شبكة قدس الإخبارية

"البقجة" .. وحكاية التهجير 

580

"لم أعِ ما الذي يحدث، أيقظتْني صباح ذاك اليوم، وأجلستْني على مصطبةِ بيت جيراننا، وعادت تحمل صُرّةً فوق رأسها (قطعة قماش لحمل المتاع) وقالت لي وهي تنظر إلى منزلنا: يلا يمّا بدنا نطلع".

يعود المسن الفلسطيني داود بدر "أبو بدر" بذاكرته إلى العقود الماضية مستذكراً رحلة اللجوء التي عاشها وعائلته بعد تشريدهم من بلدتهم "الغابسية" شمالي شرق مدينة عكا مُكرهين، من قبل عصابات "الهجاناة" الإسرائيلية التي قتلت وشردت الآلاف من الفلسطينيين في العام 1948.

"حينما كانت قوات الاحتلال تقتحم قرية الغابسية من جهاتها الشمالية والغربية، كنت طفلاً لم أتجاوز السادسة من عمري، حينها غادرتْ عائلتي وبقية العائلات القرية، مكرهة باتجاه الشرق، علّها تجد مكاناً آمناً تستطيع أن تأوي إليه وتعود في اليوم التالي"، يقول الحاج "أبو بدر".

ويتابع "لم أكن على دراية بما يحدث وأتذكر من تلك الأيام التي سبقت الهجرة، لَعِبي مع الأطفال في تلك البساتين الجميلة، التي تلوّنها الثمار والورود من كل ناحية".

ويضيف "الحادي والعشرين من شهر أيار/ مايو عام 1948، كان يومًا مصيريًا، أذكر حينما صحوْت فجأة على صوت أمي وهي تقوم باستعجالي، وما هي إلا دقائق قليلة حتى غادرنا القرية مع بقية العائلات إلى قرى مجاورة مشياً على الأقدام أو على الدواب".

كانت "الصُرّة" أو "البُقْجة" التي استخدمتها والدته لجمع بعض الأمتعة الضرورية قبيل بدء رحلة اللجوء، أبرز ما علق في ذاكرة "أبو بدر" الذي رأى فيها عنواناً للحل والترحال، تفصيل مهم لا يمكن القفز عنه لدى الحديث عن النكبة أو المخيمات.

ويستحضر الحاج "أبو بدر" الذكريات، ويقول "كانت أمي تحمل الصُرّة على رأسها، تثبّتها بيدٍ وتمسكني بالأخرى، تعبت للغاية ولم أعد أقوَ على المشي، فجاء خالي مصطفى وحملني، ويبدو بأنني غفوْت على كتفيه في الطريق، فصحوْت وأنا في منزلٍ داخل قرية كفر ياسيف والتي تقع شمالي غرب الغابسية، وبقينا هناك حتى قامت القوات الإسرائيلية باحتلالها في الـ 10 من شهر تموز 1948، فاستمر اللجوء حتى الوصول إلى قرية يركا، ومكثنا فيها فترة ثم انتقلنا إلى قرية دير القاسي".

أما عن أحوال القرية، فيصف أبو بدر الوضع قائلا "خرجوا معاً ومشوا شرقاً في الطرق الوعرة، كلٌّ منهم يحمل ألم الوطن ويأمل بالعودة، لربما اليوم وربما غداً، إلّا أن أمل العودة لم يبرحهم رغم مرور أكثر من 72 عاماً على احتلال الأراضي الفلسطينية، كانوا يبكون الديار، والذكريات، والبساتين التي كانوا يفلحونها صباحاً، ثم يعودون في المساء مُجهَدين مُتْعبين يحملون ثمار أرضهم التي سُلبت اليوم وأصبحت مصدر قوةٍ لاحتلال ظالم".

احتُلّت قرية "دير القاسي" (وسط الجليل الغربي، قرب الحدود مع لبنان) في تشرين أول/ أكتوبر عام 1948 ولجأ أهاليها إلى لبنان، أمّا أهالي "الغابسية" فقد عادوا إلى "يركا" (على السفوح الغربية لجبال الجليل الأعلى)، وهنا يضيف أبو بدر "أذكر حينما قالت والدتي لوالدي: يا محمود أنا ما بدّي أموت إلّا بهالبلاد، وما بدّي أروح على لبنان، بدك تروح مع أولادك روح، بس أنا مش طالعة".

"أواخر عام 1948، عدنا إلى الغابسية وبقينا فيها حتى كانون ثاني/ يناير عام 1950"، يقول الحاج داود، ويستذكر كلام والده في الـ 24 من الشهر ذاته حينما قال لوالدته "مجبورين نطلع من البلد"، وفي صبيحة اليوم التالي خرجوا من قريتهم وسكنوا قرية "الشيخ داود - دنون". 

لم يستسلم أهالي قرية "الغابسية" للاحتلال، واستمرّوا في محاولة الرجوع إلى أرضهم ومنازلهم التي هُجّروا منها منذ عام 1950، مرّة تلحقها الأخرى، دون كلل أو ملل، حتى المحاولة الأخيرة التي كانت في أيلول عام 1951 حيث قامت قوات الاحتلال باعتقال 14 فلسطينياً من أهالي القرية وقدّمتهم للمحاكم العسكرية، فمنهم من سُجن ومنهم من أُفرج عنه بغرامة مالية.

في الثلاثين من شهر تشرين ثاني/ نوفمبر 1951" أصدرت المحكمة "العليا" التابعة لسلطات الاحتلال، قراراً يقضي بعودة أهالي القرية إلى منازلهم دون عائق، وتنفيذاً لقرار المحكمة ذهب الأهالي بعد نحو أسبوع للقرية ليجدوا قوات الاحتلال تنتظرهم هناك وتمنعهم رغم قرار المحكمة، فكانت الحجة أن حكومة الاحتلال تعتبر "الغابسية" منطقة عسكرية مغلقة، بحسب قوانين الطوارئ الانتدابية.

هُدمت "الغابسية" عام 1956 حيث قام الاحتلال بتفجير منازلها التي وصل عددها ما قبل النكبة إلى نحو 130 منزلاً وكان يسكنها أكثر من 700 فلسطيني، ثم قامت الآليات الثقيلة "البلدوزر" بتسوية منازل القرية في الأرض، وحاولوا إخفاء جريمتهم بزراعة أشجار حرجية، ولم يتبقّ من هذه القرية سوى جامعها.

يقول "أبو بدر": "بقي جامع الغابسية مغلقاً منذ احتلال القرية وحتى عام 1995، لكنّنا قرّرنا إعادة ترميم المسجد وتنظيفه والحفاظ عليه، وقرّر الأهالي إقامة صلاة الجمعة فيه، لكن لم يمرّ عام واحد حتى قامت ما تسمى بـ”دائرة أراضي إسرائيل” بإغلاق المسجد ونوافذه ومداخله بشكل محكم ومُنعنا بشكل نهائي من دخوله".

كل التفاصيل لا تزال راسخة في الذاكرة الحية للحاج "أبو بدر" ولعموم الشعب الفلسطيني، من بينها "الصُرّة" التي اعتلت رأس والدته ذلك الصباح "المشؤوم"، تلك الصرّة التي لازمت الفلسطيني في رحلة التهجير واللجوء منذ عام النكبة، وباتت رفيقاً وخلاً وفياً له، ستصبح صديق عودته إلى دياره هذه المرة.

#النكبة