شبكة قدس الإخبارية

تهافت التنظير في تصريحات الأمير

1601928879432618100
ماجد كيالي

“التاريخ ليس حكاية للتسلية”، هي عبارة للأكاديمي الفلسطيني هشام شرابي، وتصحّ كثيراً على كلام الأمير بندر بن سلطان الأخير الذي وجه في انتقادات وهجوماً ضد القيادات الفلسطينية.

لا يمكن أن يصنِّف أحد كلام بندر بن سلطان، لا بصفته مؤرّخاً ولا باحثاً سياسياً، ولا منظراً لكفاح الشعوب من أجل التحرر الوطني، فهو رجل سلطة في منصبيه (رئيس للمخابرات السعودية وسفير للمملكة في الولايات المتحدة الأميركية)، من دون أن يعرف أحد ما هي المآثر التي قدّمها في المنصبين المذكورين.

بندر بن سلطان

هذا الكلام لا يقلّل من أهمية الرجل في الحياة السياسية في بلده وفي العالم العربي، لكنه يصنّف كلامه في موضعه، بوصفه يصدر عن سلطة، ويتحيّز لخياراتها السياسية، فضلاً عن انطوائه على تلاعب ومخاتلة وتوظيف، بدلالة سكوته عن تلك “الثروة” من المعلومات، كل ذلك الوقت، على رغم أهميتها وخطورتها، ما لا يفوت إدراك أي شخص بأن ذلك التوقيت جاء للتسويق لخيار سياسي معين، أو التغطية عليه، أو تبريره، وهو التخلي عن قضية فلسطين، تحت مسمى التطبيع مع إسرائيل أو غيره.

ثمة حقائق هنا قد يجدر التذكير بها، الأولى، أنه ليس لدى أي نظام عربي أي دروس كي يقدمها للفلسطينيين، لا في مجال محاربة الفساد، ولا في التنمية ولا الديموقراطية ولا في الكفاح ولا في الكرامة الوطنية، فتلك الأنظمة عوقت قيام الدولة والمواطنة، لمصلحة سلطة متجبّرة إزاء شعبها في الداخل، وهشّة وتابعة إزاء الخارج. والثانية، أن إسرائيل لم تقو وتتميّز وتتنمّر في المنطقة العربية إلا بفضل فساد النظم السائدة واستبدادها، وتبديدها الموارد البشرية والمادية، وتذلّلها للخارج، وامتهانها مواطنيها. والثالثة، أن تلك الأنظمة استخدمت فلسطين كقضية مركزية، فقط للاستهلاك والابتزاز والمزايدة، في علاقاتها البينية، ولتغطية ممارساتها التسلطية وهيمنتها على المجتمع والموارد في بلدانها.

هذا يحيلنا إلى فتح ملف علاقة الأنظمة العربية بقضية فلسطين، وأولها، تفنيد أسطورة أن الجيوش العربية زحفت لمنع إقامة إسرائيل (المقصود جيوش مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق واليمن والسعودية)، في حين أن تلك “الجيوش” لم يتجاوز عدد أفرادها 30 ألف رجل، مع أسلحة فاسدة في معظمها، وفي ظل تشتت في القيادة والإرادة، بينما استطاع المجتمع اليهودي في فلسطين، الذي كان يقدر وقتها بحوالي 650 ألف، من تجميع بين 70 و120 ألف مقاتل في مراحل ما عرف بحرب 1948، في تشكيلات الهاغاناه وتشيرن (ليحي) وأرغون (أتسل).

الفكرة لم تتوقف على ذلك، فإسرائيل استغلت تلك الأسطورة لترويج صورتها كضحية للجيوش المهاجمة، ثم استغلتها ثانية لإظهار قوتها وجبروتها أمام يهود العالم، باعتبارها تمكنت من قهر تلك الجيوش، في حين وظفت الأنظمة العربية الدعاية الإسرائيلية تلك في تبييض صفحتها أمام شعوبها، في نوع من التوظيف المتبادل غير المباشر. وثانيها، يتعلق بهجرة يهود البلدان العربية إلى فلسطين/ إسرائيل. مثلاً، في ظل الانتداب البريطاني وصل إلى فلسطين حوالي 483 ألف مهاجر/ مستوطن، 8 إلى 10 في المئة منهم فقط من يهود البلدان العربية، بينما قدر مجموع المهاجرين اليهود إلى إسرائيل، بعد ثلاثة أعوام من قيامها، بــ 687 ألف مهاجر، ما أدى إلى مضاعفة عدد اليهود فيها، فإن 50 من مصادر تلك الهجرة كانت من البلدان العربية! وثالثها، تمثل بممانعة الأنظمة العربية للفلسطينيين في محاولتهم إقامة كيان سياسي لهم، في الأراضي التي فلتت من الاغتصاب الصهيوني، في الضفة وقطاع غزة، من خلال تقويض حكومة عموم فلسطين. وهي المحاولة الكيانية الأولى للشعب الفلسطيني، وقد تجاوز الأمر ذلك إلى وضع عوائق أمام الفلسطينيين للتعبير عن هويتهم، أو عن ذاتهم الوطنية. ورابعها، يتعلق بإعادة تفسير دعم الأنظمة العربية لحركة التحرر الفلسطينية، فإذا كان ذلك تم تحت ضغط هزيمة حزيران/ يونيو (1967)، لتغطية هزيمة تلك الأنظمة، وإيجاد مصادر أخرى لشرعيتها، فإنه يمكن تفسير دعم بعض الأنظمة النفطية الخليجية (مع نظام البعث السوري) للكفاح المسلح الفلسطيني، قبل تلك الحرب، بحاجتها لإيجاد معادل شعبي لمصر الناصرية، التي شكلت عامل إقلاق لها، في تلك الفترة. وكانت الورقة الفلسطينية هي الأنسب في هذا المجال، وهو الدور الذي استكملته الأنظمة ذاتها في مساعيها إلى وأد ثورات “الربيع العربي”، التي اندلعت مطلع هذا العقد، حتى ولو بدا أنها مع تلك الثورات أو مع بعضها.

إضافة إلى ما تقدم فإن التهافت في كلام الأمير كان واضحاً في توجيه اللوم للضحية وليس للظالم، للشعب المستعمَر وليس للمستعمر، للضعيف وليس للقوي، على ما اعتبره تضييعاً للفرص، وهي استعارة من دعاية إسرائيلية مكررة، ومملة، علماً أن الأمير، من موقعه الديبلوماسي والاستخباراتي، يفترض أن يعرف أن القيادة الفلسطينية قدمت أكثر ما عندها في سبيل التسوية، على رغم الإجحاف المتعلق بحقوق شعب فلسطين. فهي منذ منتصف السبعينات تقول بإقامة دولة فلسطينية في 22 في المئة من أرض فلسطين. ثم وقعت اتفاق أوسلو منذ 27 عاماً، ورضيت بفترة اختبار لخمسة أعوام، من دون أن تنفذ إسرائيل أياً من الاستحقاقات التي نص عليها الاتفاق. كما وافقت على خطة خريطة الطريق (2002) التي طرحها الرئيس بوش الابن، في حين رفضتها إسرائيل. وفي الحقيقة، فإن إسرائيل تتصرف باعتبار فلسطين التاريخية، أو ما تعتبره هي “أرض إسرائيل الكاملة” ملكاً خاصاً لها، منحه “الربّ” لشعبه المختار، وهو ما شرعه الكنيست الإسرائيلي في قانون وضعي قبل عامين (2018)، باعتباره إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، فقط، في تقنين لمكانة الفلسطينيين من مواطنيها. ثم إن إسرائيل هذه أطاحت بالمبادرة العربية للسلام التي اقترحتها المملكة العربية السعودية في مؤتمر قمة بيروت (2002)، على رغم احتوائها على بند يقول بسلام كامل مقابل تطبيع كامل.

عموماً من المؤسف أن مسؤولاً عربياً يتحدث على هذا النحو في التملق لدولة يفترض أنها صغيرة، من حيث الحجم وعدد السكان، وبالنسبة إلى الثروات المالية والباطنية، بالقياس للمملكة العربية السعودية، بل إن هذا الفارق الكبير يفترض أن يضع الأمير، والطبقة الحاكمة في بلده، في موقع المساءلة عن سبب تفوق إسرائيل، في مجالات العلوم والتكنولوجيا واستثمار الموارد وإدارة المجتمع والنظام السياسي، على السعودية على رغم كل ما تمتلكه الأخيرة من إمكانات مادية وجغرافية وبشرية، فما بالك إذا كانت تلك دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، ونشأت من نقطة الصفر في علاقتها مع الأرض والبشر، والمنطقة.

بصراحة لا شيء يبرر منطق التخلي عن فلسطين، ومنطق التملق لإسرائيل، لا الخطر الإيراني، ولا أي خطر آخر، لأن ضعف تلك الأنظمة ناجم عن طبيعتها، كأنظمة تسلطية، تفتقد لأولويات الدولة والمواطنة، والإدارة الرشيدة للحكم والموارد والخيارات والفرص، فمن يضيع كل ذلك لن يجد ضالته في إسرائيل. ويبدو في هذا الأمر أن أنظمة الثورة المضادة التي اغتالت الربيع العربي تسعى إلى اغتيال تضحيات الشعب الفلسطيني ونضالاته، من دون أن تربح شيئاً في موقفها الدوني إزاء إسرائيل المتغطرسة.

كلمة أخيرة، أيضاً، فالقيادة الفلسطينية تتحمل بعضاً من المسؤولية عن تلك المواقف، فهي منذ زمن طويل باتت ترى نفسها بمثابة نظام من الأنظمة العربية، وبات بيضها كله في سلة تلك الأنظمة، ما شوش على علاقتها بالمجتمعات العربية. ومن ناحية ثانية، فهي أضحت تتصرف كسلطة إزاء شعبها، على رغم أنها ما زالت تحت الاحتلال، وفوق ذلك فإن فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية لم تميز نفسها إزاء ثورات الربيع العربي، باعتبار أن قضية الحرية هي قضيتها، وأن الحرية لا تتجزأ.

في أي حال، هذا وضع لا يدعو إلى اليأس، فلكل ظاهرة نقيضها، وربما هوان الأنظمة إزاء إسرائيل يعزز دمج قضايا الحرية والعدالة والديموقراطية للمجتمعات العربية بقضية مناهضة إسرائيل، كظاهرة استعمارية واستيطانية وعنصرية، هذا أولاً. وثانياً، فربما أن ذلك يحرر قضية فلسطين والفلسطينيين، ويحرر المجتمعات العربية من ادعاءات الأنظمة التسلطية ومن توظيفاتها وأوهامهم عنها.