شبكة قدس الإخبارية

شباط الغدّار.. شهر المواسم والأمطار

881
حمزة العقرباوي

لشهر شباط مكانة ليست لغيره، وحضورًا لم ينله شهر سُواه، فهو من شهور فصل الشتاء وفيه البرد والمطر، ومعه تهب رائحة الصيف وتحمى شمسه، وهو على قِصَرِ أيامه وقلّة عددها مُقارنة ببقية الشهور، الأكثر حضوراً في المواقيت والأمثال والأساطير وما يتصل بالأرض والفلاحة. وفيه موسم الشبط والسعود الأربعة والجمرات الثلاث والمستقرضات وأيام العجوز.

شباط هو الشهر الثاني من شهور السنة الشمسية، ويأتي بعد كانون الثاني، ويليه آذار، ويقابله (فبراير) من شهور السنة الميلادية، وعدد أيامه 28 يوماً. وزعموا بأن أيامه كانت في الأصل ٢٩ يوماً. قبل أن يسرق الامبراطور الروماني أغسطس قيصر، يومًا من أيامه، ليضعه في الشهر الذي يحمل اسمه. وذلك رُبما انتقاماً من شهر شباط ومن مزاجه النكدي، وربما طمعاً في يومٍ يضاف للشهر الذي يُخلد اسمه، وربما فعل ذلك لضبط التقويم الذي رتّبه أو رتّبه الرومان بشكله الذي نعرفه.

 وكلمة شبَاط (إشباط) من أصل فصيح نجدها في اللغة العربية، وكذا في اللغة السريانية، وفي الكلدانية يُسمى بشهر شباتو وهو عندهم إله الرعد والزوابع الموصوف بالشدة، ونجده في اللغة الآرامية "شبوت" وتعني الصوت أو الصولجان، وشباط في العربية من جذر شبط، بمعنى الضرب والجلد والسَّوط، ولذا قالوا عن هبوب الريح الشديد شبط الريح، كأنها صوت الجَلدِ السريع. وذهب بعضهم للقول بأن "شبط" من غَرْس، زَرْع، وهو أحد معانيها عند العرب.

وكلا المعنين مُرتبط بهذا الشهر، حيث هبوب الريح وشدته، وحيث الزرع والغرس الذي يكون موسمه في شباط. ولا يزال البعض يُسمي المواسم والمواقيت التي تأتي في شهر شباط باسم "الشبط". ومنها تزواج السنانير والقطط والاطيار، وفي ذلك قالت العرب: "في أول شباط تهيج السنانير والسباع، وفي آخره تتزواج الأطيار."

  ولا يمكن لنا أن ندرك أهمية شهر شباط ومدى حضوره في موروثنا، من غير أن نعيد قراءة موقعه بين الشهور وحركة الافلاك والنجوم في ميقاته موعده السنوي، ذلك أن ترتيبه واسمه وطوالعه ونجومه بنت مُعتقدنا فيه وتصورنا عنه.

 خميسنية الشتاء

ينقسم فصل الشتاء الي قسمين، الأول: أربعينة (مربعانية) والثاني: خميسنية، ويبدأ القسم الثاني من أو شباط ويستمر لخمسين يوماً، حتى 22 آذار، وتنقسم الخميسنية الى أربعة أقسام مُتساوية تعرف بالسعود الأربعة، وهي: سعد ذبح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الخبايا، وميقات كل سَعدٍ منها إثنا عشر يوماً ونصف، وللسعود قصتها وميقاتها ومناخها. وهي فترة مطيرة فيها من المطر والثلوج ما لا يُستهان به، وبناءًعلى مطرها يُمكن قياس خصاب السنة وخيرها.

وقد اختلف في أصل تسميتها بالسعود، فقيل هي نجوم بالسماء وقيل نسبة لرجل اسمه سعد تباينت قصته وتعددت الروايات حولها.  وفي شهر شباط يكون سعد ذبح ثم سعد بلع والقسم الأول من سعد السعود.

موسم الشبط

 ووفقًا للفلكيين العرب، فإن نجمين يظهران في السماء في شهر شباط هما: النعايم والبلدة، ويظهران بين 1-26 من الشهر. وهما ميقاتان مُهمان للزراعة، وبهما نعرف البرد وأفول الشتاء وقرب الصيف، وظهورهما وأفولهما يعرف باسم "موسم الشبط" نسبة لشهر شباط.

 يظهر نجم النعايم في أول شباط، ويستمر لمدّة ثلاثة عشر يومًا، وفيه تزيد قسوة البرد خاصّةً في ساعات الصّباح الباكر، ويتميّز بهبوب مفاجئ للرّياح دون سابق إنذار أو علامات، وفي منتصف ميقاته تتكاثر السّحب الماطرة، وفي نوء النّعايم لا يُنصح بالزّراعة بسبب برودته وتشكّل الصّقيع الذي يضر ويتلف المزروعات، وهو ما يتطابق مع سعد ذبح الذي يتصف بالمطر والبرد الشديد.

أمّا في النّجم أو النّوء الثّاني من الشّبط وهو: البلدة ويستمر لـ13 يوم أيضاً، ويكون الجو فيه باردًا ورطبًا، وبداية هذا النّوء يُنذر ببدء انحسار البرد تدريجيًّا، وتبدأ درجات الحرارة بالارتفاع التدريجي، وهو الوقت الذي يُنصح فيه المزارعون بتسميد الأرض، وحراثتها، وزراعتها، وفيه وقته يكون سعد بلع من السعود الأربعة.

مبكية الحُصيني

"إمبكية لحصيني" يُسمي الناس أيام شباط الأولى شديدة البرد بأيام "إمبكية لحصيني"، أي الأيام التي تُبكي الثعلب المعروف باسم "الحصيني"، والسبب في أنها تُبكيه وتوجعه، أن الثعلب يحفر جحره ويضع باب الجحر ناحية الشرق من أجل تدفئة الشمس لهذا الجحر في فترة الشروق، لكن عندما يأتي الهواء البارد القادم من الشرق ويهب في موسم الشبط إلى داخل الجحر فإن الحصني يبكي من شدة البرد.

 المستقرضات

المستقرضات أو أيام العجوز وهي سبعة أيام شديدة البرد والمطر في الغالب، ولذا يقولون: "في المستقرضات عند جارك لا تبات". وعادة ما يسبق هذه الفترة ارتفاعٌ في درجة الحرارة بشكل ملحوظ، حتى يظن بعض الناس أن البرد قد انصرف، فيُقال: "لا تقول خلصت الشتوية حتى تخلص المستقرضات المَنكية"، "إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمُستقرضات".

وقد سُميت بـ"أيام العجوز" لأنها في جميع قصصها الخرافية تدور حول حكاية عجوزٍ كبيرةٍ في السن، استهانت بمطر شهر شباط وبرده، "ومن برد شباط بتتلفع العجايز في البساط". وقيل لأنها تأتي في عجز الشتاء، وفي اللغة: آخر كل شيء هو عجزه.

أما تسميتها بالمستقرضات فقد جاءت لأن شهر شباط استقرض عدة أيامٍ من شهر آذار، "مِثل شباط بعير وبستعير وبيضل ناقص". وقولهم، "مستقرضات الروم"، فالروم هنا مقصودٌ بها التقويم الغربي. "ما فيه طرش يقوم، ولا مركب يعوم، إلا بعد مستقرضات الروم"، "ما في قيامة بتقوم، إلا بعد مستقرضات الروم".

ولعل القصة الأشهر هي حكاية العجوز التي فرحت بانتهاء شباط دون أن تتأذى منه، وراحت تُعَيّره وتسبُّه، وقد حفظت لنا الذاكرة الشعبية عشرات الأمثال عن ذلك، منها: "أجا شباط وراح شباط وحطينا بظهره المخباط"، والمخباط: قطعة خشبية كانت تستخدم لتنظيف الصوف، فسمع شباط هذا الكلام فغضب وذهب إلى ابن عمه آذار يطلب عونه للانتقام من العجوز قائلاً: "آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاثة مني تا نخلي العجوز تولي" وهكذا استقرض شباط أربعة أيام من آذار للانتقام من العجوز.

الجمرات الثلاث

في شهر شباط وحيث فصل الشتاء لا يزال قائمًا تأتي ٣ علامات لاقتراب فصل الصيف وتسمى (جمرات الصيف(، وهذه الجمار الثلاث هي: (جمرة الهوا وجمرة الماء وجمرة الأرض)، والمثل يقول (شباط ريحة الصيف فيه(.

والجمرات الثلاث قيل بأنها: حشرة تخرج من الارض عليها بيت مثل العنكبوت، وقيل (دودة) تظهر في (الرجوم والسناسل) لها اشعاع مُضيء، وقالوا نجوم بالسماء هي ميقات للناس. وقالوا هي من أساطير وحكايات العرب القديمة .

ومعنى سقوط الجمرات مرتبط بالدفء في الربيع، فسقوط الجمرة الأولى في 7 شباط كناية عن بداية انتهاء برد الشتاء القارس، أمّا سقوط الجمرة الثانية في 14 شباط كناية عن بدء الشعور بدفء الربيع، وأما سقوط الجمرة الثالثة في 21 شباط فكناية عن الشعور بحرارة الشمس.

شباط في الامثال الشعبية

في جعبة المورث الشعبي عشرات الأمثال التي تختص بشهر شباط، وقد طفت المراجع المدونة حول المثل الشعبي في فلسطين فأخرجت منها جملة لا بأس بها حول هذا الشهر، منها:

"شباط الخباط مرة بيشبطها ومرة بيخبطها، وريحة الصيف فيه"، ومثله: "شباط شبطنا وربطنا وروايح الصيف أجتنا"، "إشباط إن شبط وإن لبط ريحة الصيف فيه" وهذه الامثال كناية عن قرب الصيف في شهر شباط. ومع ذلك هو شهر المطر كما يقول المثل: "الصيت للمربعانية والفعل لشباط".

-"راح شباط الخبّاط لا أخذ مني عنزة ولا رباط" ومثله: "راح شباط وضربناه بالمخباط، وبروح آذار وبنضربه بالمقحار"، "راح شباط الغدار، وإجا آذار الهدار".

-  "امشي على غيم كوانين ولا تمشي على غيم شباط"، بسبب الاختلاف في حالة الطقس خلال شباط، فشهر كانون أكثر ثباتاً واستقرار في حالة الطقس مقارنة به ولذا قيل: "راح العاقل كانون وأجانا شباط المجنون". ولأجل ذلك يقول المثل على لسان الناس: "قالوا لشباط ليش ما بتجي بتموز؟ قالهم: كل شيء بوقتو حلو"، ذلك ان تموز حار جداً ولا بأس من غيوم ومطر تخفف منه.

-"مثل شباط ما على كلامه رباط"، يُطلق هذا المثل على الأشخاص الذين يغيرون آرائهم غالبية الوقت. ومثله المثل: "الزلام مثل شباط ما على كلامهم رباط" وبهذا المثل جرى تشبيه الرجال بتقلبات وغدر شباط.

- "سرحنا في شباط على زراعة العنبات"؛ في هذا الشهر يبدأ المزارعون بزراعة الاشجار ومنها العنب، وفي مثل شبيه يأتي التحذير خوفاً من تأخر الزراعة "بين شباط وآذار تأخرت كثير يا زَرّاع الأشجار".

- "شمس شباط بتعلم عالبلاط" كناية عن قوة الشمس، وكأنها تترك أثرها على الأرض. لكنها على قوتها غير مُستقرة ولذا تقول العجوز في المثل: "شمس شباط لكنتي، وشمس أذار لبنتي، وشمس نيسان إلي ولشيبتي"، ومع ذلك فالمثل يعتبر طلوع الشمس نعمة: "شمس شباط وغيمة آذار من نعايم رينا لكبار"، حيث تبعث الحياة شمس شباط في الناس والثمار والاشجار، وتأتي غيوم آذار للتخفيف من شدة حرارة الشمس، ومن شدّة شمس شباط: "في شباط بعرق الأباط".

- "من برد شباط بتتلفع العجايز في البساط"، ذلك أن برد شباط إذا اشتد لا يرحم، ومثله المثل: "أول عشرة من شباط لف العجوز بالبساط"، وعن برد شباط أيضاً قيل: "برد شباط بيمنع الجراد"، وهو من جملة اعتقاد الناس بأهمية البرد في هذا الشهر حيث يقتل الجراد ويمنعه من أكل المحصولات.

وهناك مثل يقول: "ياحسرة من فارق أولاده بين شباط وميلاده، يحط ع ظهره لبادة"، بسبب البرد الذي يكون بين وقت الميلاد وشهر شباط. والمثل القائل: "قلنا شباط أيامو سعود، طلع شباط سلاّخ الجلود" ذلك أن في شباط أيام السعود (سعد ذبح وسعد بلع وسعد السعود" لكن برده يسلخ الجلد لشدته.

- "لا تقول شباط راح، شباط نايم بالمراح" وهو يأتي تحذيراً من المطر والبرد الذي قد يأتي بآخر شباط. وهو مطر قد يجر العز المربوط كما يقول المثل: "شباط جر العنزة بالرباط".

شباط في الأساطير والحكايات

تتداخل الموروثات والمعتقدات وتتشابك في المجتمعات الغنية كمجتمعنا العربي، وتحضر القصة والخرافة في السرد اليومي، لتحاول تبيين الأمور وتوضيحها وجعلها ظمن تصور مفهوم ومحسوس.

مما نعرفه بحسب الميثولوجيا والأساطير في جزيرة العرب فإن (شباط) وشبط البرد ابن المربعانية، ويروى بحسب تلك الأساطير أن المربعانية عندما أوشكت على الانتهاء أوصت ولدها الشقي شباط بقولها: "أنا طلعت ما ضريت، عليك باللي أكله دويف (أكله قديمة خفيفة) ووقوده ليف (لحاء النخل) وما تقرب على اللي أكله تمر ووقوده سمر (نوع من أنواع الحطب الجيد). فهو تحذير ليكون طعامنا جيداً في شباط وأن نهتم بالدفء واللباس الجيد، وألا نستهين بهذا الجو... فشباط مُتقلب المزاج والأجواء وفيه البرد جدي لا مزاح معه.

ويزعم الناس في بلاد الشام أن هُناك صلة بين المربعانية ولسعود الأربعة، ذلك أن سعد ذبح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الخبايا هم أخوال المربعانية الأشداء، ولذا تقول لنا المربعانية في أيامها الأخيرة: "إذا ما عجبكم حالي! ببعث لكم السعود خوالي".

وهناك الكثير مما قد نحكيه عن شباط وحضوره وأمثاله وحكاياته وقول الناس عنه، وعن مطره وبرده وشمسه وغيمه والزرع فيه والاشجار.