شبكة قدس الإخبارية

سيناريوهات كورونا في فلسطين

thumb (22)
هاني المصري

هذا ما نعرفه عن مستقبلكم، فنحن الآن حيثما ستكونون في غضون أيام قليلة، كل ما في الأمر أننا متقدمون عليكم بخطوات قلائل على طريق الزمن، تمامًا كما أن ووهان متقدمة علينا ببضعة أسابيع.

نشاهدكم إذ تتصرفون مثلما سبق إن تصرفنا تمامًا، متمسكون بالحجج التي تمسكنا بها حتى وقت قريب، ومنقسمون بين من يقولون ما هي إلا إنفلونزا عادية فلِم كل هذه الجلبة، ومن فهموا بالفعل".

هذا ما كتبته الروائية الإيطالية فرانشيسكا ميلاندري، وهو معبِّر تمامًا، إذ يرسل رسالة مدوّية بأن من يستخف بالجائحة يكون مصيره مثل إيطاليا، ومن يفهم بأنها وباء خطير يصيب كل الأعمار ويتركز خطره أكثر على حاملي الأمراض والكبار منهم بالسن، فلذا يجب التعامل معه بكل جدية لكي ننجو، وذلك باعتماد الطريق الذي اعتمدته الصين وكل الدول التي احتوت الوباء أو تغلبت عليه.

يتلخّص طريق النجاة بعبارات قليلة: الإغلاق التام، والعزل المنزلي الاختياري والإلزامي بأكبر عدد متاح وفق الإمكانيات، وفحص أكبر عدد ممكن من المشتبه بإصابتهم ومخالطيهم وبصورة عشوائية، وتوفير مستلزمات الحياة من أكل وشرب، واستمرار سريان العجلة الاقتصادية، ولو بالحدود الدنيا، ضمن الالتزام بمتطلبات حالة الطوارئ، والرعاية الصحية لمن يحتاجها، من المصابين بالفيروس والأمراض الأخرى التي لن تتوقف، وذلك كله كفيل بقطع الطريق على استمرار سلسلة التكاثر المتوالية الهندسية للفيروس التي تؤدي إذا لم تُوقَف إلى فقدان السيطرة بالكامل.

هناك ما يكفي من المؤشرات والدلائل إلى أن احتواء الوباء وهزيمته الكاملة ليست مسألة أسبوع أو أسبوعين، أو حتى شهر أو شهرين، وربما سنة وأكثر، لذا علينا أن نستعد لكافة الاحتمالات في نفس الوقت الذي نسعى فيه بكل قوة، وبذل أقصى ما يمكن، لكي يستمر السيناريو الحالي، ولا نصل إلى السيناريو السيئ أو الأسوأ. فما السيناريوهات المحتملة؟

السيناريو الأول: استمرار الوضع الراهن

يقوم هذا السيناريو على محاصرة بؤر انتشار الوباء، ومنعه من الدخول في المرحلة الثالثة (الانتشار المجتمعي)، وفي هذا السيناريو يحدث ارتفاع قليل في الإصابات، ربما يصل العدد إلى المئات وبضع وفيات، وبعدها تبدأ الأمور بالعودة إلى طبيعتها تدريجيًا في ظل انتهاء حالة الطوارئ التي يمكن أن تمدد إلى شهر حزيران القادم.

ما يدفع هذا السيناريو إلى الاستمرار أن الإجراءات المتبعة نجحت حتى الآن بمحاصرة الوباء في بؤر محددة، فقد بلغت الحالات المصابة حتى كتابة هذه السطور 115 مصابا ووفاة سيدة واحدة، هذا مع العلم أن المصابين الآخرين في شرقي القدس لا يقل عددهم عن 12 حالة، وسط تخلي سلطات الاحتلال عن القيام بمسؤولياتها وواجباتها إزاء من تحتلهم ومن ضمّتهم، لدرجة عدم الحرص على تنفيذ الإجراءات التي تنفذ في غربي القدس، وعدم إجراء الفحوصات اللازمة، وإخفاء المعلومات عن عدد الحالات المصابة.

إنّ نجاح هذا السيناريو ممكن جدًا، ولكنه بحاجة إلى متطلبات عدة، منها إجراء الحد الأقصى من الفحوصات اليومية، فالفحوصات التي تجرى قليلة، فقد قال رئيس الحكومة في مؤتمره الصحافي يوم الأحد الماضي أن لدينا قدرة على إجراء 400 فحص يومي، وسترتفع إلى 1000.

لا بد من فحص كل المخالطين والمشتبه بهم، ومن يشعر بأن لديه أعراض، والقيام بحملات فحص عشوائية ضمن معايير علمية، فكما أثبتت تجارب البلدان المختلفة، فإن عدد المصابين الفعلي لا يدرك من دون أكبر عدد ممكن من الفحوصات. فتكمن خطورة هذا الفيروس في سرعة الانتشار، وأن معظم المصابين به لا يشعرون بأية أعراض أو يشعرون بأعراض خفيفة، وبالتالي هم ناقلون للمرض من دون أن يعرفوا. لذا، من المهم إجراء فحوصات عشوائية، ووضع عدد أكبر ممكن في الحجر الإلزامي ضمن الرعاية الصحية اللازمة، ووضع التطبيقات والآليات اللازمة للتأكد من التزام المحجورين في بيوتهم بالحجر وانعزالهم عن أسرهم ومحيطهم، ومحاسبة المخالفين.

وبهذا الصدد، يجب مراجعة السياسة الخاصة بدعوة العمال من الداخل إلى الحجر المنزلي الطوعي فقط، على أساس عدم القدرة لعمل الحجر في المدارس والفنادق وغيرها من المؤسسات لأعداد كبيرة، وعدم توفر القدرة لحجر عشرات الآلاف، ولكن هناك حل آخر يقضي بحجر الآلاف منهم وليس كلهم، بما يشمل المصابين والمخالطين والمشتبه بإصابتهم، بحيث يمكن توفير الرعاية الصحية والطعام وبقية المستلزمات، بتعاون ومشاركة الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني وكل القادرين على المساهمة المادية والمعنوية.

ومن المستلزمات الضرورية توفر الوعي الكافي من المواطنين ومحاسبة وعدم التساهل مع من يخرقون التعليمات، مثلما حدث في جنين واليامون ومناطق أخرى عديدة.

وبما أن فلسطين تحت الاحتلال، فهو الذي يتحكم بكل شيء، ويتصرف بعنصرية فاقعة رغم الوباء الذي يهدد الجميع، كما ظهر في إلقاء العمال العاملين في الداخل المصابين أو المحتمل إصابتهم على قارعة الطريق، وبمنع السلطة من ممارسة مسؤولياتها بالقدس ما دام الاحتلال لا يقوم بمسؤولياته، إضافة إلى مواصلة حصار قطاع غزة الذي يجعله قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت إذا انتشر الوباء في منطقة تعدّ الأكثر اكتظاظًا بالسكان من دون مقومات كافية لمحاصرته والقضاء عليه.

يضاف إلى ما سبق أن السلطة منقسمة إلى سلطتين، فلم يؤدِ الوباء إلى إنهاء الانقسام، أو حتى إلى خطوات حقيقية في هذا الاتجاه، وهذا أمر يتحمل طرفا الانقسام المسؤولية الكاملة عنه.

يوضح ما سبق إمكانية استمرار الوضع الراهن، أي تحقق السيناريو الأول، ولكن ذلك مرتبط أيضًا بوضع حد لعنصرية ولا مبالاة سلطات الاحتلال إزاء انتشار الوباء بين الفلسطينيين، حتى ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية، كما يتوقف على قدرة "إسرائيل" على محاصرة الوباء وهزيمته في الداخل، فـ"إسرائيل" موطن الوباء، وينتشر فيها بمعدلات كبيرة، ولا توجد أسوار كافية تمنع انتقاله إلى الفلسطينيين من دون أن يملكوا الجهاز الصحي والأجهزة الطبية المطلوبة.

السيناريو الثاني: تفاقم الوضع إلى الأسوأ

يقوم هذا السيناريو على انتشار الوباء إلى مناطق أخرى في فلسطين، نتيجة المخالطة وعدم التزام بعض المصابين والمشتبه بإصابتهم بالعزل التام، لا سيما بعد عودة العاملين في "إسرائيل"، وعدم التقيد الكافي بتعليمات حالة الطوارئ من بعض المواطنين أو مجموعات منهم، خصوصًا فيما يتعلق بالحجر المنزلي الطوعي والإلزامي في مناطق العزل، وخاصة في القرى والبلدات التي تعتمد بشكل أساسي على دخلها على العمل في "إسرائيل" والمستعمرات الاستيطانية.

يتضمن هذا السيناريو وقوع الآلاف من الإصابات في صفوف المواطنين وعشرات الوفيات، وقد تمدد ضمن هذا السيناريو حالة الطوارئ إلى أشهر عدة، ويمكن أن يستمر هذا السيناريو إلى نهاية العام.

هذا السيناريو محتمل حدوثه لكل الأسباب المذكورة، ولحقيقة أن شخصًا مصابًا من دون معرفته ووضعه بالعزل يمكن أن يؤدي خلال فترة وجيزة إلى إصابة أكثر من ثلاثة آلاف شخص، لذا يجب عمل أقصى المستحيلات لمنع حصول ذلك، وإذا حصل بجب أن نكون مستعدين لتوفير أجهزة التنفس اللازمة، وأساليب الفحص، والأطباء والممرضين، وتوفير معدات وبدلات الوقاية لهم، وتجهيز أماكن العزل بشكل يمنع أن تكون بؤرًا لانتشار الوباء، وتوفير الطعام ومختلف متطلبات الحياة.

السيناريو الثالث: فقدان السيطرة

يقوم هذا السيناريو على فقدان السيطرة على انتشار وباء الكورونا، مع احتمالية استمراره إلى سنة ونصف، وربما أكثر، لا سيما في ظل استمرار عدم وجود لقاح أو علاج له، والحاجة إلى مدة زمنية للتوصل إلى علاج، مع ملاحظة أن هناك تجارب ناجحة نسبيًا بالحد من أضراره، باستخدام أدوية مكافحة الطاعون والملاريا، وإنتاج واستخراج مصل من المصابين والطب الشعبي الصيني وغيرها.

وقد يتضمن هذا السيناريو عشرات الآلاف من الإصابات، وربما أكثر، وسيكون له آثار كارثية على الحياة العامة في فلسطين، خصوصًا على الاقتصاد والصحة والتعليم، ومختلف نواحي الحياة.

هذا السيناريو مستبعد حدوثه بدليل النجاح في محاصرة الوباء حتى الآن، وذلك بفضل السياسات والإجراءات التي اتخذتها القيادة والحكومة، وتجاوب معظم المؤسسات والشركات والأفراد معها، ولنجاح بلدان عدة في محاصرته، ولكن هذا لا يمنع، بل يتطلب الاستعداد لمواجهته إذا حصل.

وما يجعل هذا السيناريو ممكنًا أو لا يمكن استبعاده كليًا أن هناك اجتهادات طبية مفادها أن 60-80% من سكان الكرة الأرضية سيصابون بهذا الوباء، وبعض الاجتهادات تصل إلى أن كل بني البشر سيصابون تمامًا به مثل الإنفلونزا. والمهم ألا يحدث ذلك مرة واحدة، لأن أفضل جهاز صحي وأقوى الدول لا تستطيع معالجة مئات الآلاف والملايين مرة واحدة.

وهنا لا بد من ملاحظة أن نسبة الوفيات إلى المصابين تختلف من بلد لآخر، ونسبة الذين تماثلوا للشفاء إلى المصابين تتفاوت بشدة كما تشير المعلومات المتوفرة، ففي الصين بلغ عدد الإصابات 81,470 والمتوفين 3,304 والمتماثلين للشفاء 75,700، في حين بلغ عدد الإصابات في الولايات المتحدة 142,735 والمتوفين 2,489 والمتماثلين للشفاء 4,562. أما في إيطاليا فبلغ عدد الإصابات 97,689 والمتوفين 10,779 والمتماثلين للشفاء 13,030، في حين يختلف الوضع في ألمانيا، فقد بلغ عدد الإصابات 62,435 والمتوفين 541 والمتماثلين للشفاء 9,211.

وإذا تحقق هذا السيناريو لا سمح الله، لا ينفع معه سوى أوسع مشاركة بالمسؤولية واتخاذ القرار (وهذا أمر مطلوب دائمًا لأن احتكار القرار أمر ضارّ جدًا)، وبذل الوقت والمال والجهد من الجميع، فنحن في سفينة واحدة إذا غرقت نغرق جميعًا وإذا نجت ننجو معًا.

إن نجاحنا حتى الآن أمر يدعو إلى الفخر والأمل بالنجاح بمحاصرة الوباء، ولكنه لا يوفر ضمانة أكيدة لعدم وقوع السيناريوهين الثاني والثالث، لذا يجب الاستعداد لجميع الاحتمالات بوضع الخطط واستنفار جهود الجميع بالحد الأقصى ... أكرر الجميع.

وستستمر الحياة بعد وباء كورونا، كما استمرت قبله، ولكن أن تستمر بأقل الأضرار والخسائر أفضل مليون مرة من تقديم أثمان باهظة جدًا.