شبكة قدس الإخبارية

مَلَكْ وصندوق مجوهراتها

161253877809221
هند شريدة

دائمة الضّحِك، تُكشّفُ عن أسنانها، لترى ما تبقّى عليهن من حبّات التقويم المعدنية، بعد أن أُزيلت بعض القطع عنهنّ عنوةً. تستطيع التقدير بأن طريقة نزعِها كانت عنيفة بما يكفي، لتعكّر صفو أسنان أصبحت فجأة مُهملة، غير ملساء ولا حتى قويمة. قد ترى أيضاً أسناناً مكسورةً بفعل لكمات تلقّتها على حنكها وفمها يوم الاعتقال. ومع ذلك، تظلّ تضحك.. وتُسْحِرُكَ ضِحكتها.

صورة أخرى لها في المحكمة، تعكس اشتباكاً رهيباً في تضادها، تجلس فيها مَلَكْ، مُفرّجة عن أسنانها، تضحك، بينما تقف خلفها سجّانة، تحملق في الكاميرا متعجّبة! صورة ثالثة لها أيضاً، وهي ترتدي بلوزة مرسوم عليها (فأر ميكي ماوس) وكأنها ذاهبة الى عالم (والت ديزني) بدلاً من عالم المحاكِم الشّرير.

146800546_423050232143535_3667476820303498187_n
 

مَلَكْ سَلمان، من سكان بلدة بيت صفافا في القدس المحتلة. لم يكن عيد ميلادها السادس عشرsweet أو حلواً، كما تحتفل به الفتيات عادة، وإنما مُرّاً للغاية، عليها وعلى عائلتها. فقبل خمس سنوات، وفي صباح يوم مدرسيّ، عادي جداً، بارد بحُكْمِ صباحات شباط، خَرَجَت مَلَكْ من منزلها.. ولم تعد. لم يمضِ وقت طويل حتى اكتسحت صورتها منصة الفيسبوك الزرقاء، وهي مُلقاة على الأرض، وفوقها جنود كُثر.

"تداولت وسائل الإعلام يومها خبر اعتقال فتاة في باب العامود، ولم يخطر ببالي، ولو للحظة، أنها قد تكون بِكْرِيَ: ملك." تقول والدتها، وتكمل: " كانت صدمة لي، لقد عرفتها من مريولها السكنيّ وقميصها الزهري، وحقيبتها الزرقاء المورّدة. كانت مرميّة على الأرض، وفوق رأسها عدد مهول من الجنود."

146771586_777029769561589_246387185106942461_n
 

تدخّلٌ إلهيّ حالَ بين مَلَك وبين رصاصة جندي اسرائيلي، تعطّل زناد مسدسه فجأة في وجهها. احتمالُ حياةٍ ضئيل يُزهِر بين أعتاب موت مُحقق، كان سيكون حتماً لو نفذت الرصاصة فعلاً من فوّهة سلاحه. لقد أنقذت العناية الإلهية مَلَك من جُبّ الموت. لكنّ بَطْشَ الجنود هشّمَ أسنانها، وأغرست لكماتهم أسلاكَ التقويم في لثّتها. قيّدوها واقتادوها "ترانزيت" الى سجن هشارون، حيث قضت ليلتها الأولى في الأسر.

 

برزخ يفصل حياتنا الآن، فحالنا قبل اعتقال مَلَكْ اختلف كلياً عما بعده، تقول والدتها. "كان السؤال الذي يشغل بالنا أنا ووالدها، هل كانت ستختار الفرع العلمي أم الأدبي في مسيرتها التعليمية. لم يخطر ببالنا قط، أن مسلكاً آخر سيقتحم حياة طفلة قاصر، لم تنهِ مدرستها بعد."

 

حكمت محكمة الاحتلال على مَلَك بالسجن 10 سنوات، قُلِّصَت الى تسع سنوات، بعد استئناف تقدمت به عائلتها. أنهت مَلَكْ الثانوية العامة في الأسر، وحصلت على معدل 91%، وهي تدرس الآن الخدمة الاجتماعية في جامعة القدس المفتوحة. تقضي ملك معظم وقتها وهي تقرأ روايات لابراهيم نصرالله، معتمدةً على التعلم الذاتي في التقاط كل معرفة ومهارة. كما أنها تُدَرِّسُ العبرية لصديقاتها في الأسر، وتُتَرْجمُ المقالات والأخبار من العبرية الى العربية. تبلغ ملك الآن 21 شباطاً، وهي مَرِحة ومحبوبة بين الجميع، صوتها عالٍ وضحكتها ترنّ من أعلى البرش في سجن الدامون، مزيج ما بين الطفولة والنضج المُبكّر، مِعطاءة، تُؤْثِرُ غيرها على نفسها، شغوفة بما تفعل، وماهرة في صناعة الدّمى، وإطلاق أسماء مضحكة عليها، إضافة الى مهارتها في صناعة "الدناديش" من (سناسيل) وأساور وخواتم وحقائب قماشية.

بين الفينة والأخرى، ومن باب التندّر والضحك؛ تقيمُ مَلَكْ حفلةً للأسيرات، تعرِضُ فيه مقتنياتها المخبأة في "صندوق مجوهراتها"، هكذا تطلق عليه، وتحبّ أن تنعته الفتيات بذلك. فتلبِسْن القلائد والأساور، متباهيات في حُليّهنّ، وما تشكّه مَلَكْ لهنّ من خرز، أو ما تقع عليه يدها من "إكسسوارات" تجدها على الملابس التي بحوزتهنّ، وتعيد تدويرها عوضاً عن خرز جديد، بعد أن عكف الصليب الأحمر عن جلبه للأسيرات. تعلو ضحكاتهنّ، عندما تقدّم مَلَكْ لهنّ الهدايا، لتزدان بها شروق ونورهان وروان وخالدة، و"تخرخش" معاصمهنّ بأساور من صُنعها، وبأقراط تُشكّلها لهنّ بحُبّ من أكياس البطاطا!

تقول إحدى الأسيرات المحررات اللواتي عشن مع مَلَك في الأسر: "تستطيع (ملابوكس) كما تلقبنها الفتيات، وبمهاراتها الاستثنائية تقليدَ أساور "بندورا".. حتى أنها تزركشها بأقمار ونجوم ومجسمات ساحرة للغاية." اشتقت ل "صالون الفتيات"، ولها تحديداً. لقد كنا في الغرفة المجاورة ندعوها لأكل المعكرونة بلبن التي تحب، وكانت، وبالمقابل، تصنع لنا الجبنة المقلية، والكنافة المميزة بعد أن تعلّمتها من الأسيرة المحررة منار شويكي. مميّزة هي، حتى في شجارها اللذيذ مع "إم يافا" حول أغاني إم كلثوم وناصيف زيتون! أجملُ ما فيها ضِحكتها.. فهي تضحك باستمرار، وبالرغم من كل شيء، ابتسامتها لا تنضب إطلاقاً."

لقد نجحت ملك أخيراً، وبواسطة قَلَمٍ وقصّاصةِ أظافر من سَحْبِ سِلْك التقويم المُعوَجِّ داخل فمها، بعد أن رفضت إدارة السجن توفير دكتور يُصلح لها ما تهشّم داخل فمها. وحدها، وضعت حدّاً لآلام اللثة لديها، وأزالت بعضاً من حبّات المعدن المُثبّتة على أسنانها، لتفرّج عنها، وتضحك.. كما عوّدتنا في صورها.

146602289_1364618247219594_6195023634170047914_n
 

#الأسيرات