شبكة قدس الإخبارية

انتفاضة الأقصى.. كيف صاغت المواجهة الأضخم مع الاحتلال وعي جيل لاحق؟

أحمد العاروري

فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: في ذكراها العشرين، لا زالت انتفاضة الأقصى بما مثلته من حراك سياسي وعسكري ضخم على المستوى الفلسطيني وفي كيان الاحتلال، حدثاً حياً، تتوالد منه الدروس والعبر والأسئلة، في ظل استمرار ذات التحدي ماثلاً أمام المجتمع والقوى الفلسطينية، وهو إزالة الاحتلال وتحقيق الانتصار، ومع بروز أزمات وتحديات جديدة، مثل "التطبيع" وتراجع المقاومة في الضفة والداخل وغيرها من المواقع.

في هذا الحوار الذي أجرته "قُدس الإخبارية" مع الباحث وطالب الدكتوراة في جامعة بيرزيت، عبد الجواد عمر طرحنا قضايا وأسئلة وإشكاليات تتعلق بالانتفاضة الثانية:

في أي سياق يمكن قراءة حدث الانتفاضة في حينها؟ هل هو ردة فعل على تعثر مفاوضات التسوية كما يقول البعض؟ أم أنه نتيجة طبيعية لمسار من الأحداث سبقتها مثل انتفاضة النفق وغيرها؟

فشل المفاوضات في "كامب ديفيد"  أقنعت تياراً داخل فتح بضرورة العودة إلى المواجهة، ولكن هذا لا يعني أن الانتفاضة كحدث ارتهنت فقط بهذا التيار، فهي نتاج معارضة نشطة أيضا تمثلت ببعض قوى اليسار، وبالتوسع المطرد والفاعل للحالة العسكرية التي خطها أبناء الحركة الاسلامية في التسعينيات، وصولاً إلي بدايات الألفية في الضفة، وإنتاج تصاميم جديدة في المقاومة تضمنت القنبلة البشرية، وغيرها من التكتيكات التي ستعمم وتصبح الاداة الاكثر فعالية في المواجهة مع الاحتلال في الانتفاضة الثانية.

المفارقات هنا عديدة، وأهمها أن الانتفاضة الثانية امتداد للأولى واستمرار لها، فهي ليست منعزلة عن ما يمكن أن نطلق عليه الانتفاضة الكبرى والتي بدأت في أوساط الثمانينات، وانتهت في أواسط العقد الأول من الألفية الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات، وبرأيي معظم القراءات التي تتعاطى مع الانتفاضتين بمعزل عن بعضهم البعض، يصلون للاستنتاجات الخاطئة بما يخص كون الانتفاضة الاولى انتفاضة شعبية والتعاطي مع الثانية على انها اتخذت شكل نخبوي أو غيره من المقاربات، التي تطرحها كأحداث منفصلة لها بدايات ونهايات، دون الحديث عن مواقع أو عوامل الاستمرارية.

لا يمكن لنا تقسيم الزمن بشكل "قاطعي"، فهو يشمل العديد من الاستمراريات حتى لو تضمن أيضاً العديد من الاختلافات في الظاهر. بهذا المعنى تحديداً، لا يمكن إيعاز قرار القيادة الفلسطينية في المنظمة، دخول المواجهة دون التطرق للتحدي التي شكلتها تلك المعارضة السياسية والعسكرية النشطة لاتفاقيات أوسلو، ودون النظر إلى استمرار المقاومة للمشروع الاستيطاني في سنوات أوسلو الأولى (1993-2000)، بما فيها هبة النفق والتي اشتبكت فيها قوات الأمن الفلسطيني مع العدو، واستمرار العمليات الفلسطينية في التكاثر والتوالد والتسارع.

التاريخ صنع من تحت وجعل لحظة قرار دخول القيادة السياسية ركب الانتفاضة لاحقاً لهذا التاريخ من تحت، ممن قاوم وعارض وحاول أن يصنع التاريخ. 

هل كانت الانتفاضة الثانية مختلفة عن باقي الثورات والانتفاضات التي خاضها الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار والحركة الصهيونية منذ مطلع القرن العشرين؟ وما هي أبرز وجوه الاختلاف؟

مشروع المقاومة/المواجهة مشروع غير منجز أي أنه لم يحقق مراده المتمثل باسترداد فلسطين، وبالتالي كل ثوراتنا هي مشاريع غير منجزة. ثانياً، المقاومة فعل طبيعي في ظل بنية استعمارية توسعية، تحاول إخراجنا ونفي الشعب الفلسطيني عن أرضه، وتسعى للقيام بذلك من خلال طرق متعددة ووسائل واستراتيجيات مختلفة.

ثالثاً، لكل محاولة فلسطينية شروطها ومحيطها السياسي وطبيعتها. ثورة العام 1936 كانت ثورة الفلاح التي التحمت مع الطبقة الوسطى الصغيرة في فلسطين والتي حاولت حماية الأرض، وكان الفضاء الأساسي لها من عمليات يرتبط بواقع هندسي وجغرافي مختلف عن يومنا هذا.

تجربة منظمة التحرير وبعيداً عن الاختزال كانت تجربة الشتات الديمغرافي، ومحاولة لم هذا الشتات وتجميعه والثأر للتهجير. أما تجربة الانتفاضة الأولى، فكان أساسها هو استراتيجية "عدم التعاون" مع المحتل وخلق آليات رفض في ظل شح السلاح، واستندت الانتفاضة عما يمكن تسميته على التنظيم الاجتماعي الواسع والذي تم بناءه خلال عقود من العمل التعاوني والتطوعي والاجتماعي والمؤسساتي والبلدي، الذي أراد خلق حالة من الصمود الإيجابي.

أما الانتفاضة الثانية فهي التقاء اثنين، إرث المواجهة في بيروت عمان والتحامه مع إرث العمل الاجتماعي والسياسي والتنظيمي، في الداخل الفلسطيني.

الانتفاضة الثانية التقى الارثين وإنتجى مواجهة عسكرية واجتماعية لم نرى مثيلها منذ الثورة الكبرى في العام 1936، بل نستطيع أن نقول أن الانتفاضة الثانية كانت الأعنف والأشد، وكذلك من المواجهات النادرة في  تاريخ الشعوب الخاضعة الاحتلال بإنتاج معادلة واحد لثلاث قتلة. 

هناك رأي متداول فلسطينياً، أن دخول السلطة إلى الضفة وغزة وانتشار السلاح كان له دور في مسار الانتفاضة، ما رأيك بهذا الطرح؟

توافر السلاح عامل مهم في إنتاج المواجهة المسلحة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السلاح المحلي وتصاميمه المختلفة كان لها حصة كبرى في التكتيكات التي تم توظيفها في الانتفاضة الثانية.

بهذا المعنى لا يمكن حصر توافر السلاح بفعل الاستيراد، أي بما استطاع الفلسطيني إدخاله من الخارج على أهميته حينها وأهميته اليوم، ولكن أيضا، على دور المهندس كمصمم انتج لنا الصاروخ والقنبلة البشرية والعبوة الناسفة وغيرها من الإنتاجات المحلية. بهذا المعنى تصاميم السلاح كان ضرورة في خلق آفاق للمعارضة على اتفاقيات أوسلو، ولكن أيضاً في خلق تكتيكات مستحدثة وأطوار جديدة من البطولة الفلسطينية- الاستشهادي- القتال بما هو أكثر من متاح: الحجر والسكين والمولوتوف والكوع.

الانتفاضة الأولى وشح الادوات فيها أنتج سعي العديد من المجموعات، إلى إيجاد حلول وكانت أحد تلك الحلول هي  القنبلة البشرية والصاروخ وصولاً إلى توظيف الاسلحة من الخارج، خاصة في سياق غزة، ولكن أيضاً في الضفة الغربية، حيث كان لدخول سلاح المنظمة أثره الكبير على نمط العمليات التي انتهجها أبناء التنظيم في المواجهة بالانتفاضة الثانية .

كان للانتفاضة الثانية تأثير كبير في صعود قوى فلسطينية واكتسابها شعبية بفعل تصدرها للفعل المقاوم ضد الاحتلال، برأيك هل لم تنجح هذه القوى في خلق خطاب سياسي أو حراك متجاوز "لأوسلو" وسلوك السلطة الفلسطينية؟

المأساة عند بعض هذه القوى وخاصة في تجربة حماس في غزة، أنها إعادة إنتاج سلطوية حركة فتح في إدارة القطاع، فهي تُدير وتتدخل في الاقتصاد من خلال شبكتها الاجتماعية، فيصبح التنظيم السياسي مدخلاً للتمكين المادي والاجتماعي، بل يصبح التنظيم مرهقاً بالامتيازات الاقتصادية التي يمنحها للمقربين منه، ما يخلق أيضا شرخ بين القاعدة الجماهيرية وما بين النخبة الحاكمة.

أرى أن هذه هي المأساة الأساسية لبعض القوى، وهي من المفارقات التراجيدية الكبرى، فأنت من جهة ترفض حركة سياسية وتعارضها كفتح ومن ثم تُحاكي بعض ممارستها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ولكن أوسلو انتهى وكان للانتفاضة الثانية حصة الأسد في نهايته، وكان لتلك الحركات السياسية كحماس والجهاد دوراً مركزياً في ذلك.

على صعيد آخر، لا تحاكي الحركات تلك مسار فتح بالضرورة، التاريخ لا يعيد نفسه كليا، فهي ايضا لها نهجها الخاص ومنطقها وعقيدتها والتمسك بالمقاومة والسلاح واجتراح آفاق لبقاء المقاومة والعيش الكريم يشكل اليوم التحدي الأساس في غزة.  

أوسلو انتهت، ما أعنيه أن منطق الاتفاق المرحلي الذي سيؤدي إلى اتفاق نهائي، مبنى على حل الدولتين لم يعد مطروحاً، هذا تاريخ نعود إليه كما نعود مثلا لقرار التقسيم وعلينا أن نخرج من هذه الحلقة اليوم.

الحقيقة أننا في الضفة تحديدا نعيش زمن التواطؤ مع الاحتلال، دون أفق لنهاية هذا التواطؤ من خلال الاستقلال الكياني أو من خلال العودة إلى المواجهة، أي أنه تعاون مقابل مكتسبات مادية بسيطة غالبيتها تذهب إلى رأسمال فلسطيني متمادي.

في المجتمع وبين النخب الفلسطينية، دائماً هناك حديث أن التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الفلسطيني لم يسفر عنها نتائج سياسية أو انتصار مرحلي، هل تتفق مع هذا الطرح؟ وإن صح ذلك ما هي أسباب الفشل الفلسطيني بتحويل التضحيات إلى إنجازات؟

القول هذا يمكن تفكيكه على مستويات متعددة، فهو يفترض أولاً أن كل من يُضحي عليه أن يحصد مجموعة من الانتصارات الواضحة والجلية، يمكن لنا أولا أن نُضحي وأن نخسر وهذا جائز.

ثانياً، أي مواجهة تتجسد من خلال ممارسات متخذة أشكالاً سياسية وأيديولوجية مختلفة -أحزاب وتنظيمات- تُكثّف من الفعل المقاوم و تؤطره في حوار "ارادات" واستراتيجيات" وتكتيكات" مع العدو. بهذا المعنى العدو ليس مفعول به، وفي صدام الإرادات قد نصل لمعادلة نصف هزيمة ونصف نصر، ما أود ان اقوله إن الهزيمة والنصر في مواجهة كالمواجهة مع الاستعمار في فلسطين هو أمر نسبي، وتقديمها على أنها أمر نهائي هو استثمار في العجز كمقولة سياسة تؤسس لحاضر سياسي لا يرى أفقاً لشيء، أي إنه حاضر سياسي عدمي يتغنى في بالتفاح والليمون، لأنه فقد إمكانية أن يخط لنا مستقبلاً ما، إي مستقبل ويهددنا فقط بفقدان ما اكتسبناه أو حققناه في الحاضر على قاعدة "بدنا نعيش".

كما قلت سابقا لم نسترد فلسطين، وهذا لا يعني أننا لم نحافظ على إمكانية استردادها. هذان أمران مختلفان وعلينا الحذر من الهرولة وراء القراءة التي يقدمها تيار ما بعد-الانتفاضة الثانية، والمكون من مثقفين وسياسين وتيارات التي تتداخل مع العديد من التنظيمات السياسية التي اتخذت من الانتفاضة، منطلقا نحو تدشين مشروعها الاجتماعي المتمثل بسوق وبيروقراطية وجهاز أمني متضخم.

ما أعنيه تحديداً هنا، أن قراءة الانتفاضة كهزيمة هي جزء من إرساء واقع ما بعدها، أي واقع التواطؤ مع العدو دون أفق لنهايته على صعيد استقلال في الضفة وغزة، أو على صعيد العودة إلى المواجهة. 

الانتفاضة حررت ولأول مرة بقعة من أرض فلسطين، وهذا حدث تاريخي وانعطافة كبرى لا يمكن التقليل من شأنها، لأول مرة تظهر استعدادية الحركة الصهيونية حمل مستوطنيها ومغادرة والأرض والاعتراف بحدود قدرتها على التوسع، تضمن أيضا خروجا جزئي من منطقة جنين. والمفارقة عند الصهاينة هو أنت الذي قام بهذا الفعل هو ارييل شارون، الذي ارتبط صعوده السياسي بكونه الجندي-المتمرد والمبدع، والجنرال الذي يقدم الحلول في الوقت الذي يفشل فيه الآخرون كما قدمها في قبية وفي الحروب مع مصر، هو عراب مشروع الاستيطان في غزة. ما الحل الذي قدمه في المواجهة في الانتفاضة الثانية: الخروج من المناطق الأكثر احتداما في جنين وغزة والتركيز على المواقع، التي يمكن تعميق تغلغل الاستعمار فيها ورسم خطوط وجدران تساهم في إرساء منظومات جديدة من السيطرة والتحكم، ولكنها أيضا ترسم نوعاً من أنواع الحدود السياسية/الاجتماعية مع الفلسطيني. شارون هدم ما بناه في غزة وهذا لوحده يخبرنا الكثير حول بعض إنجازات الانتفاضة الثانية. 

خلال الانتفاضة، اتبعت حكومة الاحتلال وخاصة بعد وصول شارون للقيادة سياسة اغتيالات مكثفة للقيادات والكوادر الفلسطينية، ما الأهداف الرئيسية لهذه السياسة؟ وهل تركت أثاراً على الفعل والواقع السياسي الفلسطيني الحالي؟

تصفية القيادة السياسية الفلسطينية الذكية والملتزمة بالمقاومة والإبقاء على القيادات البراغماتية ساهم في تأسيس واقع اليوم. هذه هندسة مباشرة لمن يقودنا وبالتالي مساهمة في إعلاء حظوظ تيار المساومة على حساب تيارات الرفض، في داخل وخارج منظمة التحرير. لعبت سياسة الاغتيال دور كبير في تمكين صعود نخبة جديدة ملتزمة في خلق واقع مريح للتمدد الرأسمالي والتواطؤ مع العدو. الاغتيال هو نوع من أنواع الرقابة الدموية وتلعب عدة أدوار بما فيها اعادة تشكيل "القيادة" بما يخدم أهداف العدو، خاصة في استهداف المستوى السياسي باغتيال أبو علي مصطفى ،واغتيال الشيخ أحمد ياسين، واعتقال أحمد سعدات ومروان البرغوثي.    

ما هو دور قوى عربية وإسلامية في المنطقة بدعم المقاومة الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية؟ وهل القمع الذي تعرضت له قوى عربية مختلفة بعد الربيع العربي كان للوقوف مع فلسطين دافع مهم يقف خلفه؟

هناك دور فاعل للعديد من القوى في دعم الانتفاضة الثانية، خاصة القوى التي حاولت إدخال السلاح وتمويل العمل السياسي والعسكري، اتضحت من اتساع رقعة "الاسلحة" الوافدة على غزة أساسا ولكن أيضا في سياق الضفة، وقد لعبت العديد من الجهات دوراً داعماً مادياً وتقنياً ومعنوياً، كما لعبت جهات أخرى دور حاول ينهش من المقاومة وامكانياتها واحتواء اثرها.

وكان للانتفاضة الثانية دور كبير في تحريك المجتمعات العربية لدعم الانتفاضة سياسياً واجتماعياً ومالياً، تمثلت بالتبرعات وحملات التضامن على اشكالها المهمة والمتعددة، أهمها نشأة جيل من المثقفين والنشطاء والمناضلين العرب، الذين لعبوا أدواراً مهمة في بلدانهم في توجيه الاحتجاجات التي شاهدناها في 2011 وما تبعها.

ولكن أيضا كان للانتفاضة أيضا دور في دعم المحيط العربي وهذا أيضاً عنصر مهم. فمثلاً الانتفاضة الثانية لعبت دور بالغ الاهمية في إرهاق الجيش الاسرائيلي واخضاعه لروتين عسكري سهل على المقاومة اللبنانية، عملها وجعل من انتصار 2006 انجازاً لبنانياً أولاً ولكن مع حصة لا بأس بها للتضحيات التي قدمناها في الانتفاضة الثانية. 

هل تتفق مع الرأي الذي يقول أن الانتفاضة الثانية أهملت الدور الشعبي لصالح الفعل العسكري النخبوي، أم أنه كان هناك استفادة وتبادل أدوار بين المجتمع وخلايا وفصائل المقاومة في حينها؟

علينا دوماً القول أن التظاهرات الأكبر والاشتباكات الأوسع في تاريخنا كانت في الانتفاضة الثانية. هذه حقيقة لا بد من أن نتذكرها دوماً، المشاركة الشعبية الداعمة للعمل المسلح تجلت بوضوح في جنازات الشهداء، عشرات الآلاف من الفلسطينيين في كل جنازة مركزية لأحد قيادات العمل العسكري أو السياسي الفلسطيني. هذا يعني أن هذا التقسيم الحاد بين العمل العسكري والدور الشعبي، هو في الحد الأدنى مغالطة، كما لها توظيفها السياسي في الحاضر.

المجتمع التحم مع المقاومة موفرا في العديد من الأحيان، أموالاً ومخابئ وغذاء ودواء وتأييداً علنياً تمظهر في الجنازات، كما تمثل في انخراط العديدين في المقاومة، كما تمثل بالأعداد الكبيرة للحركة الاسيرة والتي وصلت قرابة 12 الفاً في الانتفاضة الثانية.

وهنا لا بد من التشديد على دور الخلايا التي انتظمت بتلقائية، أي على العديد من العمليات والمواجهات التي تم تبنيها من قبل التنظيمات كامر لاحق وقد يكون أشهرها عملية ثائر حماد والتي استهدفت حاجز عيون الحرامية. هذا يُدلل على مستوى معين من المشاركة لا يمكن التقليل من شأنه، مشاركة تلقائية لا يتم تنظيم الشخص لها، بل هو من يقدمها للتنظيم.

أمر آخر مهم هنا هو محاولة الفصل بين تجربتين، تجربة الانتفاضة الأولى وتجربة الانتفاضة الثانية.، يتم تقديم الاولى على أنها انتفاضة شعبية استخدمت الأدوات المتاحة: الحجر والسكين والكوع والمولوتوف، واستراتيجيات عدم التعاون مع الاحتلال بالمعنى الإداري والاقتصادي والاجتماعي. بينما يتم تقديم الثانية على انها مسلحة بشكل خالص. هناك مغالطات كبرى هنا، فهي اولاً لا تأخذ بعين الاعتبار تغير شروط المواجهة خاصة تلك المرتبطة بالتغيرات على صعيد البنية الهندسية الاستعمارية، وانتهاجها القتال عن بعد-الأباتشي وإطلاق الرصاص الحي العشوائي وغيرها من قضايا هامة.

أما ثانياً، فهي لا تأخذ بعين الاعتبار ما توفر للمقاومة الفلسطينية، لاحقاً، من خلال ترسيخ مساحات شبه-امنة لتنظيم والتدريب واكتساب المعارف دون الاعتقال، فقد شكلت مناطق "أ" ما يشبه البؤر التي من خلالها يمكن القيام بعملية تنظيم مريح.

لهذا وإلى يومنا هذا يصر الاسرائيلي على التمسك بإمكانية الدخول الدائم، لمناطق "أ" خوفاً من إعادة محاكاة تلك التجربة. في الأولى كان الشخص يعتقل لانه كتب قصيدة أو بيان أو أغنية، في الثانية الاعتقال تركز على من يواجه، على من يطلق النار، وكتاب القصائد والأغاني لم يتم اعتقالهم بشكل واسع. 

علينا أن نتذكر أن العمل العسكري واتساع رقعته أتى أيضاً من خلال حوار جدلي، مع سياسات القتل العشوائي التي انتهجتها الماكينة العسكرية الاسرائيلية، في المواجهات على أطراف المدن. اُطلق أكثر من مليون رصاصة في بدايات الانتفاضة أو في الاشهر الأولى على متظاهرين في الغالبية كانوا غير مسلحين.

بهذا المعنى أضحى السلاح حاجة وليس فقط تكتيك، شروط المواجهة اختلفت وبالتالي اختلفت الحاجات أيضاً. السلاح لم يكن فقط خياراً في محاولة حركات السياسية الهيمنة، وان لعب هذا الدور، ولكنه كان أيضا حاجة نبعت بالعلاقة مع طبيعة السياسات الاستعمارية واختلافها منذ ان انسحبت من المدن. وقد نقول بوضوح أن تلك السياسة انتقلت من كسر العظام إلى القتل عن بعد، إي من حميمية الضرب المباشر إلى إدخال القتل الآلي والمنتشر على شاكلة ما يحصل في حروب غزة. كما قال لي أحدهم في الاجتياحات "لم نرى الجنود"، لقد رأينا الماكينة فقط.  

ماذا تركت الانتفاضة الثانية على الوعي الفلسطيني وخاصة للأجيال التي لم تعش تفاصيلها، وانخرطت فيما بعد في المواجهة مع الاحتلال خاصة في انتفاضة القدس؟

تركت شهداء في العديد من العائلات وروايات وقصص وسرديات عن البطولات، التي سطرتها تلك الانتفاضات، وحركة أسيرة ما زالت تقاتل في السجون ومقاومة عسكرية متطورة في غزة.

المقاومة تراث حي يُغذي امكانية الفعل في الحاضر، ويبدو أن بعضاً من هذا الجيل اعتاش على بطولات من سبقوه، بل جعلت من التراث الحي هذا مدخلا للمواجهة التي تجسدت في هبة 2015 وتعاقب نماذجها دون التنظيم. هذا إرث لا يمكن طويه في المتحف وإغلاق الأبواب عليه، هو حي ويعيد إنتاج نفسه، ويساهم لربما في سؤال "ما العمل" في الحاضر. 

من أجل المستقبل، ما هي الدروس التي يمكن أن نستخلصها من الانتفاضة الثانية، على المستويات السياسية والنضالية وغيرها؟

هناك العديد من الدروس وهذا يحتاج بالحقيقة انهماكاً بحثياً واسعاً من قبل الباحثين الفلسطينين والعرب، لاستخلاص واستنهاض تلك الدروس، خاصة وان قرائتنا للتاريخ تنبع من رؤى وحاضر مختلفة متصارعة، أي أنها ليست أمر بالضرورة متوافق عليه. ولكن قد يكون أهم درس هو علاقة دور وأهمية احتواء التنافس الفصائلي، وبناء جسور سياسية متعددة لا تغذي الانشقاق التكتيكي والاجتماعي والسياسي، بل تبني روافع وحدوية سياسية بين الفرقاء، خاصة وأنه في العديد من الأحيان يكون الصراع داخل الأحزاب نفسها قيمياً وسياسيا، أكبر من تلك الفروق مع من خارجها. مخيم جنين قدم لنا وغيره من المواقع هذا التفاهم الوحدوي المبنى على المخيم كفضاء جامع لأبناء التنظيمات المختلفة، في ملحمة جنين ما نستطيع أن نتعلم منها جميعا. 

في خطاب لشارون أمام مؤتمر "هرتسيليا"، تحدث عن مجموعة خطوات يجب أن تفرض على السلطة بإشراف أمريكي من بينها "إصلاحات" في الأجهزة الأمنية ورقابة على الصرف المالي وغيرها بهدف "كبح المقاومة" ومنع تكرار الانتفاضة الثانية، هل ترى أن الأحداث التي شهدتها الساحة الفلسطينية بعد 2006 كانت ضمن هذا المخطط؟

عقب أفول الانتفاضة الثانية شهدنا التفسخ الجغرافي ومالاته السياسية، ما بين قطاع غزة التي انتصر فيه تيار المقاومة المحمول على حركات الإسلام السياسي، وما بين اضمحلال تيار المقاومة في الضفة وانتصار التيار البراغماتي في حركة فتح وتصدره الواجهة على إثر اغتيال الراحل ياسر عرفات. ضمن هذه الصيرورة كانت اركان "الثورة-مضادة"، جاهزة للانقضاض على مفاصل السلطة المركزية في رام الله، وتحويل الانتصار العسكري الصهيوني في الضفة الغربية، بما فيها تصفية بؤر المقاومة، وشخوصها إلى صياغة لمشروع جديد يُستكمل فيه مشروع أوسلو ما حمله من ثلاثية: تحويل حركة تحرير وطني إلى شبه-كيان تمثيلي يلعب دور وظيفي أمني، والتعاطي مع منظمة التحرير كجسر للتطبيع بين العدو والعالم العربي، والحفاظ وتوسعة مصالح الرأسمال الفلسطيني والمكتسبات الاقتصادية، التي حققتها النخبة الحاكمة عقب توقيع اتفاقية أوسلو.

انتشلت القوى المضادة للانتفاضة الثانية ما تبقى من روح المواجهة على إثر أفولها، وحولتها نحو طاقة وأمل بناء الدولة، بما عناه من تمرير لمشروعين متوازيين. كان أولهما: مشروع إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بما يخدم دورها الصاعد كقوة ضاربة تستطيع احتواء ومكافحة التمرد المتخيل والممكن، أي في قدرة تلك الأجهزة اتقان "دور العضلات" المرتبط بإنشاء مؤسسة محلية قامعة للثورة وإمكانياتها، وإبقاء قُطب المقاومة ضعيفاً.

أما المشروع الآخر فتمثل بعنصر الاتاحة في الاقتصاد، وما أنتجه من استقطاب طبقي ساهم في خلق تجاذبات اجتماعية جديدة شرذمة من البنى التضامنية الفلسطينية الداخلية المبنية، على تاريخ طويل من التعاون الاجتماعي الداخلي والعداء المشترك، بل جعلت من السوق الموقع الأهم للتطور الأيديولوجي للفرد الفلسطيني، بما يحويه من كون التنافس القيمة الإنسانية الأسمى. هذا ما حصل ويحصل، قد يكون هذا ما سعى لرفضه جيل جديد قدم لنا سلسلة من الفعل منذ العام 2015 وإلى يومنا هذا.