شبكة قدس الإخبارية

أزمة مشروع قانون حماية الأسرة في فلسطين: قراءة في عوامل القبول والرفض، وماذا بعد؟

9HZ8O
حسان عمران

الكاتب : حسان عمران  -  تحرير : مركز رؤية للتنمية السياسية

ما تلبث حالة اللغط والأخذ والرد حول ما يتعلق بالأسرة عموما والمرأة خصوصا في القوانين الفلسطينية تهدأ حتى تعود، وهذه المرة من البوابة الأبرز لها: مشروع قانون "حماية الأسرة من العنف"، الذي تسعى السلطة الفلسطينية منذ سنوات لإقراره، فيما يلقى جدلا ورفضا من أوساط متعددة في المجتمع الفلسطيني، ولا سيما علماء وأساتذة الشريعة.

وقد نُشر تسريب لمشروع القانون عبر محامين في صفحات الإعلام الاجتماعي، دون صدور نفي رسمي لمحتوى ما تم تسريبه، مما زاد من حالة اللغط والنقاش المجتمعي الساخن، والتي كان جوهرها المسائل ذات الصلة بأمور نظمتها الشريعة الإسلامية، وانقسم الرأي العام بين مؤيد لمشروع القانون لما يرونه من حماية تحتاجها المرأة بحق، وإصلاح لإشكاليات مجتمعية سائدة، وبين من يعارض مشروع القانون لما يرونه من تعارض بعض بنوده مع قطعيات الشريعة الاسلامية وموروثات ثقافية حساسة للمجتمع الفلسطيني. وفيما يبدو، فإن الحكومة الفلسطينية ماضية في نيتها لتبني القانون، بحسب تصريح صدر مؤخرا عن وزير التنمية الاجتماعية أحمد مجدلاني.

وفي هذه الورقة، سوف يتم استعراض خلفيات هذا القانون، والآراء المؤيدة والمعارضة له، ومنطلقات كل طرف، مع الموازنة بينها، والخروج ببعض التوصيات التي لا بد منها لمعالجة الأزمة الراهنة حيال القانون وقبل إقراره، من أجل تجنب صدام مجتمعي وقانوني لا يرغب به أحد، مع الحفاظ على أولوية حماية الأسرة من العنف.

أولاً: خلفيات القانون، انضمام فلسطين إلى اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة (سيداو) وجدل الشريعة

سبق لفلسطين، وضمن حملة الانضمام للاتفاقيات الدولية في العام 2014 لتثبيت دولانية فلسطين في المجتمع الدولي، أن انضمت لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والمصطلح عليها اختصاراً بـ"سيداو". وقد تم إقرار هذه الاتفاقية في الجمعية العامّة للأمم المتحدة عام 1979، ومنذ ذلك الحين، قامت 189 دولة بالتوقيع عليها، ومن ضمنهم معظم الدول العربية والإسلامية.

ولقد جاء سياق الاتفاقية ليحمي حقوق المرأة من الاضطهاد حول العالم، كونها من أكثر الفئات اضهاداً وتعرضا للتمييز على أكثر من صعيد، وعكست أغلب بنود الاتفاقية انعكاسا للإجماع العالمي على مسائل مثل تجريم الاغتصاب والإساءة والتحرش والاستغلال الجنسي والاقتصادي للمرأة. ورغم عضوية عدد كبير من دول العالم في الاتفاقية، إلا ان الكثير من الدول الموقعة ما زالت تشهد انتهاكات واسعة بحق المرأة.

ومنذ الانضمام إليها، سادت حالة من الجدل العام في المجتمع الفلسطيني حول تطبيق اتفاقية سيداو لورود بعض البنود التي اعتبرت على نطاق واسع بأنها مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية وأعراف المجتمع الفلسطيني. وكان مصدر هذا الجدل بعض المواد الواردة في الاتفاقية، مثل ما يتعلق بالعلاقات خارج إطار الزواج، ومسألة مثليي الجنس، وزواج الفتاة المسلمة من غير المسلم، والمساواة التامة في الحقوق الأسرية، بما في ذلك الميراث.

ومن اللافت هنا، أن فلسطين لم تقم بايداع أية تحفظات عند التوقيع على الاتفاقية، رغم أن الاتفاقية تتيح هذا الخيار، وهو الأمر الذي، في المقابل، قامت به فعلياً غالبية الدول ذات الأغلبية المسلمة، لتجنب الصدام بين التزاماتها القانونية بموجب الاتفاقية، وبين قواعد الشريعة الإسلامية. ومن تلك المواد التي تحفظت عليها العديد من الدول العربية والإسلامية تلك المتعلقة بالميراث، والمسائل المتعلقة بقوامة الرجل كالمادّة (15)، والمسائل المتعلقة بالزواج (تحديداً المادّة 16). حيث رأت الدول ذات الأغلبية المسلمة أنه رغم ضرورة الانضمام للاتفاقية، إلا أن عليها "حماية" التشريع المحلي وقواعد الشريعة عبر هذه التحفظات.

وقد لقيت تلك التحفظات بعض الانتقادات من المنظمات الحقوقية ومن دول أخرى، خصوصا أن بعضها اعتُبر بأنه يمس جوهر الاتفاقية؛ مثل تحفظ عدد من الدول العربية على المادّة الثانية من الاتفاقية بأكملها، رغم كونها من أهم بنود الاتفاقية لحديثها عن مكافحة التمييز، أو التحفظات التي اعتُبر بأنها ليست ذات صلة بالتشريع الاسلامي، مثل التحفظ على البند الأول والثاني من المادّة (9) من الاتفاقية والمتعلقان بالمساواة في الحقوق المتعلقة بمنح الجنسية واكتسابها وإعطائها للأولاد، أو المادّة (7) المتعقلة بالحقوق السياسية. ورغم ذلك، أبقت الدول على تحفظاتها. في المقابل، جاء توقيع فلسطين على الاتفاقية من دون ايداع تحفظات محل تقدير من المنظمات الدولية الحقوقية، إلا أنه سبَّب انتقادات محلية.

ولعل أولى القوانين التي صدرت في فلسطين على ضوء الاتفاقية، كان القرار بقانون الذي أصدره الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقام فيه بتحديد سن الزواج للجنسين بـ18 عاماً، إلا ما يستثنى بقرار خاص من المحكمة. وهو ما أثار لغطا في الشارع حينها، لاعتبار أن هذه الخطوة هي بداية تطبيق الاتفاقية، وسيتبعها خطوات. وإثر ذلك تصاعدت حدة النقاش بين من يؤيد هذا التوجه ويضغط على الحكومة للتعجيل فيه، وبين من يرى فيه هدماً مترقَّبا لأحكام الشريعة الاسلامية وتعدياً على الثقافة الفلسطينية.

وقبل إقرار هذا القرار بقانون، كانت المحكمة الدستورية الفلسطينية  قد قررت، في العام 2018، بأن الاتفاقيات الدولية التي توقع عليها فلسطين ملزِمة ما لم تتعارض "مع الهوية الوطنية والدينية والثقافية"، وإلا فإن فلسطين غير ملزمة بالتطبيق. وفي هذا السياق، صدر تصريح لقاضي قضاة فلسطين محمود الهباش، حول أن الشريعة الإسلامية منزلتها فوق القانون، وفوق أي التزام سياسي، ومن ضمنه الالتزام بقوانين أو معاهدات دولية.

وهكذا، رأى المؤيدون للاتفاقية ولعدم إيداع أية تحفظات عليها أن هذا القرار الصادر عن المحكمة الدستورية كاف، ولا يوجد بالتالي ضرورة لإيداع أية تحفظات، لا سيما أن إيداع تحفظات على أية اتفاقية أمر غير محبّذ ويلقى انتقادا في الاوساط الحقوقية الدولية، وهكذا يمكن الاستفادة من الاتفاقية في تسهيل القضاء على التمييز، طالما لم يكن في ذلك تعارض مع الهوية الوطنية والدينية والثقافية.

إلا أن هذا الرأي، من الناحية القانونية، غير دقيق في الحقيقة. ففلسطين تتبنى المنهج الأحادي في التعامل مع القانون الدولي؛ أي أن الاتفاقيات الدولية تتحول لجزء من القانون المحلي فور توقيعها من السلطة التنفيذية. إضافة لذلك، فإن المادّة (27) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 تنص على أنه لا يجوز للدولة التذرع بالقانون المحلي لتبرير فشلها في تطبيق اتفاقية ما. مما يثير تساؤلات حول قرار المحكمة الدستورية في ظل تعارضه مع التزامات فلسطين بموجب القانون الدولي.

في المقابل، رأى المعارضون للاتفاقية أنها قد تكون ملائمة للمجتمعات الغربية، ولكنها لا تلائم المجتمع الفلسطيني لمخالفتها قيمه وأعرافه، وتحديداً ما يتعلق بالمساواة المطلقة كما ورد في المادّة (16) من الاتفاقية، وما اعتبروه الغاء لقوامة الرجل، -والأب تحديداً-، والعدة بعد الطلاق والعلاقات المحرمة وما ينتج عنها مثل الحمل أو الإجهاض.

وفي الحقيقة، ورغم ما يبدو من تعارض في بعض مواد الاتفاقية مع الشريعة الاسلامية، إلا أن هنالك العديد من السبل التي تتيح الموائمة بين الاثنين، خاصة أن جوهر الاتفاقية يعكس روح الشريعة الاسلامية القائمة على العدل وأن يقوم الناس بالقسط. ولا يخفى أن الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة في المجتمعات العربية -والمجتمع الفلسطيني منها- لا تتوافق بأي شكل مع الشريعة الاسلامية. ولعله من الواجب أن يكون الأصل في التعامل مع اتفاقية سيداو هو المواءمة لا التضاد، والأخذ قدر الإمكان بما يمكن أن يحمي المرأة والأسرة في مجتمعاتنا التي لا شك أنها تعاني، ولا يبدو وضع المرأة فيها إيجابياً، كما قد يُروَّج.

ثانيا: مشروع قانون حماية الأسرة وعلاقته باتفاقية سيداو

استمر مشروع قانون حماية الأسرة في فلسطين تحت شد وشذب داخلي داخل أروقة مؤسسات السلطة ومؤسسات المجتمع المدني منذ ما يزيد على 10 سنوات، أي حتى قبل انضمام فلسطين لاتفاقية سيداو، بين الجهات التي رغبت في أن يكون أكثر وضوحاً في تبنيه لمواد اتفاقية سيداو، وبين من كانوا حريصين على أن لا يتعارض نص القانون بشكل فج مع الشريعة الاسلامية وعادات المجتمع الفلسطيني. وفي المحصلة وبعد التصويت الداخلي وصل إلى الصيغة التي رأيناها في مشروع القانون المسرّب أخيرا.

وفور تسريبه، تم ربط مشروع قانون حماية الأسرة باتفاقية سيداو، رغم عدم وجود أي ذكر للاتفاقية فيه، إلا أن عددا من المواد كانت متشابهة إلى حد كبير، مما غذى فكرة كونه مستمداً من الاتفاقية. وكان هذا الربط في ذاته محل انتقاد من قبل علماء الشريعة[1] الذين رفضوا الاتفاقية منذ البداية لما رأوه فيها من تجاوزات ضد الموروث الديني والثقافي، ورأوا في مجرد ارتباط هذا القانون باتفاقية سيداو إدانة له في حد ذاته.

ويتكون مشروع القانون من 54 مادّة، وتنص مادّته رقم (52) على إلغاء "كل ما يتعارض مع أحكام هذا القرار بقانون"، وتم ربط هذه المادة بالمادّة الثانية من اتفاقية سيداو، التي تنص على واجب الدول في تعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزا ضد المرأة. وقد فُهم من هذا النص أنه قد يشمل قانون الأحوال الشخصية المستمد من أحكام الشريعة الاسلامية.

دوافع المؤيدين للقانون

يقف المؤيدون للقانون وفي جعبتهم لائحة طويلة من الأسباب التي تدفعهم للضغط لتمرير مشروع القانون، بدءا بالاضهاد التي تعاني منه المراة الفلسطينية أسرياً، والتمييز الذي تعاني منه مجتمعيا ومهنياً، والاستغلال الذي تتعرض له النساء، سواء في المنازل -مثل منعهن من الزواج حتى يستمر عملهن وزيادة الدخل المادي للأسرة- وتسلط الزوج أو الأب على مالهن الخاص، والتعنيف غير المبرر من الأبوين للأبناء -وخاصةً الإناث- في حالات عديدة، والتي تصل في عدة حالات إلى العنف الجسدي. وتقول منظمات حقوقية أيضاً بأن المرأة تعاني من التمييز في القوانين، مثل قضايا الزواج والطلاق والقضايا المتعلقة بالأطفال، وعدم وجود حماية كافية للمرأة في قضايا الاغتصاب والعنف الجنسي. ويذكر المؤيدون كذلك بأن المرأة ما تزال هي الفئة الاكثر استضعافاً في المجتمع الفلسطيني وتحتاج إلى حماية حقيقية، ويبرهنون على ذلك بالحالات العديدة التي اضهدت فيها المرأة مثل إسراء غريب التي قتلها أهلها لمجرد خروجها بمفردها مع خطيبها.

وحسب منظمة المرأة التابعة للأمم المتحدة، تعاني 15% من النساء في قطاع غزة من العنف الزوجي، ويوافق حوالي 63% من الرجال الفلسطينيين على فكرة أنه ينبغي على المرأة أن تتسامح مع العنف من أجل الحفاظ على أسرتها، وهي نسبة مرتفعة جدا.

وحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تعاني 29% من النساء الفلسطينيات المتزوجات -سواء في الضفة أو قطاع غزة- من احد أشكال العنف (نفسي، جسدي، جنسي)، بينما تعاني 18% من العنف الجسدي و9% من العنف الجنسي. بينما تبلغ نسبة النساء اللاتي تعرضن للعنف النفسي 57%. ومنذ عام 2017 لغاية 5/6/2020، بلغ عدد الحالات التي سجلت لدى وزارة التنمية الاجتماعية 1872 حالة لنساء معنفات تعرضن لمختلف اشكال العنف، وتعرضت الكثيرات في نفس الفترة لمحاولات القتل. وفضّلت 60% من النساء الصمت وعدم الإبلاغ عن الانتهاك الذي تعرضن له.

ولعل هذه النسبة العالية من النساء اللواتي لا يبلغن عن الانتهاكات التي يتعرضن لها، هي ما دفعت إلى تبني القانون بعض المواد التي تجعل النيابة العامة قادرة على التحرك في قضايا العنف من تلقاء نفسها ودون وجود شكوى من الضحية، أو بناء على شكوى مقدمة من شهود عيان، غير الضحية نفسها. وقال وكيل وزارة التنمية الاجتماعية "داوود الديك" أنهم لاحظوا في قضايا العنف ضد النساء "وجود استسهال وتواطؤ وخوف من الإبلاغ... وتعمل الأسرة ومحيطها الاجتماعي للضغط لإغلاق الملف أو لإخراج الضحايا المعنفات من مراكز الحماية وتسليمهن الى أسرهن. وفي أحيان كثيرة يكون المخطط هو الغدر والقتل".

وبالتالي، وفي ظل فشل القوانين الحالية في حمايتها، تبدو الحاجة ماسة لوجود قانون جديد يعالج ثغرات القوانين الموجودة ويشدد العقوبة بهدف الردع لتحقيق نتائج ملموسة. وإضافة الى ذلك، يشير المؤيدون لمشروع القانون إلى مسألة "صلاحيات القضاة"، حيث أن مشروع القانون اعطاهم قدراً عاليا من المرونة بما يجعل موائمته مع الشريعة أمراً ممكنا. كما أن القانون -برأي مريديه-- لا يقتصر على العقوبات، بل يدعوا ويؤسس إلى التوعية للحد من العنف الأسري من خلال برامج عبر المؤسسات الحقوقية والنسوية.

معارضو القانون: التحفظات الشرعية والثقافية

في المقابل، يرى المعارضون لمشروع القانون أنه وبالرغم من تلك الانتهاكات، إلا أن إصلاحها لا يتم بإحداث ضرر آخر. ويمكننا تقسيم التحفظات على القانون إلى تحفظات إجرائية متعلقة بصناعة القانون وطريقة طرحه، وتحفظات متعلقة ببنوده.

- التحفظات على طريقة صناعة القانون وطرحه:

  • من أكثر النقاط التي أخذتها الأوساط المعارضة على مشروع القانون هو أنه "أتى من فوق"، بمعنى أنه لم يأت نتيجة نقاش مجتمعي داخلي فلسطيني يعكس حاجات المجتمع ويعالجها تبعاً لذلك، خاصّة وأنه يمسّ أمراً في غاية الحساسية بالنسبة للمجتمع الفلسطيني.
  • وكان هناك احتجاج على عدم استشارة علماء الشريعة المعروفين أو حتّى مؤسسة الاوقاف أو دار الإفتاء أو غيرها من المؤسسات الشرعية المعروفة والمعتبرة، فيما إن القانون يتداخل في كثير من جزئياته مع الشريعة الإسلامية.
  • وكان هناك تحفظ كبير على "سرية القانون"، حيث أنه من المستغرب والمستهجن، ومما يثير الريبة، أن مشروع القرار بقانون بقي طي الكتمان رسميا، حتى هذه اللحظة. بمعنى أن النسخ المتوفرة من مشروع القانون لم يتم الإعلان عنها بشكل رسمي أي جهة رسمية فلسطينية، وإنما تم تسريبها من خلال محامين ونشطاء مجتمع مدني، ونحن هنا لا نتحدث عن وثيقة تحتوي مواد سرية، بل عن مشروع قانون سيصبح ملزماً لكل الناس عند إقراره.

- التحفظات على مضمون القانون:

يرى المعارضون أن خطورة هذا القرار تكمن في بنوده التي تنص على تجريم التمييز على أساس الجنس، مما يمكن أن يمهّد لإلغاء أحكام شرعية واضحة متعلقة بالقوامة والميراث والنفقة والطلاق وغيرها. إضافة لمواد أخرى تتدخل في العلاقات الخاصة الجنسية بين الزوج وزوجته، والعلاقات المالية بين الأب وأولاده والزوج وزوجته، كما أن مشروع القانون يكشف هذه العلاقات الخاصة أمام المجتمع بما يمنحه من صلاحية لأي فرد في المجتمع للتبليغ عن العنف المدّعى داخل الأسرة، بل وفرض القيام بهذا التبليغ على البعض، كما في حالة أرباب العمل وأصحاب المسؤولية الملاحظين لحصول العنف، تحت طائلة العقاب. كما أن القانون -بحسب معارضيه- يعفي الزوجة من أي مسؤولية داخل البيت، ويعد كل مطالبة من الزوج لزوجته بذلك جريمة تعنيف تستوجب العقوبة.

ويرى معارضون لمشروع القانون كذلك أنه يتدخل في أدق تفاصيل الحياة الأسرية -مثل علاقة الأبوين بابنائهم واسلوب تقويمهم لهم- وبالتالي يؤسس لفكرة "تغوّل" الدولة على مؤسسة الأسرة، وتفكك الأسرة كمؤسسة تربوية توجيهية، وهو يلغي "أي سلطة تأديبية أو اعتبارية أو دينية للوالدَين على أولادهما" أو تقويم سلوكهم، لأن هذا التقويم قد يعتبر -في احد اشكاله المتعارف عليها في المجتمع الفلسطيني- عنفاً أسرياً. وبالمجمل، يرى معارضو مشروع القانون أنه يتجاهل ثقافة المجتمع القائمة على السلطة التربوية للأبوين، والقوامة الشرعية للأب، ويعزز "القِيَمِ الفردية الغربية الرأسمالية في مواجهة القيم الأسرية الإسلامية والمجتمعية".

وفيما يلي تفصيل لأهم بنود مشروع القانون، التي يأخذها معارضون عليه:

  • تنص المادة (12) أن الشرطة تتولى على وجه السرعة القيام ب"قبول البلاغات والشكاوى التي ترد إليهم بشأن جرائم العنف الأسري، وإعلام مرشد الحماية لاتخاذ الأجراءات اللازمة"، كما تنص المادة (26) على أن أمر الحماية الذي يمكن أن يصدر بناء على جرائم العنف الأسري -وحتى قبل المحاكمة- يمكن أن يشمل "إخراج المعتدي من المنزل لفترة مؤقتة تحددها جهة الاختصاص". ويُفهم من هذين النصين، لا سيما مع عدم تحديد نطاق المقصود ب"جرائم العنف الأسري"، أنه بالامكان -مثلاً- إبعاد الأب أو الزوج عن بيته وأسرته إذا تم الابلاغ عنه في تصرفات قد تكون عادية ولا تمثل جرائم.
     
  • وتنص المادة (20) على أن أمر الحماية يمكن أن يصدر من الجهات المختصة بناء على قيام الشخص ب "تهديد الضحية بممارسة العنف ضدها أو حجز حريتها". وقد طُرحت بعض التساؤلات من المعارضين حول تفسير معنى حجز حريتها، وحول ما إذا كان ذلك يعني أن قيام الأب -مثلا- بمنع ابنه أو ابنته من الخروج لممارسة علاقة جنسية محرمة، يعد حجزا للحرية يستوجب معاقبته بموجب هذا القانون.
     
  • توحي المادة (40) في فقرتها الثانية بعزل الولاية أو الوصاية عن الآباء أو الأزواج بناء على "العنف الاسري"، والذي -حسب تعريف المشروع- قد يتضمن أفعالاً من قبيل تلفظ الأب بكلمة مسيئة للابن، وهو أمر انتقده المعارضون كونه تعريف فضفاض، وكون الثقافة التربوية في المجتمع الفلسطيني تحتمل قدراً من "التجاوزات الأبوية" من هذا النوع.
     
  •  رأى المعارضون أن المادة (42) التي تطرقت للتحرش هي عامّة وفضفاضة وتتدخل حتى في الحياة الأسرية بصورة تخالف حتى الغاية من مشروع القانون. فالتحرش داخل الأسرة -حسب المشروع- يشمل "أي مضايقة يوقعها الشخص على أفراد أسرته كلاميا أو بالملامسة أو بإشارات من شأنها أن تنال من كرامة الضحية، أو تخدش حياءه أو تناول من خصوصيته أو مشاعره". وهي أمور اعتبرها بعض المعارضين مبالغا فيها على اعتبار أن العلاقة الأسرية ينبغي ان تحتمل "قدراً من المرونة" في هذا الصدد، حيث ينبغي التمييز بين "التصرفات الطبييعة"، وما يمكن أن يمثل "اعتداءا فعليا".
     
  • تنص المادة (44) على عقوبة "كل من عنف أحد أفراد أسرته نفسياً". وبحسب المادة الأولى من القانون، يشمل العنف النفسي "توجيه الفاظ بذيئة، أو ممارسة التهديد او الوعيد أو الذم والشتم أو الترهيب، أو القذف او التشهير أوتشويه السمعة". ويرى المعترضون أنه بموجب هذه المادّة قد يُحبس الأب أو الأم لمحاولتهما تقويم سلوك ابنيهما أو ابنتيهما في حال تضمن كلاهما وعيداً أو شتماً. وكذلك يحبس الزوج أو الزوجة في حال صدر عن أي منهما مثل ذلك في حق الآخر.
     
  • أما المادة (45) فتتحدث عن عقاب "كل من يرتكب جريمة التمييز من خلال تفرقة أو استبعاد أو تقييد يمارسه أحد أفراد الأسرة على غيره من أفرادها على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه إهانة أو إنكار أو إحجاف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية". وفُهم من ذلك أنه بالإمكان أن يُحبس الأب أو الأم أو الزوج بسبب محاولة تقويم سلوك ابنهما أو ابنتهما في أي مجال اجتماعي أو جنسي أو غيره من خلال عقابهم بحرمانهم من بعض حرياتهم أو امتيازاتهم، أو بسبب "تمييز ما" في مصروف أو مبلغ مالي أو هدية أو على أساس منعهم من ممارسة أمر ما أو مهنة ما، حيث يمكن معاقبة الأب مثلا لمنعه ابنته من أن تعمل في "مكان لتصليح السيارات" حتى لو كان كل العاملين الآخرين في المكان رجالا، لأن هذا سيتعبر حرمانا لها قائما على التمييز على أساس الجنس.
  • وأخيراً، تنص المادة (52) على إلغاء "كل ما يتعارض مع أحكام هذا القرار بقانون". ويعني هذا بالتالي إلغاء أحكام ولاية الأب على بناته وأولاده التي ينص عليها قانون الأحوال الشخصية، والمواد الواردة في قانون العقوبات التي تجرّم الزنا من الزوجة، وهذا ما رفضه بعض المعارضين.

ثالثا: حماية الأسرة في أتون صدام المؤيدين والمعارضين، ماذا بعد؟

لعل من المتفق عليه بين المؤيدين والمعارضين لمشروع القانون -على اختلاف اطيافهم- هو الإقرار بتعرض شريحة واسعة من الفئات المستضعفة في المجتمع الفلسطيني -وتحديداً النساء- لنوع من الاضطهاد غير المقبول داخل إطار الاسرة، سواء قبل أو بعد الزواج، وأن هناك ضرورة ملحة لاتخاذ التدابير اللازمة لإيقاف ذلك، أو على الاقل التخفيف من حدّته. وهذه نقطة انطلاق مهمة كونها مجمعاً عليها.

لكن الإشكال الأبرز فيما يبدو من استقراء عديدين ممن كتبوا في هذا الشأن، مؤيدين ومعارضين، هو حدة الاستقطاب الشديدة لدى كل طرف، وما وصفه مراقبون بـ "الاضطهاد الفكري" الذي يبدو واضحا وشديداً في هذه الأزمة، وكأنها معركة وحرب، لا مشروع قانون لحماية الأسرة. وهو ما يستدعي وقفة واجتماعاً في الرأي وقبولاً للنقاش من قبل كل طرف، للوصول إلى صيغة القانون الأنسب، التي تراعي موقف المؤيدين للقانون، وهم محقون إلى حد بعيد، وموقف المعارضين له، وهم محقون إلى حد بعيد أيضاً.

ومن هذا المنطلق، ومن قاعدة التأكيد على ضرورة اتخاذ إجراءات حازمة لحماية الفئات المستضعفة في المجتمع الفلسطيني، وتحديداً المرأة، تدعو هذه الورقة إلى ما يلي:

- يحتاج مشروع القانون المطروح حاليا إلى:

  • التأكيد على أهمية وجود قانون من أجل حماية الأسرة، والمرأة بشكل خاص، ومعالجة الإشكالات والجرائم التي تقع عليها.
  • ضبط وتعريف البنود الواردة في مشروع القانون بالتفصيل، من أجل إزالة اللغط الذي أشارت إليه هذه الدراسة، ولا سيما معالجة النصوص الفضفاضة، ووضع حدود واضحة بين ما يمثل "اعتداء وجريمة"، وما يمثل "تصرفا طبيعيا ومقبولاً ضمن العرف المجتمعي السائد في جو أسري مطمئن"، وذلك بما يضمن حماية الأسرة من ناحية، ويحمي حق الآباء والأمهات في ممارسة التربية من ناحية أخرى.
  • القيام بنشر وقائع المؤتمر التحضيري (proceedings) الخاصّة بمشروع القانون، حتى تكون مرجعا تفسيريا لفهم سياق القانون ومعانيه مستقبلاً.
  • لا بد من تشكيل لجنة حوار مجتمعي يجمع علماء الشريعة مع لجنة صياغة القانون ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالمرأة والأسرة، للوصول إلى صيغ مناسبة تلائم المجتمع الفلسطيني وتحمي المرأة، ومن أجل تجنب أن يقود تمرير القانون إلى استقطاب مجتمعي سلبي.
  • تنفيذ برامج توعوية حول اتفاقية سيداو ومشروع القانون المطروح؛ والإشكالات التي تعاني منها المرأة والفئات المستضعفة في المجتمع الفلسطيني، وإشكالية الحالة الذكورية العامة والموجودة لدى كثيرين، بما يجعل حق المرأة في كثير من الأحيان أقل من حق الرجل، والجريمة المقترفة ضدها أقل وقعا واهتماما وأجلب لمحاولة التغطية عليها وطيها، بما يتسوجب قوانين تحتوي قدراً عالياً من الصرامة حتى تتمكن من ردع المنتهكين لحقوق المرأة، وأن كون المنتهك أباً أو اخاً او زوجاً للضحية، لا يقلل من فداحة الانتهاك أو ضرورة الردع.

-  وبالعموم، فإن أزمة مشروع القانون هذا تستوجب التنويه إلى مسألتين هامتين ظهر فيهما المأزق التشريعي الفلسطيني بوضوح، وهما:

  •  صدور القرارات بقانون دون وجود نقاش فاعل حولها ودون إتاحة الفرصة للمعنيين وحتى للعامة لإبداء رأيهم بمشروع القانون، فيما إن المجتمع هو المعني الأول بأي قانون، وهذه إشكالية حقيقية لغالبية القرارات بقانون التي صدرت في السنوات الاخيرة، ولا سيما في ظل غياب المؤسسة التشريعية الأصيلة والمتمثلة بمؤسسة البرلمان، الذي تم تعطيله مبكراً، ومن ثم حلّه تماماً مؤخراً. ومما لا شك فيه، أنه لا مصلحة لأحد أن يشكّل هذا القانون حالة استقطاب في المجتمع الفلسطيني مما يؤدي إلى إحداث ضرر أكبر، أو جعل هذا القانون عنواناً لتحدي المنظومة القانونية عموماً.
  • السرية التي تنطوي عليها مشاريع القرارات بقانون، وخروجها إلى العلن بشكل مفاجئ بعد أن تم اقرار بنودها سرياً، بحيث لا تخرج إلا مسربة، أو بعد إقرارها دون اطّلاع المجتمع عليها. وهذا في الحقيقة يعد تجاوزاً وخللاً حقوقيا كبيراً، ويخالف العرف في غالبية دول العالم، ويؤثر بشكل قاس على سلامة المنظومة القانونية الفلسطينية وعلى أساس الديمقراطية ودولة القانون، التي ينبغي لها -وفق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي انضمت له فلسطين عام 2014- أن تضمن حق الناس في المشاركة السياسية، والتي تشمل الاطلاع على مشاريع القوانين قبل إقرارها. وبإمكاننا المقارنة هنا مع الحالة الأردنية، الدول الجارة، والتي ينشر ديوان الرأي والتشريع فيها كل مشاريع القوانين قبل إقرارها. وهذا هو السلوك المتّبع في دول عربية أخرى كذلك.

ختاماً، إن ضرورة أن يكون هكذا قانون نتاجاً لعملية نقاش مجتمعي ممنهج تعدو مجرّد إشراك الناس في صناعة القرار وبالتالي تعزيز الثقافة الديمقراطية، فهي قبل ذلك الخطوة الاولى في إقناع الناس بضرورة الالتزام بمخرجات القانون. وقوة القانون لن تكفي للتطبيق إن لم يرافقها قناعة لدى المجتمع بالقانون وأهميته لحياتهم.

قوة القانون لن تكفي للتطبيق إن لم يرافقها قناعة لدى المجتمع بالقانون وأهميته لحياتهم.


 

  1. كان من جملة الجهات الشرعية التي اعترضت على الاتفاقية رابطة علماء قلسطين في غزّة، وإمام المسجد الأقصى، كما تم توقيع عريضة من قبل علماء الشريعة في فلسطين، وصل عدد الموقعين لها إلى 70 عالما وأستاذا، بحسب د. سعيد إبراهيم دويكات، الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة النجاح الوطنية – نابلس. في المقابل، قالت وزارة التنمية الاجتماعية على لسان وزيرها أحمد مجدلاني إن "المؤسسة الرسمية الدينية" لم تبدِ أي تحفظ على النسخة الأخيرة من قانون حماية الأسرة من العنف. وحتى وقت كتابة هذه الورقة، لم تؤكد ذلك أو تنفيه أي من الجهات الدينية الرسمية في فلسطين.