شبكة قدس الإخبارية

زوجُته تروي لـ "قُدس" ذكريات "فارس النفق"

زقاق المخيم تبكي "أبو قلب أبيض"... خليل لبد من "القليل" جاد بكرمه

160171754245311
يحيى موسى

غزّة- خاص قُدس الإخبارية: الشمس تسحب أشعتها رويدًا رويدًا عن منطقة جباليا شمال قطاع غزة، السماء تتوشح باللون الوردي الذي غطى الأفق؛ تخطت عقارب الساعة التي مرت ثقيلة وكأنها تجر خلفها حجارة على قلب زوجة الشاب خليل لبد وهي تنتظره بلهفة!؛ فقد وصلها صباح اليوم هدية أرسلها زوجها بواسطة شقيقه وكانت هاتفا محمولا لطالما تمنته، تود شكره بأجمل عبارات الثناء.

الموعد المحدد لعودته عصرًا من عمله في أنفاق المقاومة تحت الأرض، مرّ ومرت بعدها ساعتان انتظرته فيهما حتى رفع أذان المغرب، تتأمل الهدية التي أحضرها له وتحتضن الهاتف، تدعو له: "يارب اكتب له أياما جميلة وأسعده كما أسعدنا".

طال الوقت وكأن عقارب الساعة لا تتحرك، أدت زوجته صلاتها؛ جهزت طعام الغداء وأوقدت عليه النار للمرة الثانية، أكبر أطفاله ملّ من إلقاء النظرات المتتالية من شرفة المنزل والده لم يطل، حتى خرج عن صمته: "ماما؛ وين بابا؟.. طوّل، طوّل!"، الأم ترد بملامح بائسة ووجه شاحب، "يلا يا حبيبي مش حيطول، شوية بيكون اجى".

كان الوقت يمر عصيبا.. تتقاذف الأفكار بداخلها، وتتزاحم التساؤلات والاحتمالات حول سبب تأخره، ما إن توشحت السماء باللون الأسود، ورفع أذان العشاء؛ في الأثناء اتصال هاتفي وردها يخرجها من قلقها، وكان المتصل شقيقتها، لكن صوتها المرتجف هنا كان مختلفا عن أي اتصال آخر سمعت فيه صوت شقيقتها:

- زوجك الآن موجود بمستشفى الإندونيسي.. مصاب.. ادعيله

سقط الهاتف من يدها؛ كاد أن يغمى عليها، تسرح في شكل إصابته "يارب تكون سليمة"، ثم تناولت الهاتف مرة اخرى وخرجت من شرودها تستفسر أكثر من شقيقتها التي لم تعطها أكثر مما قالته لها.

علامة واحدة

حملتها قدماها، وقلبها المترع بالخوف، وكأن الدنيا أظلمت في وجهها، وأطبق القلق عليها من كل اتجاه، ونزلت إلى شقة بيت عمها (والد زوجها)، تفتح عيناها بكامل اتساعهما لا تصدق ما ترى، مجموعة من النسوة والأقارب والجيران، يبكون، لم تسأل ماذا يجري، فهمت أن زوجها شهيد، وأن نزوله إلى نفق المقاومة كان الأخير، تنهال الدموع من عيناها كسيل شلال، بأنفاس متقطعة، وصوت مخنوق.

"مال بابا طول.. تأخر!" يسأل محمد (خمس سنوات) أمه، ترافقه صوته الدموع، هنا؛ وقفت حائرة بماذا تجيبه، لكنها أجابته بعدما مسحت رأسه بيدها: "بابا بالجنة.. عند سيده، الطفل الذي لا يعرف كثيرا عن الجنة سوى أن "جده الذي غادرهم قبل خمس سنوات فيها".. هكذا علموه بالمنزل، يريد أن يطمأن وقد اغرورقت عيناه بالدموع، مدركًا أن لا عودة لأبيه بعد اليوم: "طيب بابا بياكل بالجنة"، احتضنت الأم طفلها وسالت دموعها على كتفه، وبكى الاثنان: "اه بياكل.. تخافش عليه".

مع كل ما يعتمل صدرها من حزن، تمالكت نفسها وشدت صوتها المثقل بألم رحيل زوجها، قائلة: "أبناؤه وفور سماعهم لطرق الباب حينما يعود، كانت الحارة تسمع أصواتهم، نتسابق كلنا لفتح الباب له، حتى طفلي الرضيع الذي لم يتجاوز أحد عشر شهرًا، يفرد ذراعيه ويرفرف بهما مبتهجًا بعودة والدهم، هم تعودا أن يقوم والدهم بأخذهم خارج المنزل، للترويح عن أنفسهم".

خليل لبد، أحد أفراد النخبة لكتائب القسام، وعناصرها المخصصة لحفر الأنفاق، كان يعمل على مدار فترات حياته في إحدى شركات المشروبات الغازية، ويتقاضى راتبًا يؤمن له ولأسرته حياة كريمة، لكنه في السنوات الأخيرة، ومع اشتداد الحصار على غزة، بدأت الشركة تستعين به جزئيا، وتقلص دوامه، فطلب النزول للعمل بحفر الانفاق في آخر عام له، فوجد الشاب الذي يحب العمل، ذلك فرصة لزيادة رصيده الجهادي.

يوم الخميس، قبل استشهاده بيومين، وصلت هاتفه رسالة، وكان قد تركه بالمنزل كعادته، قرأت زوجته نصها وكانت مسؤوله بالعمل: "خليل؛ أنت حبيبي وصديقي نتمنى لك السلامة"، دارت بداخلها أسئلة كثيرة، انتظرته ساعة، وساعتين، ولم يعد، تحدثها أحاسيسها الداخلية: "يمكن رجله بتجعه .. ماخدينه على المشفى"، فقررت أن تتصل بصديقه، لتفك شيفرة الرسالة، فأخبرها أنه في العمل، اطمأنت، وعاد متأخرا، لكن الخوف ظل يراودها، سألته عن "مناسبة الرسالة؟"، "مدقيش كتير" اكتفى بهذا الردّ وكانت متعبًا.

"كثيرًا كان يعود إلى المنزل، متعبا، لا يقوى على الحركة يتألم من قدمه وظهره، أطلب منه الذهاب للمشفى، لكنه يرفض ويواصل العمل والحفر"... هكذا كان خليل بنظره، "يعبد طريقا بباطن الأرض، وهو يحفر التراب، وينقل قوالب وأقواس أسمنتية بداخل النفق يرصّها بشكلٍ متجاور.

آخر أيامه

آخر أيامه: "أصيب أحد أبناء جيراننا بفيروس كورونا، وحجرت عمارتهم 21 يوما، وتعيش في البيت مسنة ومعها أطفال صغار، كان زوجي يتصل بهم يوميا، ويشتري لهم أغراضهم وأدويتهم، متبعا إجراءات الوقاية".

أجهش صوتها بالدموع، توقفت برهة غارقة في براثن الحزن، ثم استجمعت قواها: "كان نوارة الدار، يساعد الناس، يشارك الجميع مناسباتهم، وقف مع "المحجورين" في آخر أيامه، يحبه أبناء الحي، ابتسامته لا تغيب عنه".. سكت صوتها هنا وأكمل صوت الدموع رواية قصة قمر من أقمار المقاومة.

ولدى خليل ثلاثة أطفال وهم محمد (خمس سنوات)، عبد الرحمن (11 شهرا) والذي أسماه على اسم صديقه الشهيد، ونغم (عامان)".

كرم من "القلة"

لا يوجد أقرب من محمد لبد (عديل وابن عم الشهيد خليل) ليخبرنا الكثير عن حياة الشهيد، وكرمه وتصدقه الذي "أدهش" أقرب المقربين منه: "في الفترة الأخيرة لم يزد راتبه عن 300 دولار، ومرّ بظروف صعبة، لكني سألخص كرمه بهذه القصة التي حدثت مؤخرا، صارحني كعادته: "بتعرف يا محمد، معيش ولا شيكل"، فسألته عن 100 دولار كانت معه وأين ذهبت، فرد وقد أشرقت من وجهه ابتسامة: "راحت بطريقها".

يكمل محمد: "شعرت بالتعجب والغضب وعاتبته: "كيف بتتصرف فيها وهي آخر شي معك"، فروى خليل لي قصته مع ذاك الشاب: "لي صديق عريس وقبل عرسه بيومين، كاد أن يبكي لا يعرف ماذا يفعل؟، فذهبت وأحضرت كل ما في البيت من نقود وأعطيته اياهم، سألني: هدول منك يا خليل.. فأجبته: خدهم واسكت، وبدى سعيدا جدًا وقال: معروفك مش حنساه يا خليل".

يعلق محمد بابتسامة فخر: "يومها سألته ماذا تركت لبيتك، فأجاب: ربنا بنساش حدا (..) حتى أنه استلم 100 دولار من المنحة القطرية في مرتين، ولم يدخلها المنزل وتصدق بها، في أي مشوار لنا، ورغم أنه أقلنا دخلا إلا أنه يبادر في دفع ثمن إيجار مواصلة السيارة، يكرم ضيفه ويجلب ما يحبه الضيف".

يرحل محمد إلى هذا اليوم: "عام 2012م، انتسب خليل لكتائب القسام، وبعد مدة، قلق والده عليه، فخطب له، وتزامن موعد زفافه مع موعد دورة في صفوف النخبة "القسامية"، فألح على والده بتأجيل موعد الزفاف لأجل الدورة، لكن والده حسم أمره: "بأغضب عليك.. بدي افرح فيك"، وكسب رضا والده، فيما بعد التحق بصفوف وحدات "النخبة" بعد زواجه".

رحل خليل وبكته، شوارع وزقاق مخيم جباليا، بقي طيف ذكرياته مع كرة القدم التي كان يلهو بها بين تلك الزقاق، وكانت لعبته المفضلة، فلم تعد تلك الزقاق تسمع صوته، أو ترى ابتسامته المشرقة.

ابتسم صوت محمد هنا، مستحضرا موقفا من أيام "الشقاوة": "يومًا ما، صنع خليل ورفاقه في مرحلة الثانوية، قنبلة من مخلفات الاحتلال، وظنوا أنها قنبلة صوتية، صعدوا إلى جبل الكاشف شرق مخيم جباليا، لتفجيرها وإرعاب جنود الاحتلال، لكن صوت الانفجار كان كبيرا، فجرخ الناس يلحقون بخليل ومن معه، وشكوهم لذويهم".

"خليل بما أنه أكبر اخوته، كان يذهب لكل مناسبات العائلة، يسامح الجميع، حتى يطلب السماح ممن أذاه؛ قبل يومين من استشهاده، وهو عائد من عمله، وجد شابًا يجلس مهمومًا بوجه شاحب، فسأله عمّا به؟، فشكى الشاب من الظروف الصعبة.. أتدري" يكمل محمد: "ذهب خليل واشترى له، وأعطاه مبلغًا ماليًا جيدًا، وهناك أشياء كثيرة لا نعرفها عنه".

"حاسس حالي بدي أموت، انهار علينا نفق أنا وشاب كنا بنشتغل، لقيت الشاب مطموم بالرمل، صرت أحفر حتى أنقذته".. روى خليل هذا المشهد الحقيقي لمحمد قبل فترة، لكن للرواية بقية ينقل ما قاله له خليل: "نمت ليلتها، ورأيت أن نفقًا انهار عليّ واستشهدت.. نفسي استشهد، لكن خايف على الأولاد؛ نفسي يعيشوا عيشة "كويسة".