شبكة قدس الإخبارية

الجُوع اللُبناني يُعلن عن كفره

822
هنادي العنيس

كيف وصل الجوع إلى ألسنة اللبنانيين؟ سؤال يتردد في ظل التطور المحموم، والتدهور المالي، والعجز الحكومي عن احتواء مختلف التداعيات لأسوأ الأزمات الإجتماعية، والإقتصادية، والسياسية المتفاقمة التي تمر بها كافة المدن اللبنانية اليوم.

حيث اشتد العرج في بلد يعاني من عجز في الميزانية، وارتفاع في الديون، وهدر بسبب الفساد المتراكم عبر سنوات، لينعكس هذا الوضع الصعب، على شرائح المجتمع اللبناني بمختلف طوائفه ومذاهبه، ويفقد على أثره عشرات الآلاف أعمالهم أو جزءًا من دخلهم، بالتزامن مع موجة غلاء غير مسبوقة، بعد أن وصل سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء إلى عتبة عشرة آلاف ليرة ليل الخميس الأخير، ما أدى إلى تآكل الرواتب المتبقية وذوبان الطبقة المتوسطة.

بينما انفتح المواطنين على كافة أنواع العمل، حين بات اعتمادهم على التقنين فرضًا، في وقت يجهلون به مصيرهم ومصير أولادهم وعائلاتهم.

وهناك من لجؤوا مستنجدين بمن يصادفونه في الشارع، أو بنبش القمامة بحثًا عن شيء يصلح للأكل، أو بمقايضة أغراضهم الخاصة على منصات التواصل الاجتماعي، أو دفع بهم العجز التام للإستسلام وقدموا على إنهاء حياتهم منتحرين بطرق مختلفة تؤدي كلها لغرض الاحتجاج على سوء أوضاعهم وعدم قدرتهم على توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم.

فأُعلن تباعًا منذ أيام عن وقوع حادثتي انتحار، وهكذا في كل أسبوع من الأشهر الأخيرة أو يكاد، حين أنهى رجلاً حياته نهار الجمعة الماضي أمام مبنى في شارع الحمرا، مطلقًا رصاصة على فمه من مسدس كان بحوزته، بعد أن صرخ بجملته الأخيرة "لبنان حر مستقل"، تاركًا نسخة من سجله العدلي النظيف والذي كتب تحته بخط اليد "أنا مش كافر" تيمنًا بمطلع أغنية ثورية لزياد الرحباني.

بينما لحقه مواطن آخر في مدينة صيدا، اختار شنق نفسه بواسطة حبل علقه في سقف غرفة الجلوس، حين كانت عائلته خارج المنزل.

أثارت المأساتان المزيد من الاحتجاجات التي أغلق خلالها المتظاهرون الغاضبون الطُرقات في قلب العاصمة بيروت، لتُصاب حركة المرور بالشلل التام، أثناء هتافات رافضة لظاهرة الانتحار هربًا من الضائقة المالية، كوسيلة احتجاجية بات اللبنانيون يعتمدونها اليوم، بعد أن ترك العوز أثره البالغ على معدة ثلاجاتهم الفارغة.

يأتى ذلك بوقت لا تسمع فيه صرخة المواطن كعنصرًا فاعلاً في صنع القرار، ولا توضع مصلحته في الاعتبار،  فهو في خدمة السلطة وليس العكس، في ظل واقع مُر يشي باستحالة التغيير السلمي، أو حتى حدوث إصلاحات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، ولو محدودة.

ومع انكماش الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين على خلفية الانسداد السياسي، والتأزم الاقتصادي، واتساع دائرة الفقر، انفلت الأمن المجتمعي، وتفشت ظاهرة السطو المسلح والسرقة في المتاجر والصيدليات للحصول على الحاجات الأساسية، ليصل الوضع إلى مرحلة نهب ممنهج لما في الجيوب بعد أن نهب ما في المصارف.

ووسط بقاء حكومة يراها اللبنانيون فاشلة وفاسدة ويطالبونها بالرحيل، يبقى السياسيون خارج التغطية، متعاملين بمنطق الاستهانة مع مطالب لم ينفذ منها أي عملية إصلاحية حقيقية، ولا إعادة ضبط هيكلة للقطاع العام، على خلاف ما كُشف من مزاعم عن الإصلاح ومحاربة الفساد، لينشغلوا بسن قرارات لا علاقة لها بما يرهله الوضع المعيشي في دولة تقترض منذ أعوام من أموال المودعين، من أجل الإنفاق، والإهدار، وسد العجز، وتعتمد دائمًا على الاستدانة من المصارف حتى اتجهت سريعًا نحو الإفلاس.

 لتظهر بعض من أجواء الحرب الأهلية على السطح، من خلال اضطرابات اندلعت في الفترة الأخيرة ببعض الشوارع، وهذا ما يوضح أن البلد بأكمله ماض إلى مجاعة تسرع بها جائحة كورونا، وتطلق معها شرارة موجة هجرة جديدة.

وكل هذا يسيء جدًا إلى لبنان، الذي صار علينا أن نصدق اليوم، أن هناك مَنْ يموت مِنْ الجوع فيه.

* اللوحة للمصور والرسام اللبناني طوني معلوف.
المقال خاص لقدس الإخبارية