شبكة قدس الإخبارية

في الرد على مزاعم المصالح الوطنية لتبرير التطبيع

تظاهرة غاضبة في البحرين رفضًا لاتفاق التطبيع مع الاحتلال.
فراس أبو هلال

ينقسم دعاة ومبررو الهرولة نحو التطبيع مع الاستعمار الصهيوني في فلسطين إلى طرفين، أولهما من يدعي أن هذا التطبيع يهدف لمصلحة الفلسطينيين! بينما يمتلك الآخر "شجاعة" أكبر ووقاحة أقل، ليقول إن فتح علاقات مع الاحتلال يهدف لتحقيق "المصالح الوطنية" للدول المطبعة، وإنه قد آن الأوان لتعطي الدول العربية الأولوية لمصالحها بعد أن ظلت تضع فلسطين وقضيتها كأولوية في سياساتها!

لا يستحق الطرف الأول الرد أو تفنيد حجته، لأنه هو نفسه لا يصدقها، بل إن الناطقين والسياسيين الإماراتيين على سبيل المثال لا الحصر، سحبوا في أول تصريحات إعلامية بعد التطبيع الإماراتي مع الاحتلال ادعاءاتهم، وقالوا إن تنفيذ الضم أو شن حرب على غزة لن يؤثرا على اتفاق التطبيع، بعد أيام فقط من ادعاء أن الاتفاق يهدف لوقف الضم!

أما الطرف الثاني، فتنقسم حجته إلى جزأين: الأول هو ادعاء أن الدول العربية فضلت القضية الفلسطينية على مصالحها "الوطنية" لعقود، وهو ادعاء رد عليه مقال البروفيسور جوزيف مسعد في "عربي21" قبل أيام، أما الجزء الثاني فهو ادعاء أن التطبيع هو مصلحة وطنية للدول العربية، وهذا ما سنوضح كذبه وخطأه في السطور التالية.

 

وكيل الغرب الحصري

تقوم استراتيجية الغرب تجاه الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط على عدة ثوابت، بعضها ثابت منذ تأسيس دولة الاحتلال، وبعضها الآخر تعزز بعد النكسة عام 1967، وبعضها تشكل مع انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور أيدولوجيا "محاربة الإرهاب".

هذه الثوابت هي: ضمان وصول طاقة (غاز ونفط) رخيصة من الشرق الأوسط للغرب، محاربة الإرهاب (يقصد به الظاهرة الإسلاموية حتى السلمي منها عند كثيرين في الغرب وغالبية الأنظمة العربية)، ضبط الهجرة غير القانونية عبر المتوسط، وضمان تفوق إسرائيل العسكري والاستراتيجي.

لا أحد تقريبا يمكن أن يجادل حول هذه الثوابت، بل إن الذين يهرولون نحو التطبيع يقومون بذلك وعينهم على "الثابت الرابع"، ولذلك فإنهم يحاولون أن يدخلوا "قلب" واشنطن عبر تل أبيب.

وإذا كان الغرب يعلن صراحة أن الحفاظ على تفوق دولة الاحتلال هو في صلب ثوابت سياسته الخارجية، فإن من البديهي أن هذا التفوق هو في ضد مصلحة الدول العربية، لأن مصلحة الغرب بالضرورة هي ضد مصلحة دول المنطقة كل على حدة، أي أنه ضد المصالح "الوطنية" لكل دولة.

الغرب لا يرى في الدول العربية سوى مصدر للطاقة الرخيصة التي يريد ضمان تدفقها، ومصدر للتخلف والفقر الذي يريد له أن يستمر بشرط أن لا يفر العرب لشواطئه عبر البحر هربا من هذا الفقر، ومصدر "للإسلام العنيف" الذي لا يمكن مواجهته إلا بالحرب، ومصدر للاستبداد الذي لا بد من استمراره لأن الحرية والكرامة والديمقراطية ستجعل حكام العرب يعملون لصالح شعوبهم لا لصالح الغرب. ولضمان كل هذه المصالح، لا بد من وجود "وكيل حصري" للغرب في المنطقة، يتفوق على كل الدول العربية عسكريا واقتصاديا و"أخلاقيا" عبر مزاعم الديمقراطية في دولة فصل عنصري. هذا الوكيل يجب أن يبقى مصدر خوف لدول الجوار، حتى يستمر الغرب بحصد مصالحه من المنطقة.

يأتي التطبيع هنا ليعزز موقف "الوكيل الحصري"، لأن علاقته مع الدول التي توقع معه اتفاقيات التطبيع هي علاقة الحوت الذي يمتلك معدل إنتاج قومي أعلى من نظرائه العرب، ومعدل دخل للفرد أعلى من الدول العربية، وقوة عسكرية مضمونة من أمريكا، وقوة استخبارية ستكون مؤهلة للعب بالدول العربية التي تطبع معه.

 

كيف إذن سيكون التطبيع مصلحة وطنية والحال هذه؟ إنه تكريس لتخلف الدولة الوطنية العربية وراء "وكيل الاستعمار الحصري".

 

أكذوبة الديمقراطية والتنمية

 

يقول بعض "الليبراليين" العرب، الذين صدف أن معظمهم يكتب في صحف ومواقع غير ليبرالية وغير ديمقراطية! إن الصراع مع الاحتلال أدى لتسويغ الديكتاتورية باسم فلسطين، وإن ميزانيات الدفاع ارتفعت بسبب فلسطين على حساب التنمية.

ولعل نظرة بسيطة على واقع الدول العربية، ستكشف أنه لا يوجد دولة عربية ذات ديمقراطية شبه حقيقية باستثناء تونس التي تتلمس طريقها بعد الثورة، فيما يتحكم الاستبداد بصور مختلفة، وبدرجات متفاوتة في بقية الدول العربية، سواء تلك التي أقامت علاقات مع الاحتلال، أو التي قاطعتها ورفعت شعارات عدائها. "كلنا في الهم شرق"، ولا علاقة لذلك بفلسطين أو قضيتها.

أما موضوع الإنفاق على التسليح بدلا من التنمية فهو أيضا أكذوبة أخرى. فالتسلح العربي في مجمله لا علاقة له بإسرائيل. في معظم الدول العربية يتم شراء السلاح للحفاظ على علاقات جيدة بين المستبدين العرب وبين أمريكا والغرب، وبعض هذه الدول توزع "رشاواها" على شكل صفقات سلاح بين الغرب وروسيا والصين، أما العدو المعلن بشكل لا لبس فيه للدول الأكثر إنفاقا على التسليح في الخليج فهو إيران وليس "إسرائيل".

تبقى أطروحة "الرخاء" المنتظر من علاقات مفتوحة مع الاحتلال، وهي أطروحة تكذبها مؤشرات التنمية والاقتصاد في الدول التي أقامت معاهدات سلام مع الاحتلال، وخصوصا مصر والأردن، حيث تتصاعد نسب الفقر ومؤشرات الفوارق الطبقية والبطالة كل عام، ولم تستطع معاهدات السلام أن تساهم بتحسين الأوضاع الاقتصادية في هاتين الدولتين أو على الأقل تخفيف التدهور الاقتصادي فيها.

"إسرائيل" دولة احتلال عنصرية، وهي تدرك أن تطور الدول العربية ليس في مصلحتها، ولذلك لن تساهم بأي حال في تحسين اقتصاديات دول تعلم أنها في نهاية الأمر قد تتحول إلى دول معادية في حال تغيرت السياسة فيها. وهي أيضا دولة تعلم أن بقاءها "كوكيل حصري" للغرب يتطلب أن تبقى متفوقة اقتصاديا وحضاريا وعسكريا على دول العرب المجاورة.

لن يساهم التطبيع إذن برخاء اقتصادي للدول المطبعة، وستستمر الدول الغنية بشراء الأسلحة لضمان الحماية الغربية، ولن تسمح دولة الاحتلال بتشغيل عمال عرب للمساهمة في تخفيف البطالة بالدول العربية المطبعة لأنها تفضل العمال غير العرب من الناحية الأمنية، وسيكون السياح المزعومين "مشاريع" جواسيس وصحفيين يكتبون بلغة استشراقية عن العرب "المشغولين بالفقر والجهل والجنس"!

التطبيع إذن لا يحقق مصالح وطنية للدول المهرولة نحو الاحتلال.

 

دولة عنصرية مثيرة للمشكلات

تزعم كل دولة أن تطبيعها مع الاحتلال سيحقق لها مصلحة وطنية خاصة بها، غير تلك المصالح العامة المزعومة التي تحدثنا عنها في المحورين السابقين، وهي مزاعم ساقطة منطقا وسياسة.

تهرول بعض دول الخليج نحو التطبيع بحجة مواجهة إيران التي تعتبرها هذه الدول عدوا استراتيجيا، بينما لا ترى في الاحتلال الصهيوني عدوا استراتيجيا أو محتملا. وتتجاهل هذه الدول أن تطبيعها مع "إسرائيل" سيجعلها بمواجهة حتمية مع إيران. من المتوقع أن يتوثق العمل الاستخباري الإسرائيلي ضد إيران من الخليج بالاستفادة من اتفاقيات التطبيع، وهو ما سيجعل دول الخليج هدفا مباشرا لانتقام إيراني لا يمكن توقع شكله أو حجمه.

لن تحارب "إسرائيل" إيران مباشرة لأجل عيون الخليج، بل ستستخدم دول الخليج كمحطات استخبارية، ولن ترد إيران على إسرائيل في أراضي فلسطين المحتلة بل ستجد من الأسهل توجيه ضربات لأهداف خليجية خوفا من حرب مباشرة بينها وبين الاحتلال. هكذا ستتحول دول الخليج ميدانا للحرب بالوكالة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي.

أما المغرب، فقد "باعت" شعبيا اتفاق التطبيع (أو ما تسميه استئناف العلاقات، ما الفرق؟)، من خلال حصولها على اعتراف أمريكي بسيادتها على الصحراء. لا جدال بالنسبة لنا بأهمية الصحراء للمغرب، ولسنا ممن يدعمون أي حركات انفصالية في أي دولة عربية، ولكن بيع الوهم حول أهمية التطبيع لحل أزمة الصحراء هو جهل مطبق بطبيعة "إسرائيل".

تعتبر "إسرائيل" الدولة الوحيدة في العالم التي تؤسس نظاما عنصريا بحكم القانون، وكان آخر تمظهرات ذلك قانون القومية العنصري. هذه الدولة العنصرية بحكم طبيعتها تميل لدعم الحراكات الانفصالية في الدول العربية. حصل هذا مع الكرد في العراق، وحصل كذلك في جنوب السودان، وربما ستكشف الأيام دورا "إسرائيليا" في ملفات انفصالية أخرى.

ثمة نقاش اليوم في الإعلام الصهيوني حول ثمن التطبيع مع المغرب، وثمة مطالبات بفصل ملف التطبيع عن ملف الصحراء، وجدل كبير عن كيفية التصويت في المحافل الأممية على القرارات حول الصحراء. لم يحسم الموقف الإسرائيلي إذن تجاه ملف الصحراء، ولكن الأخطر هو أن تل أبيب اتهمت عبر سنوات طويلة من جهات مغربية مختلفة بمحاولة لعب دور مع الأمازيغ المغاربة وتأجيج العنصرية بين مكونات الشعب المغربي المختلفة، بل إن المغرب طالبت رسميا دولة الاحتلال قبل سنوات بعدم التدخل بملف الأمازيغ.

ستبقى "إسرائيل" دولة عنصرية حريصة على تفتيت وحدة الدول العربية، وسيبقى موقفها الجذري هو مع أي نزعات انفصالية في الدول العربية، ولذلك فإن من الجهل بطبيعة الصراعات في المنطقة توقع أن يمثل التطبيع مدخلا لحق المغرب في وحدته الترابية.

أما الدول العربية الأخرى، ما طبع منها أو لم يطبع بعد، فإنها لو فتشت في مشاكلها فإنها ستجد دولة الاحتلال حاضرة بشكل مباشر، أو غير مباشر، كما هو الحال مثلا في لبنان والأردن اللذين تسبب الاحتلال في خلق أزمات مختلفة فيهما ترتبط باللاجئين الذين هجرهم الاحتلال، أو مصر التي تحرم من التصرف بحرية ومن بسط سيادتها كاملة على سيناء بسبب معاهدة كامب ديفيد، والقائمة تطول.

بجملة واحدة، هذه الدولة الاستعمارية هي في طبيعتها عنصرية، وهي بحكم تأسيسها تعمل ضد مصلحة الدول العربية، ولذلك فإن توقع تحقيق مصالح وطنية للدول العربية من خلال التطبيع هو مجرد وهم، تردده أنظمة لا ترى في الأوطان سوى مصلحتها الشخصية فقط!

#التطبيع