شبكة قدس الإخبارية

الجبهة الشعبية وقضيّة البَديل الثوريّ

kwFhQ
خالد بركات

في العام 1973 أصدرت دائرة الإعلام المركزي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كُرّاساً نظرياً هاماً حمل عنوان "البديل الثوري ومشروع الدولة التصفوي" (1). لقد تَنبَهت الجبهة الشعبية، مُنذ ذلك الوقت، بضرورة مواجهة الدعوة إلى مؤتمر جنيف الدولي عام 1973 واعتبرته مؤامرة خطيرة على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب الأمة والمنطقة، فحذّرت منه وواجهته عبر تصعيد الكفاح المُسلّح كما واجهته سيّاسيًا وإعلاميًا وثقافيًا وجماهيريًا وعلى كافة الصُعد، داخل وخارج مؤسسات الثورة والمنظمة، ودعت في وضوح إلى تأسيس البديل الثوري الجديد.

كان الموقف الفلسطيني الرّسمي في م.ت.ف قد بدأ يتقدم ويتراجع في دائرة " ألـ لَعَمْ" ويجُّسُ النبض الشعبيّ والحزبيّ في الساحة الفلسطينية بشأن المشاركة في مؤتمر جنيف الدوليّ الذي جاء مُتزامنًا مع الجهد الأمريكي في إخراج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني، وحصاد نتائج حرب تشرين / اكتوبر 1973 وتوظيفها لصالح سيّاسات الولايات المتحدة و"اسرائيل" والمعسكر الرّجعي العربي في المنطقة بقيادة التحالف الثُلاثيّ: نظام أنور السادات والنظام الأردني ونظام آل سعود.

تلك كانت في الواقع أولى إشارات الغَزل والتساوق الخطير من قبل فريق ياسر عرفات مع مشروع التسوية ومن خلال الموافقة على الجلوس مع الكيان الصهيوني على طاولة واحدة بإشراف ورعاية " دولية" والبحث في تسوية وفق ما يُسمى "الحل العادل والشامل لأزمة الشرق الأوسط" وتطبيق قراري 242 و 338 ، وقد عَبرّ اليمين الفلسطيني مُمثلاً في "حركة فتح" عن نيّته وتحفزه للمشاركة في مؤتمر جنيف لو أتيحت له الفرصة، لكنه رضخ تحت ضغط الرّفض الشعبي العارم للمؤتمر، لكن ترافق مع هذا كُلّه محاولات حثيثة لتكرّيس نهج ياسر عرفات والمسارعة في إحكام قبضته على منظمة التحرير الفلسطينيّة.

والواقع أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت قد لاحظت مُبكراً محاولات بعض الرأسماليين الفلسطينيين داخل الضفة وعلاقتهم الوثيقة مع النظام الرجعي في الأردن في الضفة الشرقيّة من النهر، فاعتبرتهم قوة رجعية عميلة وخطيرة تسعى إلى "تأسيس كيان فلسطيني" كما أكدت الجبهة الشعبية على موقفها ذلك في وضوح لا يقبل التأويل وسجّلته في وثيقتها التّاريخية الهامّة " الإستراتيجية السيّاسية والتنظيميّة" الصادرة عن مؤتمرها الثاني في فبراير عام 1969.

وانحازت معظم القوى والمؤسسات الشعبية والمراكز البحثية الفلسطينية المرتبطة بالمنظمة وجموع المثقفين الثوريين العرب إلى موقف الجبهة الشعبية في تلك الفترة. وبدأ الحديث يدور في أوساط فلسطينية وعربية واسعة عن ضرورة تأسيس البديل الثوري الفلسطيني القادر على شق طريق الثورة وإدامة شعلة حرب التحرير الشعبية وكبح تنازلات القيادة المتنفذة في م.ت.ف ومن يقف خلفها من قوى وأنظمة رجعيّة في المنطقة.

رفضت الجبهة الشعبية إذن مؤتمر جنيف وبعد عام واحد على تلك المبادرة طرحت قوى فلسطينية بإيعاز من فريق عرفات برنامج " النقاط العشر " في العام 1974، الذي رفضته الجبهة الشعبية في حينه، مُؤكدة أن ما حذّرت منه من مخاطر خلال الأعوام الأخيرة الماضية بدأ يُترجم نفسه في أطر م.ت.ف ومحاولة استدخاله عبر البوابة الفلسطينية وما سُمي بـ "البرنامج المرحلي" غير أن قيادة الجبهة عادت – للأسف الشديد- وتبنت هذا البرنامج (النقاط العشر) رغم ما أعلنته من تحفظ على بعض بنوده، ورغم محاولاتها تقديم صياغات أو عبارات متشددة أكثر، لكنها لم تقطع مع برنامح اليمين الفلسطيني كما لم تؤسس لمسار جديد خارج م. ت. ف ولم تصنع البديل الثوريّ.

وبعد اجتياح بيروت في العام 1982 وما نجم عنه من تداعيات كارثيّة على واقع الثورة والمنظمة وخروج قوات المقاومة من لبنان وتشتيتها في عدة عواصم عربية، وما أقدم عليه فريق عرفات من سيّاسات وتقارب مع النظام المصري وفك عُزلة نظام كامب ديفيد، وتوقيع "اتفاق عمان" سيء الصيت مع النظام الأردني، عادت الجبهة الشعبية لتطرح مرة أخرى مسألة البديل الثوري من جديد، ثم اكتفت بتأسيس "جبهة الانقاذ الفلسطيني" واعتبرت أن دورها الرّئيسي يكمن في لجم مسار اليمين الفلسطيني، وبررت ذلك مُجدداً تحت شعار" الحفاظ على منظمة التحرير والوحدة الوطنية "!

وبعد انعقاد مؤتمر مدريد التصفويّ في أكتوبر عام 1991 وقف الدكتور جورج حبش في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق وطرح مجموعة من الأسئلة الحارقة أمام الجماهير الشعبية المُحتشدة التي جاءت لإحياء الذكرى الـ 25 لإنطلاقة الجبهة الشعبية وسأل الحكيم :

"ما هو مُخططنا لمواجهة هذه المرحلة الصعبة؟ ما هو بديلنا لمواجهة سياسية الاستسلام والتفريط؟ وما هي مرتكزاتنا الاستراتيجية لمواجهة المرحلة المقبلة؟ وما هي مقومات البديل النضالي الذي سنعتمد عليه؟

كان هذا قبل أكثر من ربع قرن.

واصل الحكيم بالقول: البعض يُريد تبرير سياسة الاستسلام بطرح سؤال: ما هو البديل المتاح أمامنا في ظل الواقع العربي والدولي المظلم الذي يطوقنا من كل جانب؟ وأجاب الحكيم " جوابي لهؤلاء لا بديل أمامنا إلا الكفاح ، فعندما نكون أمام معادلة الاستسلام المُذِّل أو استمرار النضال فان خيارنا واضح، وخيار شعبنا الذي قال (لا لمؤامرة الحكم الذاتي) واضح وأكيد ".

لقد دعا "الحكيم" إلى إستمرار النضال في مواجهة نتائج مؤتمر مدريد التصفويّ من خلال تأسيس البديل الثوري الفلسطيني في مواجهة مخطط الحكم الذاتي المسخ، واعتبر أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يمكن أن تكون رأس حربة في تأسيس هذا المسار الثوري الوطني والديموقراطي الجديد. (2)

كان موقف الجبهة الشعبية يتلخص في أن مهمة قوى اليسار الفلسطيني عمومًا والجبهة الشعبية خصوصًا هي تصعيد الكفاح الشعبيّ والمُسلّح ضد العدوّ الصهيوني وتفعيل وتطوير الانتفاضة الشعبية وحماية إنجازاتها من خطر التبديد والشطب، ومن جهة أخرى حتى لا تفقد المنظّمة ما تبقى لها من مصداقية وشرّعية. وفي تلك الفترة نقلت مجلة الهدف مقابلة شاملة أجرتها مع نائب الامين العام للجبهة القائد أبو علي مصطفى وقد حملت عنوانًا لافتاً " منظمة التحرير الفلسطينية ليّست مقدسة إلا بقدر ما تُقرّبنا من فلسطين"

اعتبرت الجبهة الشعبية مهمتها الأسَّاسية قطع الطريق على القيادة المتنفذة وسياسة تجرّيف المؤسسات والاتحادات الشعبية والنقابية الفلسطينية التي بناها شعبنا الفلسطيني بكفاحه ومنع اليمين الفلسطيني من مصادرة وتجريف مضمونها وجوهرها الشعبي الديموقراطي. والحقيقة أن كل ما حذّر منه د. جورج حبش ومن بعده الشهيد أبو علي مصطفى وقع أمامنا ورأيناه رأي العين بل إننا نراه كل يوم وكل لحظة على مدار الـ 30 سنة الماضية.

وبعد اتفاق أوسلو الخياني عام 1993 نجح العدوّ الصهيوني مَدعومًا من الولايات المتحدة وحُلفائها في تأسيس سلطة الحكم الإداري الذّاتي داخل ما يُسميه العدوّ " يهودا والسامرة". وأسَّست البرجوازية الفلسطينية الكبيرة سلطتها وكيانها التابع الذليل وسلطة فلسطينية بلا سيادة وطنية في مناطق محدودة في الضفة المحتلة. رفضت الجبهة اتفاقيات أوسلو وأصدرت وثيقة سياسية هامّة في العام 1994 لخّصت فيها موقفها وتحليلها ورؤيتها للمرحلة ودعت مرة أخرى إلى تأسيس البديل الثوري.

وبعد 10 سنوات عادت وشاركت في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني ودخلت قياداتها وكوادرها مؤسَّسات وأجهزة السلطة الفلسطينيّة!

الجماهير الفلسطينية والعربية تطرح اليوم أسئلة حارقة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذكرى انطلاقتها التاريخية المجيدة:

لماذا فشلتم في تأسيس البديل الثوري الفلسطيني طوال 53 سنة؟ أين نحن اليوم من هدف التحرير والعودة؟ هل قَدمّت جماهير شعبنا والأمة وجماهير الثورة والجبهة كل هذه التضحيات الجسام في محطات الثورة والانتفاضات الشعبية المتوالية من أجل سلطة وكيان فلسطيني مسخ؟ وإذا كان مسار مدريد – أوسلو قد فشل فما هو بديلكم الثوري اليوم؟ وأخيراً، لماذا تصرّون على تسمية محمود عباس بـ " الرئيس"؟

 

ربما من المفيد التذكير هنا بما قاله القائد الشهيد أبو علي مصطفى قبل استشهاده بفترة وجيزة، قال " "إنّنا حزبٌ يملك التاريخَ المجيد، والاحترامَ العالي في صفوف الشعب لكنّ هذا لا يَشفع ولا يبرِّر حالةَ التراجع أو العجز التي تواجهنا. فالحزب الذي لا يُجدِّد ذاتَه، بالمزيد من العطاء والعمل، يتبدّد ويتلاشى" (3)

كان الشهيد أبو علي مصطفى يؤكد في ذلك على حكمة صينية قديمة تقول: مَن لا يتَجَدَدْ يتَبَدَدْ.

إن المطلوب اليوم من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذكرى انطلاقتها المجيدة هو مكاشفة ومصارحة شعبها ومراجعة مواقفها دون تردد أو تلعثم وخوف، واعلانها القطع الكامل دون رجعة مع سلطة وكيان أوسلو، والعمل مع القوى الشعبية الفلسطينية والعربية وخاصة الطلائع الشبابية والطلابية وجموع المثقفين الثوريين من أجل شق مسار فلسطيني عربي ثوري جديد، يُعيد الجبهة الشعبية إلى جماهير شعبها الفلسطيني وأمتها العربية وإلى رفاقها وأنصارها ويصون تضحياتها، هذا هو الطريق الذي أراده لها الأديب الشهيد غسّان كنفاني: طريق العودة والتحرير.

المصادر:

1 البديل الثوري ومشروع الدولة التصفوي / دائرة الاعلام المركزي 1973

2 جورج حبش، مقابلات ومقالات " استحقاقات الراهن والأفق القادم " 1992 منشورات الهدف.

3 أبو علي مصطفى ، مقابلة. مجلة الهدف 31 تموز 2000

 

 

 

 

 

 

 

 

 

#الجبهة الشعبية