شبكة قدس الإخبارية

عامٌ على هبّة باب الرّحمة: انتصار صنعته وحمته الإرادة الشعبيّة

96
براءة درزي

قبل عام، أدّت جماهير القدس صلاة الجمعة في مصلّى باب الرحمة، لأوّل مرة منذ أغلقته شرطة الاحتلال في عام 2003 بزعم تنفيذ قرار صادر عن محكمة الاحتلال، وظلّ المبنى مغلقًا لا يدخله المسلمون حتى شهر شباط/فبراير 2019 عندما وضعت شرطة الاحتلال سلسلة وقفلاً لإغلاق البوابة أعلى الدرج المؤدّي إلى باب الرحمة بعد جلسة عقدها في المبنى مجلس الأوقاف وشؤون المقدّسات الإسلامية في القدس المحتلة بعد موافقة مجلس الوزراء الأردني على إعادة تشكيل المجلس بتركيبة موسّعة، ولم تلبث أن توالت التّطورات بعدما انتشر خبر القفل في الإعلام.

وبعد مرور عام على نصر باب الرحمة، تحتفل جماهير القدس بالنّصر اليوم بعدما استطاعت على مدى العام الماضي التصدي للمحاولات الحثيثة التي بذلتها سلطات الاحتلال لتقويض نتائج الهبّة و"استعادة" المصلّى من أهله، وأفشلت الإرادة الشعبية هذه المحاولات، وأجبرت الاحتلال على الالتزام بالتّراجع الذي فرضته قبل عام.

إغلاق باب الرحمة ويفتح باب المواجهة

في شباط/فبراير 2019، بدأت التّطورات في باب الرحمة تتفاعل بعدما خرج إلى الإعلام خبر قفل وضعته الشرطة على البوابة أعلى الدرج المؤدّي إلى المبنى. فمساء 2019/2/17، اكتشف المصلّون قفلاً على البوابة تبيّن أنّ قوات الاحتلال وضعته على إثر اجتماع مجلس الأوقاف الجديد في المبنى، في 2019/2/14، وأداء صلاة الظّهر فيه.

بدأت التطورات تتلاحق منذ 2019/2/18، فأدّت جماهير القدس صلاة الظهر في منطقة باب الرحمة، وخلع عدد من الشّبان البوابة فيما اشتبك عدد منهم مع قوات الاحتلال، وتحوّلت المنطقة إلى نقطة تجمّع ورباط حرص عدد من أهالي القدس، على أداء الصلاة فيها، ما جعلها ميدان مواجهة مع قوات الاحتلال. وتوّج المشهد في باب الرحمة بدخول جماهير القدس إلى المبنى وأداء صلاة الجمعة فيه يوم 2019/2/22، لأوّل مرة منذ أغلقته شرطة الاحتلال عام 2003.  

تجنب هبة الأسباط

كانت هبة باب الرحمة استحضارًا لنموذج هبّة باب الأسباط في تموز/يوليو 2017 التي أحبطت فيها جماهير القدس قرار سلطات الاحتلال تركيب بوابات إلكترونية عند أبواب المسجد الأقصى بعد العملية التي نفذها ثلاثة شبان من الداخل الفلسطيني المحتل يوم 2017/7/14. وقد عملت سلطات الاحتلال على تجنب تكرار مشهد هبة باب الأسباط فحاولت التّعامل مع هبة باب الرحمة على قاعدة تنفيس الغضب الشعبي واستيعاب الأزمة ريثما تتمكّن من استعادة السّيطرة على زمام الأمور.

وسلكت سلطات الاحتلال القنوات الدّبلوماسية، فتحدّث الإعلام الإسرائيلي عن اتصالات بين دولة الاحتلال والأردن للتّوصل إلى اتفاق يقضي بأن "تسمح إسرائيل بإدخال مواد البناء اللازمة لترميم باب الرّحمة، مقابل التزام الأردن التي تدير الأوقاف الإسلامية في القدس بإغلاق الباب مجددًا وعدم السماح بالصلاة فيه"، لكنّ الأردن نفى أيّ اتفاق على إغلاق المبنى، وقال بيان للخارجية الأردنية، في 2019/3/17، إنّ "مبنى باب الرحمة، جزء أصيل من من المسجد الأقصى المبارك، بمساحته البالغة 144 دونمًا"، وإنّ إدارة أوقاف القدس هي السلطة صاحبة الاختصاص الحصري في إدارة جميع شؤون الأقصى، وفقًا للقانون الدولي.  

ومع فشل المحاولات الدبلوماسية، كثّف الاحتلال اعتداءاته على المصلين في المنطقة الشرقية من الأقصى ولا سيّما باب الرحمة، بهدف منع الصلاة في المكان، وحاولت "منظمات المعبد" الضغط باتجاه إغلاق المكان وطالب بعض نشطاء "المعبد" بالسّماح ببناء كنيس في الأقصى، فيما تقدّمت منظمة "ريجافيم" المتطرفة بالتماس إلى المحكمة بهدف "استعادة" باب الرحمة إلى السيادة الإسرائيلية ومنع "تحويله" إلى مصلّى.

وكان موسم الأعياد العبرية لافتًا لجهة المحاولات التي بذلتها شرطة الاحتلال لإفراغ المنطقة الشرقية من المسلمين لتتيح المجال أمام المستوطنين لتنفيذ جولات "هادئة" في هذا الجزء من الأقصى الذي تنظر إليه "منظمات المعبد" على أنّه نقطة لانطلاق مخطط التقسيم المكاني للمسجد؛ فكان استهداف المصلين فيه بحملات الاعتقال والملاحقة، وطردهم من المنطقة الشّرقية، ومصادرة السّجاد والقواطع الخشبية الفاصلة بين الرجال والنساء وقت الصلاة، والخزائن، علاوة على اقتحام المصلى بالأحذية ليؤكّد الاحتلال أنّه لا يعترف بالمكان على أنّه مصلى. لكن على الرغم من كل المحاولات الإسرائيلية كانت جماهير القدس متمسّكة بالمحافظة على النصر الذي تحقق في هبّة باب الرحمة، ومنع الاحتلال من تحقيق أهدافه.   

 2020: اعتداءات متجددة

تجدّدت عام 2020 الاعتداءات الإسرائيلية على باب الرحمة في محاولة واضحة لاستكمال المسار الذي سلكه الاحتلال في عام 2019، من دون أن ينجح في قطف ثماره. وأظهر تطور الاستهداف أن سلطات الاحتلال معنيّة بتقويض النّصر، لا سيّما مع اقتراب انتخابات "الكنيست" والحاجة إلى تحقيق "إنجاز" في الأقصى يرضي "منظمات المعبد".

وعلى الرغم من الحملة الشرسة التي شنّها الاحتلال على المصلين والمرابطين في مصلّى باب الرحمة وساحته، فإنّ سياسة الاحتلال زادت جماهير القدس إصرارًا على المقاومة والصمود، واستطاع الفلسطينيون تخطّي محاولات الاحتلال منع الفعاليات الجماعية في باب الرحمة، ومنها الإفطار الجماعي للصائمين يوم الخميس. أمّا الاعتداءات الإسرائيلية على المصلّين والموجودين في باب الرحمة فلم تفلح في تحقيق هدفها لجهة منع الوجود الفلسطيني في المصلّى، والمنطقة الشرقية من الأقصى عمومًا، وكان الرد على هذه الاعتداءات واضحًا عبر الوجود الكثيف في المسجد لأداء صلاتي المغرب والعشاء في باب الرحمة، والمشاركة في حملة الفجر العظيم. 

وعلى المستوى القانوني، صدر عن المحكمة العليا للاحتلال، في 2020/1/12، قرار برفض التماس مقدّم من منظمة "ريجافيم" المتطرفة لمنع الوقف الأردني من "امتلاك" باب الرحمة، ووقف تحويله إلى مسجد يتبع للمسجد الأقصى. وجاء رد المحكمة بعد عام من المعركة القانونية التي قادتها المنظمة، مدعيةً أن سيطرة الوقف الإسلامي الأردني على المكان تعني السّيطرة على "مناطق أثرية تتعلق باليهود، وأنّ مثل هذه الخطوة تشكل انتهاكًا للوضع الراهن وحقوق اليهود".

باب الرحمة بقلب الفجر العظيم

في 2020/1/10 انضمّ الأقصى إلى حملة الفجر العظيم التي كانت بدأت في المسجد الإبراهيمي بالخليل في تشرين أول/أكتوبر 2019، وشهدت الجمعة الأولى مشاركة حاشدة من جماهير القدس على الرغم من البرد والمطر، وبعد الصلاة جابت المسجد مسيرة انطلقت من باب الرحمة لتؤكّد مركزية المصلّى بالنسبة إلى حملة الفجر العظيم والمقاومة التي تخوضها جماهير القدس ضدّ حرب التهويد التي يشنها الاحتلال على الأقصى لوضع المسجد تحت السيادة الإسرائيلية مع ما تعنيه من فرض أجندة "منظمات المعبد" وتنفيذها من التقسيم إلى أداء الصلوات والطقوس التلمودية في المسجد.

أقلقت المشاركة الكبيرة سلطات الاحتلال التي حاولت إحباط الحملة، وشنّت حملة شعواء طالت جماهير القدس عبر الاعتقال والملاحقة والإبعاد، وطالت قرارات الإبعاد شخصيات ورموزًا دينية ينظر لها الاحتلال على كجهة تحرض على تعزيز الوجود الإسلامي في الأقصى ومواجهة اقتحامات المستوطنين، ومن بين الرّموز المستهدفة خطيب الأقصى الشيخ عكرمة صبري الذي استدعته الشرطة إلى التحقيق، وسلمته، في 2020/1/19، قرارًا بإبعاده عن المسجد أسبوعًا، وذلك على خلفية مواقفه من الأقصى ومن باب الرحمة، والمشاركة الحاشدة لجماهير القدس في صلاة الفجر العظيم، ثمّ عادت الشرطة ومدّدت الإبعاد إلى أربعة أشهر.

لكن قرارات الاحتلال لم تنجح في إفشال حملة الفجر العظيم التي انضمّت إليها مساجد الضفة وغزة، والأردن والكويت ولبنان وتركيا وغيرها، في التفاف شعبي واضح حول الأقصى، أثمر اليوم احتفالًا بالنصر الذي تحقّق قبل عام.

من فرعون وموسى إلى الاحتلال وقفل باب الرحمة

يستعيد الفلسطينيون هبّة باب الرحمة وما تلاها من تطورات مستذكرين في موازاتها قصة فرعون والنبي موسى عليه السلام. فقد أمر فرعون مصر بقتل كلّ المواليد الذكور بعدما أخبره أحد كهنته أنّ واحدًا منهم سيكبر ويقوّض ملكه، لكنّه تخلّى عن خوفه وحذره بعدما استبعد أن يكون موسى هو ذاته النبي الذي سيقوّض حكمه؛ وتربّى موسى في كنف فرعون حتى إذا بلغ أشدّه تبيّن أنّه هو من سينهي حكمه.

وفي الأقصى وضعت شرطة الاحتلال قفلاً على باب الرحمة بعدما استفزّتها جولة مجلس الأوقاف في المبنى وصلاتهم فيه، لكن على ما يبدو فإنّ سلطات الاحتلال، أساءت تقدير الأمور، تمامًا مثل فرعون عندما ظنّ أنّ الخطر لا يمكن أن يأتي من طفل يتعهدّه ويربّيه. وهكذا، ظنّت الشرطة أنّ قرارها إغلاق باب الرحمة الذي امتدّ 16 عامًا سيحميه قفل وسلسلة، وأنّها دفعت أهالي القدس على الرّضوخ لقراراتها، لكن ما حصل على أرض الواقع إشارة إلى أنّ قفل باب الرحمة كان "موسى" الذي قوّض قرار الاحتلال بإغلاق المبنى ومنع الصلاة فيه؛ وتبقى العبرة في المحافظة على النّصر وتعزيزه في وجه عنجهيّة الاحتلال ومحاولاته المستمرّة لتهويد المسجد الأقصى.