شبكة قدس الإخبارية

عن استدعاءات "فناجين القهوة"

87
مثنى خميس

يُنشر هذا المقال بالتعاون مع "متراس".

تتكرّر اتصالات أجهزة الأمن الفلسطينيّة بمواطنين، غالباً نشطاء وصحافيين، لشُرب فنجان قهوة في مقر هذا الجهاز الأمنيّ أو ذاك. دعوات "فنجان القهوة" التي تُخصص "للدردشة"، باتت واحدةً من وسائل أجهزة الأمن لملاحقة الناس وتهديدهم وضبطهم.

بعد أن اقترنت القهوة اجتماعيّاً بوصفها ضماناً موثوقاً لحلّ الخلافات بين الناس بالعدل، باتت أداةً قمعيّةً بيد سلطة غير موثوقة. تارةً تكون أداة ترهيبٍ وعلامة مراقبة مخابراتيّة للأفراد وتحرّكاتهم ومواقفهم وكلامهم. وتارةً تُفضي إلى اعتقالٍ سياسيٍّ كما حدث، على سبيل المثال لا الحصر، مع الأسير المحرّر عماد جاد الله في أبريل/ نيسان 2019. وفي أحيانٍ أخرى يكون "فنجان القهوة" وسيلةً للدفع نحو إسقاط الحق القانونيّ للناس، وفرض حلٍّ آخر تحت غطاءٍ "ودّي".

أصناف بُن المخابرات

ضمن كثير من الحوادث والشواهد، كانت إحدى أبرزها حين اتصلت الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة بعددٍ من الأسرى المُحرّرين في صفقة "وفاء الأحرار" بعد خروجهم من السجن. دعتهم حينها للمجيء إلى مقرّ الأمن لاحتساء فنجان من القهوة، لأنّها تريد "تهنئتهم بالسلامة" مثلما صرّحت الأجهزة إثر ضجة إعلاميّة وقتها. والحقيقة الفعليّة أنّها أرادت بهذه "الدردشة" أن تُهدّدهم وتعلمهم بأنهم تحت رقابة المخابرات. ومثل هذه الحادثة عدد كبير من قصص استخدام "القهوة" كي تستعرض الأجهزة الأمنيّة حضورها وتهديدها.

لكنّ "فنجان القهوة" لا ينتهي دائماً بما يُسمّى "دردشة" تحاول دبّ الرعب بالصحافيّ أو الناشط أو المناضل. فقد استخدمت الأجهزة الأمنيّة الدعوة إلى شرب "فنجان القهوة" من أجل استدراج الشخص واعتقاله بدلاً من الوصول إلى بيته أو اعتقاله في مكانٍ عامّ، وبدلاً من إصدار مذكرة اعتقال قانونيّة بحقّه. فإعداد القهوة أسهلُ من إعداد المُذكرة التي تحتاج وقتاً وبيروقراطيّة حتّى يُصدرها القاضي. مثلاً، حين استجاب الأسير المحرّر عماد جاد الله لـ"فنجان قهوة" لدى الأجهزة الأمنيّة، لم ينتهِ منه إلا بعد 90 يوماً من الاعتقال. بحسب مؤسسة الحق، فإنّ الاعتقال أو الاستدعاء من قبل الأجهزة الأمنيّة بدون أمر قضائي ليس أمراً قانونيّاً وهو "احتجازٌ تعسفيّ". 

حتى وإن غاب فنجان القهوة فإنّه دلالته تُستحضر لأداء وظيفة أخرى إضافةً لما ذُكِر أعلاه، وهي وظيفة الغطاء "الودّي". وتستخدم للضغط على مواطنٍ ما لإسقاط حقّه ضد أفراد الأجهزة الأمنيّة، أو ضدّ موظّفي ومسؤولي السلطة، أو حتّى ضدّ أفراد آخرين تربطهم بالأجهزة الأمنيّة واسطة، وذلك بديلاً عن التوجّه للمسار القانونيّ الذي يمكن من خلاله تقديم شكوى وتحصيل حقّه لدى المحكمة.

في الأسبوع الأخير، بعد الاعتداء على الصحافيّ أنس حوّاري وضربه على أحد حواجز "المحبة" في طولكرم، اعتُقِل ثم تمت مساومته على التنازل عن حقّه في تقديم شكوى، وذلك مقابل إطلاق سراحه وعدم تحويله للنيابة وتمديد اعتقاله. في ظلّ هذا الإفراج المشروط، تدخّل وسطاء نقابة الصحافيين سعياً لإنهاء الخلاف "على فنجان قهوة"، وشكل الفنجان هذه المرة: العدول عن حقّه في تقديم شكوى ضدّ الاعتداء عليه!

القهوة... "عرض لا يمكنك رفضه"

بالرغم من عدم وجود بندٍ اسمه "فنجان القهوة" في القانون، إلا أنّه يتقدّم بخطوات على القانون الذي تدّعيه سلطة تهجس بـ "حلم الدولة" وليس لها من الحلم حتّى المؤسسة. تدّعي أنّها "دولة" وليس بمقدورها الخروج من الذهنيّة العشائريّة القائمة على "المونة" وشرب "فنجان القهوة". 

عملياً، صادرت السّلطة طقساً اجتماعيّاً له مكانته في حياة الناس اليوميّة، وتمارسه لفرض هيمنتها على الناس وترهيبهم، ولنزع الصفّة السياسيّة عن الخلاف الأساسي القائم معها. فقد استبدل الفنجان مذكّرة الاعتقال أو الاستدعاء "القانونيّ" للمقابلة، ثم صار طقس "صلحة" لإسقاط الحقوق ولإسكات خلافٍ سياسيّ كما لو أنّ الاعتقال السياسي (أو أي إشكاليّة أخرى!) مُشكلة عائليّة تحتاج لمنطق عشائري في حلّها. وكما لو أنّ مركز الأمن مقهى لا مؤسسة حكوميّة، وكما لو أنّ فنجان القهوة قرار قضائيّ، وكما لو أنّ العطوة محكمة. 

هكذا، ابتدعت الأجهزة الأمنيّة عدّة استخدامات للقهوة على عدّة مستويات. فعلى المستوى السياسي كانت أداةً لتفكيك العداء السياسي والوطني، واختزاله إلى مجرد عداء شخصيّ يُحلُّ بالصُلح التقليديّ. ثمّ على المستوى القانوني، جُعلت القهوة أداة ضغط اجتماعيّة تعسّفيّة بدلاً من الاستدعاء القانونيّ الذي يحتاج مسوّغات عينيّة واضحة. فليس بالإمكان رفض "عزومة" القهوة إلا إن كان الشخص يملك قدراً كافياً من الجرأة الممزوجة بـ"الوقاحة".

 هكذا، تحوّل "فنجان القهوة" من عبارة لها دلالتها الاجتماعيّة إلى ظاهرة أو حتّى منطق أمني وسياسي فاعل في العلاقات القمعيّة داخل المُجتمع. وتتضاعف قوّة هذا المنطق بعد أن تُعيد المؤسسات والنقابات إنتاجه، وهي التي من المُفترض أن تكون أول من يرفضه، وبالتالي يُصبح استخدام السلطة لهُ أكثر شرعية وتداولاً.