شبكة قدس الإخبارية

مضحكون ضد التطبيع

i664
سهيل كيوان

علمتنا تجارب الحياة الكثيرة، أن لا نأخذ الشعارات الكبيرة على محمل الجد، لأنها غالبًا ما تُطلق للتغطية على العجز عن مواجهة القضايا الصغيرة التي تحتاج إلى مواجهة وتضحية، أما ما يمكن أن نأخذه بجديّة، فهي الأهداف أو الشعارات التي تلائم قدرات الإنسان أو التنظيم أو الشعب، والتي يمكن تطبيقها مع قليل من التضحية، أو محاولة تطبيقها على الأقل، فهي تعني جدّية الشعار والنوايا للعمل، والأهم هي ممارسات صاحب الشعار على أرض الواقع، التي تقول إنه يعني ما يقوله، وأنه مستعد لدفع الثمن لتحقيق شعاره.

ففي حين تهاجم الأحزاب العربية الممثلة في الكنيست خطوة التطبيع الإماراتية، وتعتبرها خيانة لقضية فلسطين، شكر أحد أعضاء الكنيست العرب من القائمة المشتركة في الإعلام الإسرائيلي بلدية تل أبيب لرفعها وبحسب تعبيره "علم الجارة من الشمال تضامنًا مع مدينة بيروت"، ووصف هذه العملية بأنها مبادرة تستحق الثناء!

هذا الكلام يبدو في ظاهره مجرّد إطراء لرئيس بلدية تل أبيب "المتضامن" مع بيروت، ولكن في عمقه يعني تطبيعًا خالصًا، لا يقل عن تطبيع الإمارات بشيء، بل يزيد عنه، فهذا صفح وغفران وشهادة براءة لبلدية تل أبيب تجاه سياستها المنهجية المعادية للوجود العربي في يافا.

والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، ويعرفها أعضاء الكنيست العرب جيّدًا، لكن هذه شهادة براءة وتلطيف وتحسين لصورة بلدية عملت على تجريف مقبرة إسلامية في يافا، بالذات في الوقت الذي نُشر فيه هذا الإطراء، إضافة إلى أنه صكّ براءة لـ"إسرائيل" من انفجار الأمونيا في بيروت، علمًا أن التحقيقات لم تُجر بعد، وكل الاحتمالات كانت وما زالت مفتوحة، فلا يمكن استثناء "إسرائيل" فورًا من المسؤولية وكأنها طرف محايد في الصراع الداخلي في لبنان أو غيره من دول المنطقة، وسواء قصدت إصابة الأمونيا أم لم تقصد، خصوصًا أن تفجيرات مجهولة الفاعل تقع بين حين وآخر في أكثر من بقعة ومكان وهدف في المنطقة، و"إسرائيل" لاعب أساسي وليست هامشية في هكذا مواضيع!

كل طفل يدرك أن مبادرة بلدية تل أبيب جاءت في سياق تجميل للسياسة الإسرائيلية، فكيف لمن يمثلون جماهير عريضة ممن يعانون جراء هذه العنصرية بالذات، أن ينجرفوا في تسويق هذه العملية التجميلية! وبماذا يختلف هذا الموقف في جوهره عن موقف بعض الشبان الإماراتيين الذين ينشرون فيديوهات المديح لـ"إسرائيل" الأخلاقية؟

النكتة أن من صرح بهذا، يدرك الحقيقة من وراء ما فعله رئيس بلدية تل أبيب، فهذا لا يغيب عنه، ولكنه وجدها فرصة لتجديد ميثاق تطبيع بلا حدود، إنه الطراز من السياسيين العرب اليساريين الذين يتحدثون في خطابهم عن الفلسطينيين بصيغة "هم"، وعن الإسرائيليين بصيغة وضمير "نحن"، ويقولون يجب علينا (نحن) الإسرائيليين أن نعطي (هم) أي الفلسطينيين حقوقهم، ويضعون أنفسهم في موقع الإسرائيلي المتفهم لمعاناة جيرانه الفلسطينيين.

أما شعبيًا، فالجمهور العربي الذي يهاجم التطبيع بلا هوادة وبشتى الأوصاف البذيئة، فهو راسب في امتحان الحقيقة، إذ لا يستفزّه أن أكثر من نصف المحلات التجارية والورشات والمؤسسات في كل قرانا ومدننا العربية بلا استثناءات، تستثني اللغة العربية من لافتاتها، ويمرّون عليها مرور الكرام.

جمهورنا الكريم وهذا يشمل المسؤولين العرب في البلديات، يتعايش ويطبّع مع هذه الظاهرة، والتي تفاقمت بالذات بعد "قانون القومية" بدلا من الردّ على القانون العنصري بتعزيز اللغة العربية، على الأقل في داخل بلداتنا، ولكن للأسف، لم يعد تغييب لغتنا في عقر دارنا وبين أحيائنا ومراكزنا التجارية ملفتا أو مستفزًا لا لمسؤولين ولا لجمهور! ويبدو أن أكثرنا يتعامل مع اللغة العربية كأمر جانبي جدًا، وبهذا يقدم جمهورنا وبلدياتنا خدمة كبيرة لقانون القومية العنصري وللتمييز ضد اللغة العربية، وبالتالي ضدنا، ويطبعون مع واقع بإمكانهم أن يقاوموه بدون تكلفة تذكر، على الأقل في هذه القضية.

على أحزابنا وجماهيرنا التي تهاجم التطبيع بهذا الحماس، أن تميّز بين أن يناضل لأجل حقوقه في المواطنة المتساوية كجزء من شعب منكوب اغتصبت حقوقه بالقوة، وبأنه لا خلاص لابن الناصرة وعكا وأم الفحم، إلا بخلاص ابن غزة ونابلس ومخيمات اللجوء، وبين أن تكون لاهثًا إلى الأسرلة والتطبيع مع العنصرية والعربدة والفهلوة، وأن لا نراهم في الغد القريب مهرولين إلى السفارة، والآلاف يسجّلون لزيارة الأمارات في رحلات منظمة لحضور حفلات سوزي ولوزي وبوزي.