شبكة قدس الإخبارية

الحلقة الأولى.. في الخط الأول لمواجهة «كورونا»

أخصائيو "البيولوجيا الجزيئية".. العمل في "حقل الخطر"

صورة ارشيفية
يحيى اليعقوبي

غزة- قدس الإخبارية: داخل غرفة "العزل".. بحذر يسحب الأخصائي هاني المقيد العينة في أولى مراحل فحص الحالات المشتبه بإصابتها بفيروس كورونا (كوفيد 19) وأخطرها حيث يكون الفيروس حيَّاً والخطورة عالية يجلس أمام جهاز الفحص، محتميا بملابس طبية بيضاء خاصة تغطيه من أسفل القدم لأعلى الرأس تمنع تسلل الفيروس من أي منفذ، إجراءات السلامة والوقاية هنا عالية، الخدمة المقدمة أشبه بالسير في حقل "الخطر"؛ فأمامه فيروس محتال، لا مجال للخطأ، للاستهتار، لعدم التركيز.

بإجراءات وقاية عالية يتعاملون مع كل عينة بين عشرات الفحوصات على أنها مصابة، وهذا ما يدفعهم لزيادة الانتباه، بقربه تحضر الأخصائية أحلام الطيبي مواد الفحص الخاصة بالفيروس ضمن ظروف معقمة، الأخصائية عهود صرصور تقوم بالمتابعة مع أجهزة الفحص في المرحلة الأخيرة قبل ظهور النتائج.. هكذا يعملون في أحد أكثر الأماكن حساسية في مختبر الفحص المركزي بوزارة الصحة تحديدا بقسم " البيولوجيا الجزيئية"، رصدنا ظروف العمل فيه.

"ممنوع الدخول.. منطقة عدوى" تنبهك هذه اللوحة الملصقة على باب مختبر الفحص المركزي في الطابق الثالث بعيادة الرمال بمدينة غزة، بالمرة الأولى ثم تجد العبارة ذاتها على باب ثان وثالث يقابلك قبل أن تصل إلى غرفة "العزل" بقسم "البيولوجيا الجزيئية".

يخرج فضل بهلول (إداري بوزارة الصحة) من تلك الغرفة وهو يحمل صندوقًا بلاستيكيًا فضيًا يمسكه بيده بواسطة حبل، مرتديا قفازات وكمامة ورداء أبيض، بعد أن أحضر عينة للفحص من فيروس "كورونا"؛ التقط أنفاسه! وبدا في عجلة، توقف للحظة... وبينما هو على تلك الهيئة قال ونظره للأسفل تجاه الصندوق: "إننا نضع عينة الفحص في غلاف نايلون وحاوية بلاستيكية، ثم توضع بالصندوق".

يضع يده على الصندوق الفضي: "هذه ثلاجة تضمن سلامة العينة، كله آمن، لا يوجد خوف لأننا نتبع إجراءات السلامة".

غرفة العزل

اصطحبنا، أخصائي قسم البيولوجيا الجزيئية هاني المقيد إلى داخل غرفة العزل، كان مهندسون يتفقدون الأجهزة، تفاصيل المكان تجعلك تشعر بالرهبة رغمًا عنك، يتوقف عند جهاز يشبه الصندوق على طاولة بداخل أنابيب يعزلها زجاج، وبينما هو على تلك الهيأة قال: "التعامل الخطر يكون هنا بالمرحلة الأولى لأننا نستخرج في هذا الجهاز المادة الجينية من الفيروس، ويكون حيا لكننا نتعامل معه بإجراءات السلامة بتغطية الجسم، وارتداء نظرات، وكمامة "N95" حتى لا يصل الفيروس للجهاز التنفسي".

ينتقل لجهاز أسود اللون حديث المواصفات بداخل الغرفة متصل بحاسوب وشاشة، وبداخله أنابيب خلف عازل زجاجي، يواصل الشرح: "الخطوة الثانية، تتعلق بتحضير مواد الفحص، ثم وضعها على هذا الجهاز (PCR) ومتابعة البيانات الصادرة وإخراج النتائج وهذه العملية تستمر لمدة ست ساعات".

يفرد المقيد ذراعيه، مارا بنظرة وحركة سريعة على كل الأدوات بالغرفة، يقول الأخصائي الذي يعمل هنا منذ 11 عامًا: "الغرفة هنا مجهزة بنظام يمنع بخروج الهواء من الغرفة لباقي أجزاء المختبر، ضمن مواصفات تضمن سلامة العاملين، مزودة بأحدث الأجهزة المعمول بها على مستوى العالم، فيها نظام هوائي لسحب الهواء في حال سكبت أنبوبة فحص على الأرض.

حالة طوارئ

"حالة طوارئ" حقيقية معلنة هنا تراها واضحة أمامك داخل المختبر، ترى حركة الأخصائيين سريعة، يتنقلون من غرفة لأخرى، يتأكدون من الأجهزة، الأوراق، مواد الفحص، لا يوجد وقت فراغ لديهم حتى لاحتساء كأس من القهوة؛ بصعوبة أذن لنا مقابلاتهم، حتى المقابلات تمت وهم يتابعون أعمالهم.

كل الأنظار تتجه إلى قسم "البيولوجيا الجزيئية" داخل المختبر "المركزي"، من داخل غرفة العزل، لا يخفي المقيد: "عندما نؤدي الدور نشعر بالخطر، فالموظف الذي يتعامل مع الفيروس أكثر شخص عرضة للإصابة، في النهاية هذا دورنا وتواجدنا هنا لنؤديه ونتعامل معه كما تعاملنا مع كل الفيروسات السابقة".

بعد ظهور الفيروس بدأ المختبر حالة طوارئ لكافة العاملين، يقول المقيد: "نعمل حتى منتصف الليل، أول أمس داومت من الصباح حتى العاشرة مساءً، نمت عدة ساعات، وعدت للعمل في اليوم التالي الساعة السابعة صباحا، نعمل حاليا 12 ساعة متواصلة".

"أمضينا 16 يومًا في ضغط عمل، نرى أطفالنا قليلا، يخافون علينا لأننا نشعر بالخوف ومن الطبيعي أن يصلهم القلق"، ما قاله هنا يجعلك تتوقف عند حجم دورهم.

في داخل الغرفة المجاورة لغرفة "العزل"، تتنقل أخصائية التحاليل أحلام الطيبي بين الغرف، تتفقد الأجهزة، وبعض الأنابيب، وأوراق وملفات، كانت الساعة الواحدة ظهرا لحظة وصولنا، ساعة الصفر لوصول العينات وبدء الفحص اقتربت؛ الإرهاق رسم خطوطه وترك أثرا على ملامحها.

سبقت ابتسامة فردت وجنتيها صوتها، تحرر كلماتها "جئت للمختبر كمساعدة من مختبر آخر للوزارة، كوني عملت سابقا فيه، نعمل على مدار الساعة، صباحا، بعد الظهر، وفي أي وقت يمكن استدعاؤنا (..) نقضي أحيانا من الصباح حتى العاشرة مساءً في أوقات الطوارئ الحالية، والدفع هنا أننا نحمل أمانة وعملا إنسانيا، فرغم بعدي عن أبنائي وعائلتي لكني أقوم بخدمة وطني والإنسانية جمعاء، فنقدم دورا كبيرا في ذلك".

الصحة لا تعرف الإجازة

أيعرف أطفالك أنك تعملين بفحص "الكورونا"!؟ الضحكة التي أخرجتها هنا، اختصرت الإجابة، لكنها فسرت أكثر: "صحيح؛ يعرفون وأنني معرضة للخطر، دائما يدعون لي: "الله يحميك يا ماما"، لكننا عملنا في الحروب قبل ذلك واعتداءات الاحتلال على غزة، وزارة الصحة الوحيدة التي لا تعرف الإجازات".

يذكرها الكلام بموقف عائلي طريف: "ابني الصغير عبد الرحمن يقول لي: ماما؛ كورونا مش كورونا مش هبعد عنك، لأن أولادي الأربعة أحيانًا يخافون الاقتراب مني بالبيت كوني أعمل هنا".

تدفع أحلام ضريبة عملها بفحص الكورونا، بعلاقاتها الاجتماعية مع آخرين يعتقدون أن هناك خطرًا على حياتهم من ناحيتها، لكنها تشرح لهم أنها تتبع كل إجراءات الوقاية والسلامة".

تفرد كفيها بصوت مسكون بالأسف: "للأسف!.. الآن هذه ضريبة ندفعها حاليا أواجهها في العائلة، ربما هناك من يخافون، بمجرد معرفة أنني أشتغل بفحص فيروس "الكورونا" يعتقدون أن هناك خطرًا على حياتهم من ناحيتي، لكننا نشرح لهم أننا نتبع كل إجراءات الوقاية والسلامة".

أثناء إجابتها تعلو وجهها ابتسامة تغافلها عن التعب الذي يستوطن ملامحها: "صحيح أنك تتعامل بحذر، لكن لا يوجد خوف، نحن نتعامل مع كل عينة على أنها مصابة بفيروس "كورونا"، لذلك نرتدي لباسا كاملا، نعقم المكان".

لأجل خدمة إنسانية تراها كبيرة جدًا؛ تدفع أحلام ضريبة من وقتها، تتفهم خوف الآخرين حتى أبنائها الاقتراب منها، تفتخر بنفسها لأنها جزء من عمل تسلط عليه كل الأضواء حاليا، لا تأبه بساعات الدوام المتأخرة، فـ "لأجل الوطن كل شيء يقدم بسعادة ورضا" كما تقول.

 في غمرة الانشغال لم تستطع أحلام حتى سرقة دقائق من وقتها للذهاب لتهنئة والدتها بيوم الأم، يحط رحال صوتها عند تلك المناسبة: "يومها كنت منشغلة جدًا بفحص عينات وردت إلينا، أرسلت رسالة هاتفية إليها للتهنئة والاعتذار عن زيارتها"، أخرجت هاتفها على عجالة، تحاول البحث على نص الرسالة لكنها تاهت بين عشرات الرسائل التي تريد الاطمئنان عليها من أفراد العائلة، وقالت: "ردّت أمي برسالة أخرى تتمنى أن يحميني الله، تقدر أنني في علم وجهد".

"لدي أربعة أطفال بينهم بنت واحدة؛ هناك ضريبة لكل عمل أفتقدهم فحينما أعود متعبة أجدهم ينتظرونني للحظات، ثم نخلد للنوم، وأستيقظ في الصباح وهم نائمون"، هكذا يمضي أخصائيو التحاليل أوقاتهم، في معركتهم الحالية مع الفيروس، يبذلون جهدًا كبيرًا وعملا مضنيًا لتقديم الخدمة، يواجهون خطر انتقال العدوى.

20 عامًا من العمل

بداخل إحدى غرف المختبر، تنهمك أخصائية التحاليل عهود صرصور، في تحضير أوراق وملفات على مكتبها، فمنذ عشرين عامًا تعمل بغزة، يوميا تأتي لدوامها من منطقة دير البلح وسط قطاع غزة، تشرق عيناها قبل الشمس فجرًا تحضر نفسها وتنطلق إلى المختبر ليبدأ دوامها الساعة السابعة والنصف صباحا في الوضع الطبيعي، لكنها اليوم تضطر للتأخر في جدول "الطوارئ" كحال زميلتها أحلام وبقية الأخصائيين.

بعدما استقبلتنا بوجه طلق، وابتسامة لم تستطع إخفاء آثار الجهد والتعب على وجهها، التنهيدة التي خرجت من حنجرتها ترحل لتلك الأيام المحملة بالمعاناة، تنبش بتفاصيل الذاكرة: "منذ 20 عامًا أعمل هنا، عشت فترات صعبة أيام الاحتلال، كنت أقضي ساعات على الحواجز حتى أصل لعملي أو أعود لبيتي، أحيانا أنزل لشاطئ البحر أسير عدة كيلو مترات كي أتجاوز الحاجز، مرات عدة بتنا ليومين أو ثلاثة على الحواجز خلال العودة، لكن ومع ذلك أحب عملي وأداء واجبي".

عهود هي الأخرى تدفع ضريبة مواجهة "كورونا" في علاقاتها الاجتماعية، لا تخفي ذلك متفهمة الأمر: "الحقيقة أهلي يخافون، خاصة حينما عرفوا ظهور حالات مصابة بالفيروس قمنا بفحصها هنا بالمختبر؛ أسئلة كثيرة طرحوها حول طرق تعاملنا وإجراءات الحماية، لكن لما شاهدوا صوري باللباس الخاص الطبي، شعروا بالاطمئنان (..) أهلي يفتقدونني الآن، لكنهم لا ينامون إلا حينما أصل البيت حتى لو عدت الساعة العاشرة مساءً".

توقفت برهة عن الكلام، سلمت لرئيس القسم بعض الأوراق، نظرت باتجاه غرفة العزل، ثم ألحق صوتها نظرتها: "شعور العمل هنا في الأوقات الحالية مختلف، نشعر أننا نؤدي خدمة ودورًا كبيرًا، وفي ذات الوقت الخوف وارد خاصة أن هناك وفيات تحدث بدول العالم، لكن دورنا حماية الجميع، فنحن نعمل في دائرة مغلقة لو سقطت واحدة سيكون الوضع صعبا على الجميع، سابقا تعاملنا مع فيروسات مثل انفلونزا الطيور، الخنازير، وغيرها، والآن نتعرف على بصمة فيروس كورونا، التي تظهر بالتحاليل".

بينما كان مدير عام الإدارة العامة للخدمات الطبية المساندة بوزارة الصحة، د. أيمن الحلبي منشغلا في تلقي اتصالات، ومتابعة سير العمل، إن" المختبر المركزي يختص بتقديم فحوصات مخبرية نوعية، جزء منها الفحوصات الفيروسية ومنها "الكورونا"، البنية للمختبر على مستوى عال، أجرينا تعديلات إضافية عليه مع بداية الأزمة ليتوافق مع معايير منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بالسلامة، الأجهزة التي يتم الفحص عليها تعمل بكفاءة والطاقم مدرب على مستوى عال".

حسبما يذكر الحلبي، دعم المختبر الطاقم بأخصائي تحاليل طبية، وأن المختبر جاهز للقيام بالدور المطلوب منه، وكذلك العاملين فيه، مشيرا لحاجتهم لنحو ألفي عينة فحص الفيروس للتعامل في مرحلة من المراحل، خاصة أن الكمية الحالية الموجودة تكفي لخمسين عينة.

تبادل خبرات

مدير دائرة المختبرات بوزارة الصحة د. عميد مشتهى يوميًا يزور المختبر للتأكد من سير العمل، يقول: "دائرة المختبرات تشمل أربعة أقسام رئيسية، جزء منها يقدم خدمات بالمستشفيات، ولدينا 37 مختبرا في الرعاية الأولى، ومختبر للصحة العامة لفحص المياه والأطعمة، والخدمة الثالثة المختبر "المركزي".

وأضاف: "الأجهزة لدينا مميزة، نجري فحوصات متقدمة، التقنيات المستخدمة حديثة تضمن جودة النتائج"، مشيرا إلى أن أخصائيَ التحاليل بالمختبر على تواصل دائم مع زملائهم الأخصائيين في رام الله لتبادل الخبرات والزيارات المشتركة، وأن العديد من مختبرات قطاع غزة كمختبر جامعة الأقصى، وكلية العلوم والتكنولوجيا بخان يونس والعديد من المؤسسات الوطنية وضعت إمكانياتها في جزئية الأجهزة تحت تصرف الوزارة.

في الوضع الطبيعي، تبعا لكلام مشتهى، يفوق عدد الفحوصات التي تجريها الوزارة عن 5 مليون فحص سنويا، مردفا: "نتوقع أن تزيد الفحوصات بالمستشفيات في الوضع الحالي، بالتالي سيزيد العبء المترتب على العمل داخل وزارة الصحة".