شبكة قدس الإخبارية

تهويد تاريخ الإمارات وتاريخ الجزيرة العربية في ويكيبيديا

15975258377186018
خالد الحروب

شيء ملفت أن تُنشر وتُحرر صفحات جديدة في الموسوعة الالكترونية “ويكيبيديا” تحت العناوين التالية: “تاريخ اليهود في الامارات العربية المتحدة”، “تاريخ اليهود في البحرين”، تاريخ اليهود في عُمان”، وهكذا في بقية دول الخليج (بالإنجليزية والعربية في نفس التوقيت).

 تاريخ تحرير ونشر هذه الصفحات هو شهر أيلول (سبتمبر الماضي) وتحديداً بعد اقل من أسبوع واحد فقط من توقيع اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل. قراءة النصوص التي تؤرخ لتاريخ اليهود في منطقة الخليج وكما هي واردة في هذه الصفحات تُثير أسئلة كثيرة وتحتاج لمساحة موسعة لتناولها، لكنها تشير كلها إلى محاولات مُستمية لإعادة كتاب تاريخ المنطقة بحيث يتضمن “مكونا يهودياً” يكون على ذات الأهمية التأسيسية للمكون العربي والإسلامي.

 ويأتي هذا الهوس التاريخي، والمُتوقع ان نشهد استعاراً حقيقيا له في السنوات القادمة وخاصة في منطقة الجزيرة العربية، متوافقاً مع “الدين الابراهيمي” الجديد الذي يُراد له أن يكون الإطار الثقافي والديني الجامع لشعوب المنطقة، بما يحقق في الجوهر الدوس على قضية فلسطين بكونها تفصيلاً هامشياً في سياق “الأخوة الابراهيمية” الواسعة تاريخياً وجغرافياً.

هذه السطور تتأمل أحد العناصر المشتركة في الصفحات الجديدة المُشار اليها والتي تريد تخليق تاريخ تهويدي جديد يُضخم من أحداث وأفراد وتجمعات، وينقلها من الهامش إلى المركز، أو يدفع بها شيئا فشيئا نحو ذلك الاتجاه.

تستند هذه الصفحات إلى قصص ومرويات منسوبة لأحد الرحالة اليهود الاندلسيين في القرن الثاني عشر، Benjamin of Tudela أو بنجامين التطيلي، كتبها خلال وبعد رحلة له اخذته من إسبانيا إلى أوروبا، شملت فرنسا وإيطاليا، واليونان ثم اسطنبول، والمتوسط، مصر وسورية وفلسطين، ثم العراق وبلاد فارس استغرقت ثماني سنوات، ما بين 1165 و1173 (أو أكثر بحسب بعض المصادر). ونشر بنجامين خلاصة انطباعاته ووصفه للبلدان التي زارها في كتاب باللغة العبرية تحت عنوان اسفار بنجامين، ولاحقا ترجم الى لغات أوروبية عديدة، وصدر بالإنجليزية لأول مرة سنة 1907.

المحرر الذي كتب صفحات “تاريخ اليهود في الامارات” وتاريخ اليهود في عُمان وتاريخ اليهود في السعودية استخدم فقرة أساسية تشير إلى كتاب بنجامين التطيلي بطريقة يتم فيها التلاعب في المعلومات بشكل مُلتبس وتخلص الفقرة إلى أن هذا الرحالة زار اليهود المقيمين في هذه المنطقة أو تلك في الامارات أو السعودية أو عُمان (في القرن الثاني عشر).

محرر الصفحات خلع على بنجامين التطيلي وصفاً غير موجود في أي من الكتب التي أشارت إلى هذا الرحالة، وهو وصف “الحاخام”. لماذا يُضاف هذه الوصف على رحالة عادي عندما يتم اقتباس بعض ما كتب في سياق تخليق تاريخ لليهود في الامارات أو ُعمان أو السعودية؟ لنا أن نتوقع على الأقل أن هذا الوصف يضفي مسحة دينية (ابراهيمية) على رحلاته التي يشير المؤرخون إلى أنها كانت مدفوعة بحوافز التجارة بالدرجة الأولى وربما زيارة الأراضي المقدسة، ثم أضيف إليها زيارة التجمعات اليهودية والكتابة عنها.

 

تلاعبْ المحرر العتيد لا يتوقف عند اختلاق وصف غير موجود في الحقيقة وخلعه على بنجامين، لكنه يتسع لما هو أهم وأخطر من ذلك.

ابتداءً يركز المحرر على أن هدف بنجامين كان رصد حالة وأعداد اليهود في الأماكن والبلدان التي زارها، وأن هذا كان هدفه الأهم.

ثم يقول لنا (في الصفحة الخاصة باليهود في الامارات) بأن إحدى البلدات التي زارها وكان فيها أقلية يهودية هي بلدة كيس Kis التي تقع فيما يعرف اليوم ب “رأس الخيمة”.

ويكرر ذات الأمر في الصفحة الخاصة ب “اليهود في عُمان” ليقول بأن بنجامين زار اليهود في بلدة اسمها “مسقط”. أدهشتني هذه المعلومات ودفعني الفضول للبحث في أمر هذا الرحالة بشكل أعمق والتأكد من هذه المعلومات.

واستطعت الوصول إلى الترجمة الإنجليزية الأولى للكتاب والتي صدرت عام 1907، وقرأت الأجزاء الخاصة برحلات بنجامين في الجزيرة العربية، واكتشفت أن بنجامين هذا لا يقل كذبا وتحريفا في الكثير مما يسرده من انطباعات عن محرر صفحات الويكيبيديا نفسه.

لم أجد في كتاب بنجامين أي ذكر أو أثر لزياراته المزعومة لبلدة “كيس” التابعة لرأس الخيمة، ولا لمدينة مسقط، بما يعني أن محرر الصفحات والذي يريد أن يختلق تاريخ ل “يهود الامارات” كتب معلومات كاذبة جملة وتفصيلا. وللهروب من كذبته في قصة بلدة رأس الخيمة، يضع هامشاً تضليليا يحيل القارئ إلى مرجع بعنوان “الاطلس الشارح للحضارة اليهودية”، وهي إحالة غريبة لتأكيد زيارة بنجامين لرأس الخيمة في الوقت الذي يتوفر كتابه نفسه بين أيدينا، وفيه تفصيل للاماكن التي زارها.

 والأمر ذاته، أو الكذبة ذاتها، تنطبق على زيارته لبلدة مسقط ويهودها، في صفحة “اليهود في عُمان”، والغريب أننا نجد نفس الإحالة إلى ذات المرجع المشار إليه، الأطلس، وعدم الإشارة إلى كتاب بنجامين نفسه.

بالانتقال إلى مبالغات وكذب بنجامين التطيلي نفسه والتي يمكن لأي قارئ لديه الحد الأدنى من المعرفة التاريخية والسكانية في المنطقة الانتباه لهما، فإننا نقرأ ما يلي (في الصفحات من 45 إلى 53): أن بنجامين وبعد أن زار العراق انتقل إلى المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية وتعمق فيها إلى أن وصل منطقة تيماء وخيبر.

ويورد الكتاب بأن عدد اليهود في تلك المنطقة (في الفترة الزمنية التي أنجز فيها بنجامين رحلته، أي بين 1165 و1173) كان في حدود 300,000 نسمة، وأن المنطقة كان فيها أربعين مدينة كبيرة، وأن مدينة تيماء لوحدها كان فيها 100,000 يهودي.

طبعا هذه أرقام لا علاقة لها لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا، لكنها سوف تصعد إلى السطح في السنوات القادمة وتصبح جزء من النقاش “التاريخي” حول دور وتاريخ اليهود في الجزيرة العربية، إضافة إلى ذلك يصف بنجامين يهود تيماء وخيبر وما حولهما بأنهم كانوا متحضرين وأهل علم ويسكنون البيوت والمدن، بينما العرب بدو متنقلين وغير متعلمين، وأن هؤلاء البدو كان يخشون دوما من اليهود الذي اتصفوا بالقوة والشجاعة وكانوا مُهابين الجانب، أما خيبر، بحسب بنجامين، فقد كان فيها 50,000 الفا من اليهود.

زادت دهشتي من القيمة الاعتبارية والبحثية التي يتمتع بها كتاب هذا الرحالة رغم المبالغات والكذب الذي يحتويه، فقرأت عنه أكثر، لأكتشف ان العديد من المؤرخين يشككون في حقيقة زياراته للكثير من المناطق التي وصفها في كتابه.

ويرى أغلبهم بأن الكتاب يُقسم إلى جزئين من ناحية المضمون، الأول “ما رآه بنجامين وكتب عنه”، والثاني “ما سمع عنه بنجامين وكتبه”. ويبدو أن “تاريخ اليهود في الجزيرة العربية” يقع ضمن مرويات واختلافات الجزء الثاني، حيث يؤكد محرر الترجمة الإنجليزية بأن بنجامين لم يصل بالفعل إلى الجزيرة العربية.

مع ذلك وبرغم الاجماع على أن هذا الرحالة وكتابه وانطباعاته لا ترقى لأي مستوى بحثي يمكن الاعتماد عليه توثيقيا مع الإشارة إلى أهميته التاريخية والسردية ككتاب رحلات، فإن محرر صفحات الويكيبيديا يعطي القارئ انطباعاً ب “العمق” والبحث التاريخي عبر الاعتماد عليه وهو يوثق المكون اليهودي في تاريخ بلدان الخليج العربي.

والشيء المُثير في هذه صفحات الويكيبيديا الجديدة هذه هو تكرار اقحام خارطة توضح خط سير رحلات بنجامين التطيلي (مرفقة)، ونراها في صفحات الامارات، وُعمان، والسعودية، والبحرين.

 وفي هذه الخارطة هناك خطان، واحد أسود متصل وآخر متقطع (حول وفي الجزيرة العربية). الأسود المتصل يشير إلى خط سير شبه موثق ويغلب ان يكون قد حصل بالفعل، بحسب المؤرخين والمختصين، أما الخط المقطع فهو يشير إلى خط سير غير موثق وغالبا لم يتم. ومع ذلك، لا نلمس في نصوص الصفحات الويكيبيدية أي تشكيك في هذه الرحلة عبر الجزيرة العربية والتي يُراد لها أن تكون “تأسيسية” في تخليق وتهودي التاريخ في الجزيرة العربية.

 في سنوات قادمة ربما سنقرأ صفحات محررة جديدة في هذا التاريخ اليهودي للجزيرة العربية ونرى خارطة بنجامين أوف توديلا وخطوطها كلها قد أصبحت متصلة ومؤكدة وموثوقة، وتحول ما هو مختلق ومفبرك إلى تاريخ حقيقي تدرسه الأجيال اللاحقة