفاسه.

تسمع تنهيدة أم عاصف الحارة واختناقها بالكلمات، معلقة على مشهد تشييع جثمانه: "حينما شيع أبو عاصف رأيت محبيه والزرع الذي زرعه، وحصاده عند موته، فهذا أثلج صدورنا رغم الفراق والألم الذي بكيناه فيه، إلا أني فخورة أن أبو عاصف كان زوجي، فكان نعم الزوج والحبيب والسند والمعلم، ليس لي فقط بل للجميع".

لم يكن ما سبق إلا حصيلة أعوام طويلة أمضاها أبو عاصف الملقب بـ "جبل فلسطين" في الإصلاح بين الناس، لم يتأخر يوما في حقن الدماء، وكسب احترام الآخرين، تنتقي زوجته أحد المواقف الصعبة: "وقعت مشاجرة بين عائلتين أطلقتا النار على بعضها، ونتج عنها إصابة أحدهم، لم تستطع لجان العشائر احداث الإصلاح، لكن عندما تدخل أبو عاصف، قال له مختار المصاب: "جيتك على راسنا، وشو انت بتفصل احنا بنلبس"، وانتهت الأمور بالصلح".

الارتباط ..

أم عاصف التي لم تزد عن السابعة عشرة ربيعا لحظة تقدم أبو عاصف لخطبتها، وقبل إتمام العقد أراد أن يتفحص قدرتها على المسير معه، وتحمل مشاق الطريق ثم قال بصوت لا تخلو منه الصراحة: "انا ماشي بطريق، بجوز فيه استشهاد، أو سجن" ثم أطلق لها الحرية: "اذا بتتحمليش.. مشان واحنا على البر!"، صمتت للحظات اعتقد أنها ستسلك طريقا آخر، قبل أن تقطع عليه حبال الشكوك: "اذا بتعيش بمغارة بعيش أنا وياك .. بتعيش على حصيرة بعيش أنا وياك"، كلمات كانت كفيلة بانتزاع ابتسامته: "خلص توكلنا على الله".

كصورة سريعة، تمر على حديثها محطات الأسر والمعاناة: "لأني اخترت لا مجال للتراجع، وهذه طريق يجب أن تسير بها بحلوها ومرها بداية كنت أريد التربية وتكوين أسرة ولم أكن لي دراية بالمقاومة، فسلك أبو عاصف طريق الجهاد وكان يسافر للقتال في بيروت ثم عاد إلى فلسطين وحكم بالسجن أربع مؤبدات ورغم مرارة الحكم بقيت معلقة بخيط أمل بأنه سيرجع وسيتحرر وبالفعل تحرر بصفقة تبادل، وكنت عونا له، ثم سجن شقيقه نائل، كانت أختهم حنان صغيرة، فسهرت على رعاية والديه وحملت مسؤولية كل شيء عندهم".

يسرق منها الموقف ابتسامة سريعة عبرت حديثها على ظهر صقر، بلهجة عامية: "كنت اروح واجي ونلقط زيتون، وحصيدة وأحصد، وهدا نمي عندي روح القيادة، ونماها بداخلي أبو عاصف، فقمت بدوري ودوره في نفس الوقت، ولما اشعر اني تعبت كنت اشحن همتي وأقول بنفسي: اذا ضعفت أولادي حيضعفوا".

تحملت أم عاصف كثيرا طوال خمسة وأربعين عاما من ارتباطها بـ "جبل فلسطين" كي لا تضعف أسرة البرغوثي، وتضل شامخة مقاومة، "حتى أولادي لما ربيتهم كانوا يفتقدون غياب والدهم، فكنت أزرع فيه حبه، وأنه إنسان مجاهد مقاوم، وكنت لهم – في غيابه – الأب والأم، لا أنقص عليهم شيئا، وكانوا مميزين بكل شيء وهم صغارٌ يتحملون المسؤولية، زرع والدهم فيهم حب الوطن، وهو الذي أينما يذهب يترك بصمة".

ثبات في العاصفة ..

تشد أحدها من أعماقها كمن يشد دلوا من قاع بئر: "تعلق أبو عاصف بالجهاد والمقاومة منذ أن كان شابا صغيرا، حتى عندما دخل الاحتلال على القرية لأول مرة، كان الناس يرفعون على منازلهم رايات بيضاء، لكنه وضع هو وشقيقه نائل كومة من الحجارة فوق سطح البيت، ومن وقتها أعلنا العسكرة ومقاومة الاحتلال، استمر أبو عاصف في نفس الطريق حتى أن عرجت روحه للسماء، ولا زال نائل يقبع خلف القضبان كأقدم أسير في العالم".

"لما رأى أولاده محاولة الاحتلال قهر والدهم، خرجوا على ذات النهج، فكان حينما يأخذ الاحتلال والدهم ويعيث جنوده في البيت خرابا، لم يكن يبكي عاصم وهو طفل صغير بل كان يهجم على الجنود محاولا انتزاع والده منهم" قالتها بكلمات محشوة بالأسى.

ثبات أبو عاصف هنا، عالق بذاكرتها كذلك: "يوم استشهاد صالح، جاءه ضابط مخابرات الاحتلال يحاول استفزاه كي يرى الجانب العاطفي في حياة أبو عاصف: "هي قتلنالك صالح"، لم يجد الضابط إلا من "جبل فلسطين" سوى ابتسامة لم يتوقعها وكلمات دوت صداها في أذنه بهدوء خرجت من مدخل فمه مثل رصاصة تغادر فوهة بندقية: "انا ربيته لهذه اللحظة".

"من أول لحظة حتى آخر لحظة، لم أذرف دمعة على صالح، رغم غلاء صالح عندي، فهو غالي جداء بغلاء الوطن، لأنه جزء من الوطن وجزء من الشعب، لكن ولا دمعة ذرفتها أمام هؤلاء المجرمين" ليس غريبا على الشيخ البرغوثي أن تصدر منه تلك الكلمات الثابتة في مقابلة متلفزة سابقة، فهو المعروف بعناده على طريق الحق، لا "يخشى في الله لومة لائم"، ضحى بأغلى ما يملك بدءً من عمره الذي أفنى نصفه في السجون، وباستشهاد نجله صالح، وأسر نجله عاصم.

وكأنك ترى أبو عاصف نفسه في صوت زوجته: "الحمد لله أن الله اصطفانا، فمن يتذوق طعم الجهاد وكلمة الحق ويحارب لأجلها ومن لديه دين وعقيدة ورغم القهر والتعب وفقدان الولد وهدم البيت إلا أنه يشعر كم هو في نعمة"، تستشهد بمقولة لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب: "لو علموا في قلبونا من سعادة، لحاربونا عليها بالسيوف"، صوت أبو عاصف يجول بين كلماتها أيضا: "سلكنا الدرب وكنا نعلم أن المشانق للعقيدة سلم (..) الجبن بطولش عمر والشجاعة ما بتقصره".

ترثي رحيله: "الحزن عميق بداخلي، فنحن لسنا مجردين من المشاعر، إنا العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا عاصف لمحزونون، أبو عاصف بكت عليه الدنيا"، تسمع تنهيدتها الحارة واختناقها بالكلمات

#عمر_البرغوثي #عاصف_البرغوثي