شبكة قدس الإخبارية

هل كان التطبيع شرطاً لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان؟

تنزيل (5)
د. أسامة الأشقر

المتتبع لمسيرة العلاقات السودانية "الإسرائيلية" سيجد أن النمط الغالب فيها هو العداء، ويرجع ذلك بالأساس إلى التصنيف الإسرائيلي للسودان في عهد بن غوريون بأنها عمق استراتيجي لمصر.

كما أنها من دول الحزام المؤثر عليها، فكان إضعاف السودان استراتيجية إسرائيلية بغرض إضعاف مصر؛ رغم أن تلك العقود كانت تشهد علاقات على المستوى الأمني من خلال وساطة أمريكية في بعض المحطات مثل تهجير الفلاشا الإثيوبيين عبر السودان؛ وفي المقابل فإن السودان كان يجري في فلك الدول العربية المعادية لإسرائيل ولاسيما مصر.

ولم تتطور العلاقات السودانية الإسرائيلية نحو السلام رغم اتفاقية كامب ديفيد بسبب وجود نظر استراتيجي مصري وإسرائيلي يرجح بقاء مبررات العداوة؛ فيما تطورت علاقات السودان مع المقاومة الفلسطينية باتجاه الدعم والإسناد بمستويات مختلفة خلال العهود السودانية كافة؛ إلا أن المستوى الاستراتيجي الإسرائيلي بدأ يتغير تجاه السودان على خلفية تطور العلاقة الاستراتيجية مع مصر لاسيما في عهد الرئيس عبد الفتاح السياسي، حيث باتت إسرائيل حريصة على استقرار مصر لضمان استمرار حكم السيسي ومؤسسته، رغم التخوفات الإسرائيلية الكبيرة من عودة نمط الحكم العسكري القاسي وأثره على حركة الجماهير المصرية التي ذاقت طعم الثورة الشعبية وباتت أكثر وعياً وجرأة.

وبالتالي فإن احتمالية تجدد الحراك الشعبي ستكون واردة بقوة في السنوات المقبلة مما يجعل الخشية الإسرائيلية من انهيار الدولة المصرية احتمالاً قوياً، وهذا يحتّم على الاستراتيجية الإسرائيلية تفريغ نواتج الأزمة المصرية المحتملة القادمة في اتجاهات بعيدة عنها، وتبدو السودان الخيار الأمثل لذلك إذا تهيّأ لها أن تكون مغرية للمواطن المصري المأزوم والباحث عن الرزق والأمان؛ وفي ذلك تفصيل يطول شرحه في هذا المقام.

بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، والاتفاق على وثيقة دستورية جامعة بين المكوّنين العسكري والمدنيّ بعد مفاوضات عسيرة تخللتها جولات عنف صعبة، ظل المشهد منقسماً بين المكونين وسط انحيازات من المكونات القبلية والثورية لهذا الجانب أو ذاك مع وجود تنافس ملحوظ استعداداً للمرحلة ما بعد الانتقالية، وتصاعد الخلاف بشدة على خلفية الموقف من استدعاء البعثة الأممية بموجب البند السادس، والموقف من تفكيك مؤسسة الجيش والمنظومة الأمنية، والموقف من وحدة السودان وأقاليمه ضمن نظام واحد، والموقف من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي المشاركة في الثورة السودانية.

وقد كان واضحاً أن الحسم العسكري أو الثوريّ لن يكون قادراً على تجاوز الآخر مما أزّم الحل الداخليّ، وبات اللجوء للخارج حلّاً لديه الأولوية لدى صانع القرار السوداني، وكانت العين السياسية السودانية تحاول أن تتجاوز التعقيدات الإقليمية وصراعاتها وحساباتها، فالموقف المصري يختلف في حقيقته عن الموقف الإماراتي، والموقف السعودي متردد بينهما، وكلها بعيدة عن الموقفين التركي والقطري، والموقف الإثيوبي مختلف لحسابات المصلحة الإثيوبية التاريخية، والموقف التشادي ينظر من منظار آخر يتعلق بدارفور وليبيا ، والموقف الجنوب سوداني يملأ فراغ المنافسة الإقليمية ويحاول الاستفادة المادية، ولأن الموقف الأوروبي لا يخرج عن الموقف الأمريكي فقد اتجهت الأنظار إلى الولايات المتحدة التي لا تبدو متشجعة لتطوير العلاقة مع السودان حتى مع الثورة بسبب وجود نفوذ لقوى شيوعية داخل الحكومة السودانية، وبسبب قوة اللوبي الأمريكي اليهودي المعادي للسودان، وهو الأمر الذي عمل طرفا الوثيقة على تجاوزه للوصول إلى خط اشتراك أمريكيّ إيجابيّ.

لم يكن الباب الأمريكي سهل الانفتاح رغم تكرر المحاولات من الطرفين، فجاءت النصيحة من بعض الجيزان الأفارقة الذين تتوتر علاقاتهم أحياناً مع الدول المستعمِرة السابقة فيلجؤون حينها إلى الصندوق الإسرائيلي الباحث عن أي علاقات دبلوماسية أو سياسة علنية ليثبت وجوده في خارطة العلاقات الطبيعية لأي "دولة"؛ وكان هذا الخيار الحساس الذي سيعقد الأزمة السودانية داخلياً أكثر خياراً مطروحاً بقوة، ومن الملفت أن الدول الإقليمية المحيطة بالسودان لم تكن حريصة على تواصلٍ سوداني إسرائيلي أو أمريكي مباشر، ويرجَّح أنها لم تلعب دوراً في فتح العلاقة المباشرة بين السودان وإسرائيل، وأن دولة إفريقية بعينها وهي أوغندا قد نشطت في ترتيب العلاقة بطلب سودانيّ عاجل ومبادرة سودانية، قبل أن يشرع أحد طرفي الوثيقة في الأمر بعيداً عن الطرف الآخر فيسجّل له هذا العبور الموصِل إلى الأمريكان في نهاية المطاف.

من الواضح جداً أن هذه العلاقة قد أثمرت بعد بضعة أشهر من الحوار السري البعيد عن أعين الإعلام الإسرائيلي والسوداني والعالمي حتى توصل الفريقان إلى صيغة علاقة أولية لا يترتب عليها تطبيع سياسي كامل أو فتح للسفارات وتبادل التمثيل في هذه المرحلة، وبدَت المطالب الإسرائيلية متعلقة بفتح المجال الجوي السوداني للطائرات الإسرائيلية بغاية العبور، وهو ما حصلت عليه شرط ألا تكون الخطوط هي الناقل الرسمي (العال)، وإعادة آلاف اللاجئين السودانيين في "إسرائيل" إلى ديارهم والتكفّل باحتياجاتهم لمدة من الوقت بعد وصولهم ، في مقابل تنشيط ترميم العلاقات السودانية الأمريكية والإسراع في رفع السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب وترتيب لقاء مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، وصدور التزام أمريكي بوحدة السودان وعدم السماح بتفكيك المؤسسة العسكرية السودانية ضمن أي اتفاق قادم.

ومع حصول اللقاء بين رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا بات لزاماً على "إسرائيل" أن تتحرك في ضوء الالتزامات، ولا يُعرَف على وجه الدقة مقدر الجهد الذي بذلته إسرائيل لتنفيذ هذا الاتفاق الثنائي لاسيما أن العالم كله قد انشغل بجائحة الكورونا، لكن هذا اللقاء حرّك المفاوضات الأمريكية السودانية لإكمال مسيرة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في رفع العقوبات عن السودان ورفع اسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب، وخفف من غلو اللوبي اليهودي الأمريكي، لكنه لم يستطع وقف جهود عقود طويلة من التحريض على السودان ودمغه بالإرهاب في كل منصة دولية.

ويبدو أن "إسرائيل" لم تكن متشجعة بما يكفي لفتح مسار التطبيع السياسي مع السودان خاصة أن الضغط الأمريكي لفتح هذه العلاقة جرى تحت ضغط الانتخابات الأمريكية، وبات أشبه بالابتزاز، مما أدى إلى رفض قطاعات سودانية ثورية عديدة لهذه الطريقة؛ إضافة إلى رفض قوى أساسية داخل إعلان الحرية والتغيير لأي اتفاق من هذا النوع.

 

كما أن إسرائيل غير قادرة في هذه الفترة على الدخول في التزامات مباشرة مع السودانيين الذين باتوا يعانون من واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها حتى كاد أن ينعدم الوقود والخبز والدواء، فيما تراجعت الخدمات الأساسية إلى معدلات سيئة جداً، مما يعني أن إسرائيل ستكون مطالبة بدعم السودان اقتصاديا وهو الأمر الذي لا تفعله إسرائيل عادة وتفضّل الصيغة الاستثمارية التي تترك لها نفوذا كبيراً في الدول المحتاجة أو المأزومة؛ كما أن إسرائيل ستبذل جهداً هائلاً في هذا الملف خاصة أن العقوبات الأمريكية على السودان ليست متعلقة بالقرارات التنفيذية للرئيس الأمريكي فحسب بل هي مرتبطة بقوانين الكونغرس ومجلس الشيوخ، وهذا يعني استنزاف أقسام العلاقات العامة الإسرائيلية داخل الولايات المتحدة في ملف ثانوي ليس في مستوى العلاقة مع مصر أو دول الخليج القوية وفق الخبراء الإسرائيليين.

ومن الواضح أن نتنياهو قد ضنّ على صديقه ترامب بهذه الهدية، لاسيما أن ترامب حصل على هديتين كبيرتين بإعلان وساطته في تأسيس علاقة إسرائيلية قوية مع الإمارات والبحرين رغم أن العلاقة نشطة عملياً منذ أو اخر 2019 ولم تكن بحاجة إلى إعلان؛ ولا يفوتنا أن نتنياهو محتاج هو الآخر إلى رافعة سياسية تعيد له بعض الاعتبار في مواجهة اتهامات الفساد الداخلية وفي حال قيام انتخابات رابعة تحتاج إلى إنجازات، فلذلك تتحدث بعض المصادر الإفريقية الرسمية أن الرغبة الإسرائيلية هي التي أجّلت فرض الإدارة الأمريكية شرط التطبيع مقابل رفع العقوبات.

ولعل ما ساعد في تمرير هذا الأمر هو أن الإدارات الأمريكية السابقة لم تضع يوماً التطبيع مع إسرائيل شرطاً ضمن بنود ما سُمي بالحوار الاستراتيجي الأمريكي السوداني؛ كما أن ضربة البداية في ملف التطبيع قد تحققت فعلاً بلقاء مباشر اعترف به الطرفان رسمياً رغم عدم وجود صور تدعم هذا الإعلان، ولذلك بات شائعاً في المجالس الخاصة أن اشتراط الإدارة الأمريكية التطبيع لتسريع رفع اسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب كان استجابة لمطالبات بعض أعضاء الكونغرس الموالي للوبي اليهودي الأمريكي أثناء المفاوضات مع الفريق السوداني الحكومي في واشنطن، وأن الإدارة الأمريكية استغلت هذه النقطة لتعزيز علاقتها مع اللوبي اليهودي المؤثر في الانتخابات الأمريكية القريبة، أي أن إثارة الأمر تكتيك داخلي أمريكي، ولم يكن ذلك الاشتراط ضمن سياق الرؤية الأمريكية تجاه العلاقة مع السودان أصلاً.

وتبقى الخطورة أن المزاج السياسي السوداني العام والمزاج الشعبي بات يخضع لتصورات إعلامية سياسية مصنوعة أن الخلاص الاقتصادي والرخاء سيأتي من بوابة التطبيع رغم أن الأبواب الأمريكية مفتوحة عملياً وإنما تحتاج إلى الخبرة في الدخول والمطالبة، ولم يلحَظ هذا المزاجُ الوضعَ الذي آل إليه الاقتصاد في الدول المطبّعة الجارة مثل جنوب السودان وإرتريا وتشاد، وأن الخلاص مرتبط بالإدارة أكثر من ارتباطه بالتطبيع وغيره، وأن دولا ناجحة كثيرة مستعدة لتقديم خبراتها ما دامت ستكون مدفوعة الثمن.

#الاحتلال #السودان #التطبيع