شبكة قدس الإخبارية

"قبر راحيل"... إرثٌ مسلوب

64
خلود الملاح

بيت لحم- خاص قُدس الإخبارية: اثنا عشر حجرًا تصطف جانبًا في وسط الطريق من القدس إلى بيت لحم، تعلو هذه الحجارة قبة صخرية مسقوفة، شيدت لتكون شاهداً على ضريج زوجة نبي الله يعقوب (عليه السلام) الراحلة "راحيل".

فمن بنى هذا المزار؟ ولماذا وُضع عليه اثنا عشر حجرًا؟ ولأي عهد يعود بناؤه؟ وما علاقة مسجد بلال بن رباح بمقام راحيل؟ وما الحال الذي آل إليه "قبة راحيل" -كما تسمى اليوم-ومسجد بلال بن رباح بالوقت الحاضر؟

بُني هذا الضريح بالمكان الذي ماتت ودفنت فيه "راحيل" بعد أن تعسرت ولادتها بابنها بنيامين، وراحيل هو بالأصل اسم عبري معناه "شاة"، هي زوجة نبي الله يعقوب (عليه السلام) ووالدة كلاً من سيدنا يوسف (عليه السلام) وبنيامين.

 ويعد بنيامين الولد الثاني عشر والأخير لسيدنا يعقوب (عليه السلام) وهو اسم عبري معناه "ابن اليد اليمين" أو "ابن اليُمن". قام سيدنا يعقوب (عليه السلام) بصفّ مجموعة من الحجارة البيضاء المصقولة ذات الشكل المربع، وخصص عددها باثني عشر حجرًا؛ وذلك وفقاً لعدد أبنائه الاثني عشر.

 ولعلّ أول من أشار إلى مكان وفاة راحيل ودفنها هو أسقف قيسارية لارسيبوس، أحد علماء القرن الرابع الميلادي، حيث أشار إلى أنها توفيت وهي في طريقها مع زوجها يعقوب (عليه السلام) إلى الخليل.

التشييد والتغيير

لا يمكن تحديد الفترة التاريخية لتشييد قبر راحيل فهو بناء قديم جدًا، أما ما تلا هذا الإنشاء من تغييرات فيمكن تخمين الفترة التاريخية التي حدثت بها، فقد تم بناء مقام فوق القبر وذلك بالفترة المملوكية حيث ازدهرت فكرة إقامة المقامات على القبور، وحُول ما حول القبر والمقام من أرض إلى مقبرة إسلامية.

 وكان السكان المحليون بتلك الفترة يسمونه "قبر ستنا راحيل"، ثم ما لبث وأن حوّل المقام مع مرور الزمن إلى مصلى أطلق عليه مسجد بلال بن رباح، حيث تذكر الراوية المتداولة أن الصحابي بلال بن رباح (رضي الله عنه) أذّن للصلاة في هذا المكان وهو في طريقه برفقة الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى القدس فاتحاً لها.

أما بالفترة العثمانية فقد شيّد محمد باشا أربعة جدران، وحول الهرم المبني من اثنا عشر حجرًا إلى قبة؛ فاستمد المكان تسميته من هنا "بقبة راحيل".

 وهذه الإضافات كانت سبيلاً في المحافظة على المقام من صروف الزمان، وتقلبات الطقس، بالإضافة إلى حمايته من أي اعتداء كان.

وبحدود القرن التاسع عشر الميلادي غدا القبر على المظهر الحالي له؛ وذلك بعد أن سُمح لموسى مونتيفيوري -وهو رجل ثري ذو أصول يهودية بريطانية -بإضافة غرفتين إلى القبة، وذكرت بعض المصادر أن تبرعه هذا كان مدفوعاً بإيمانه بأن ذلك سيكون سببًا في أن ينجب أولاداً؛ حيث اعتقد أن القبة تساعد النساء على الحمل، وهكذا زار القبر مع زوجته جودييت وتبرعا لبناء الغرفتين!

إلا أن أحوال هذا القبر كانت في تغير دائم، وبدأت الأطماع الصهيونية تتجه إليه منذ أيلول 1926م، حيث حاول اليهود ترميم الموقع والاستيلاء على الأرض المجاورة له وذلك بمساعدة السلطات البريطانية، فقام المجلس الإسلامي الأعلى بالتصدي لأطماعهم، بل وشيد سورًا حول الأرض، وعمل على إجراء الترميمات الشاملة واللازمة للقبر.

المطامع والمواجهات

 وفي العام 1927 م قامت جمعية "هامزراحي" الصهيونية المتواجدة في الأراضي الأمريكية بطلب السيطرة على قبر راحيل، وجعل القبر مزارًا لهم، إلا أن هذه الخطوة لقيت تصديًا من قبل المجلس الإسلامي مجدداً، مما دفع بالقضاء في ذلك الوقت لأن يحكم بملكية المقام وما حوله من أرض للوقف الإسلامي.

وفي عام 1967م، قامت قوات الاحتلال الاسرائيلي ببناء ثكنة عسكرية ثابتة بالقرب من قبة راحيل؛ وذلك بعد احتلالها الكامل للضفة، وفرض سيطرتها عليها، بل وغدا المقام وما يحيط به منطقة عسكرية مغلقة، وبالتالي مُنع الفلسطينيون من الاقتراب من المقام، أو حتى بالصلاة في مسجد بلال بن رباح.

22
 

 الأمر الذي دفع بالفلسطينيين لجعل الموقع هناك نقطة تماس مع الاحتلال مستمدين حجارتهم من حجارة يعقوب الاثنا عشر التي لا تنضب، ومقتبسين تكبيراتهم من حنجرة بلال التي ما زالت تصدح بالمكان عند كل آذان، فأكثروا من الاشتباكات مع قوات الاحتلال هناك، وكانت وما زالت هذه البقعة شاهدة على الكثير من الدماء الطاهرة الزكية التي سالت وما زالت لدحر الرجس عن المكان.

ولم تتوقف التعسفات الإسرائيلية عند هذا الحد بل قامت بتاريخ 21 من شباط عام 2010م، بإدراج قبر راحيل، ضمن التراث القومي اليهودي، ولعل هذا يعتبر تتويجاً لجميع المحاولات الإسرائيلية في الاستيلاء على القبر.

حال مقدساتنا في فلسطين دائماً عرضة للمطامع الصهيونية، والمصاب جلل والأمر بحاجة لوقفة جماهيرية، واستنهاض الهمم للحفاظ على إرثنا من الضياع وتاريخنا من الاندثار، "فلا يضيع حق وراءه مُطالب".

المراجع:

مرمرجي الدومنكي، بلدانية فلسطين، 1987م.

مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين/ الجزء 8/ قسم 2.

مجير الدين العليمي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل/ جزء 2، 1999م.

ذياب مخادمة وموسى الدويك، الاستيطان اليهودي وأثره على مستقبل الشعب الفلسطيني.