شبكة قدس الإخبارية

السلطة الفلسطينية الفاسدة و صفقة القرن 

thumb
خالد بركات

ان الفسادُ الأكبر في الساحة الفلسطينيّة، ونبعُ كلّ فساد إداريّ وأخلاقيّ وماليّ، هو الفسادُ السياسيّ، الذي يبدأ من قمّة الهرم في مؤسّسات منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة هبوطاً الى كافة المؤسسات الأمنية والاقتصادية والحكومية . ولم يولد غولُ الفساد السياسيّ في المؤسّسة الفلسطينيّة إلّا كنبتةٍ صغيرةٍ سامةٍ كبرتْ مع الوقت في فضاءٍ ملوثٍ يكره النقدَ الصريحَ ومقولاتِ غسّان كنفاني وناجي العلي فاستأنس السياسيُّ الفلسطينيُّ الفاسدُ بمثقفٍ مأجورٍ على شاكلته احترفَ المديحَ والدجلَ السياسيّ ( التسحيج ) فأسّسا معاً سلطةً تماهت مع النظام العربيّ الرسميّ ، فجاءت نسخة منحطة وطبق الأصل عن النظام العربي الرجعي.

هذا النهج الفلسطيني الفاسد لم يجرِ استئصالُه ومواجهتُه مبكّراً على قاعدة المحاسبة والتغيير والاصلاح ، كما دعا إلى ذلك المثقفُ الحرّ الدكتور أنيس صايغ، فتحوّلتْ تلك النبتةُ إلى شجرةٍ سامةٍ طردت المثقفَ الثوريَّ وهمّشتْه، بل واغتالته أحياناً، وصار في مقدورها أن تشرّع الأبوابَ واسعةً أمام أشباه الكتبة المثقفين والمأجورين.

يدّعي السيد محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية أن " فلسطين خالية من الفساد " كما قال في خطابه الأخير في الامم المتحدة بنيويورك ، والحقيقة انه منذ تأسيس السلطة الفلسطينيّة، وسوسُ الفساد ينخر جسدَها، حتى أدمنتْه وأدمنها، صار الفسادُ الفلسطينيُّ الرسميُّ هو المؤسّسةَ نفسها. وهكذا انتقلنا من إدارةٍ فاسدة في م ت ف إلى إدارةٍ للفساد في السلطة والمنظمة . غير أنّ الأمرَ لم يحدثْ دفعةً واحدةً، إنّما جاء تدريجاً؛ وكان من أهمّ شروطه: مصادرة دور الشتات والتدميرُ المنهجيّ للرقابة الشعبيّة الفلسطينيّة، وللاتحادات النقابيّة، ولكلّ مرتكزات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، واستبدالها جميعها بوزاراتٍ هلامية بلا سيادة ومنظماتٍ مُمَوّلةٍ أجنبيّاً، أزاحت الحركةَ الشعبيّةَ عن موقع التأثير في القرار السياسيّ وجلستْ مكانَها.

وهكذا وصلنا اليوم ايضا إلى مجموعة من الأفراد المتنفّذين ـ لا يزيد عددُهم على 100 شخص- يقرّرون مصيرَ قضيةٍ عربية كبرى وبالنيابة عن الشعب الفلسطينيّ كلّه ، ان السلطة الفلسطينية هي إدارة سياسية للراسمال المحلي وكبار التجار من دعاة السلام الاقتصادي مع العدو الصهيوني .!

وقيل قديماً إنّ «السلطة المُطْلقة مَفْسدةٌ مُطْلقة».

لقد وُلدت السلطة الفلسطينيّة في حضن الشراكة الاقتصاديّة والأمنيّة مع العدوّ الصهيونيّ، وبرعايةٍ أميركيّة ــ أوروبيّة ــ نفطيّة، فجاءت فاسدةً سلفاً؛ بل إنّ «اتفاق أوسلو» الموقّع بين الكيان الغاصب ومنظّمة التحرير في 13 سبتمبر 1993 لم يكن سبباً في ولادة نهج الفساد والخراب في «الثورة» و»المنظمة» وإنّما نتيجة طبيعية له ، ومن الطبيعي ان نصل اليوم الى سلطة عاجزة ومتواطئة نرفض صفقة القرن لفظيا فيما تواصل جريمتها اليومية في التعاون الامني مع العدو..

لقد دشّنت السلطةُ الفلسطينيّة أفولَ حركة فتح التي تفككت ، وأفولَ المرحلة العرفاتيّة في الساحة الفلسطينيّة؛ كما دشّنت اغتيالَ الانتفاضة الشعبيّة الفلسطينيّة (الأولى) وتبديدَ إنجازاتِها الكبرى، فاتحةً الطريقَ أمام مرحلةٍ جديدةٍ؛ أهمُّ سماتها: الارتهانُ الكاملُ للمال الأجنبيّ، وتفشّي المؤسّسات «غير الحكوميّة»، وإعادةُ إنتاج مفاهيم وطنية بديهية وتدمير الثوابت الوطنيّة الفلسطينيّة بعد تفريغها من جوهرها وفق صيغٍ هلاميةٍ، فضلاً عن تعريض حقّ العودة ــ جوهرِ القضيّة ــ لخطر الشطب والتبديد.

.

بدأ الفسادُ الفلسطينيّ الرسميّ مذ نَصّب بعضُ «القادة» أنفسَهم أوصياءَ على الشعب الفلسطينيّ، مُستندين إلى البترودولار من جهة، وإلى شعارهم المقدّس «منظّمة التحرير هي الممثّل الشرعيّ والوحيد للشعب الفلسطينيّ» من جهةٍ أخرى، متناسين ــ عن قصد ــ أنّ «للممثل الشرعيّ والوحيد» مرجعيةً أعلى منه وأكبر، هي الشعبُ الفلسطينيُّ نفسُه. الشعب هو مرجعية المنظمة وليس العكس. والحال أنّ إقصاءَ الجماهير، ورسمَ حدود «مصلحتِها الوطنيّة» من دون العودة إلى مؤسّسات الشعب الفلسطينيّ، كانا جوهرَ النهج الكارثيّ الذي أسّسه ياسر عرفات بعد عام 1974. هذا الطريق مهّد بدوره لولادة مدرسةٍ فاسدةٍ جرفتْ معها الجميعَ إلى خياراتٍ سياسيّةٍ خاسرة.

تسلّطتْ حركةُ فتح على مؤسّسات الثورة والمنظّمة ــ من المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، إلى المجلس المركزيّ، مروراً بالبعثات والسفارات، والمؤسّسات الاقتصاديّة، وانتهاءً بالاتحادات الشعبيّة. فتدخّلتْ في تفاصيل عملها جميعها، وصولاً إلى قرارات الاتحاد العامّ لطلبة فلسطين وانتخاباته، محتكرةً توزيعَ المنح الدراسيّة على أساس الولاء القطيعيّ. وإلى جانب الماليّة المُعلنة (الصندوق القوميّ الفلسطينيّ)، كان ثمّة جهازٌ ماليّ خاصّ لا يَعرف عنه الشعبُ شيئاً. لقد هيمنتْ حركة فتح على كلّ شيء تقريباً، إلى درجةٍ بات يصعبُ معها التفريقُ بين الحركة والمنظّمة، ولاحقاً بين الحركة والسلطة، لأنّ تيّار الهيمنة «استنسخ نفسَه» فأنتج تماهياً مستمرّاً بين هذه «الأطراف الثلاثة»!

وبسبب الفساد تشظّت حركة فتح إلى حركات صغيرة وتياراتٍ وزعاماتٍ وخياراتٍ متناقضة. هناك آلافُ المناضلين الفتحاويين الذين وقفوا عاجزين أمام حركتهم وهي تتداعى وتتصدّع بعدما أصبح التغييرُ فيها مستحيلاً؛ فلا قرارَ لهم، وعزف مئاتٌ منهم عن النضال، في حين تواطأ آخرون مع «الأمر الواقع». وبدلاً من حماية المصالح العليا للشعب، وتغليبِ مبدأ الشراكة الوطنيّة، وتعزيزِ الوحدة الوطنيّة، ذهبتْ قيادةُ فتح والمنظّمة إلى المزيد من الوحل والتيه، حتى وصلت الى الاستنقاع الكامل في وحل «التنسيق الأمنيّ» مع العدوّ الصهيونيّ ــ وهذا تعبيرٌ مخففٌ عن الخيانة الوطنيّة الكبرى بحسب القانون الثوريّ لمنظمة التحرير.وعليه، صار الفاسدُ الفلسطينيُّ الرسميّ يبرّر كلَّ جرائمه السياسيّة، بما في ذلك طعنُ المقاومة في ظهرها، ويعتبر ذلك كلّه مجرّدَ «وجهة نظر».

على أنّ هذا الواقع الكارثيّ لم يطل حركة فتح وحدها، بل طال أيضاً كلّ قوى العمل الوطنيّ الفلسطينيّ، وخصوصاً «المعارضة اليساريّة» التي تواطأتْ أحياناً مع مؤسّسة الفساد أو وقفتْ عاجزةً أمامها. ان معظم الفصائل الفلسطينية ، ان لم يكن كلها ، موزعة قيادتها بين عاجز ومتواطيء وتابع . من هنا لا بد من دور اكبر لقواعد وانصار المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية في ان ترفع صوتها عاليا ضد مشروع التصفية وضد الفساد في آن واحد. ومن اجل فرض الوحدة الميدانية والشعبية في الميدان . !

لقد بات الفسادُ السياسيّ الفلسطينيّ أحدَ أهمّ أسلحة العدوّ الصهيونيّ في حربه ضدّ شعبنا، وحجرَ العثرة الأكبر أمام تحقيق الوحدة الوطنيّة ذاتِها. وإنّ القضاء عليه يشترط اسقاط نهج السلطة الفاسدة أولا ، وإعادةَ بناء المؤسّسة السياسيّة الفلسطينيّة على قواعدَ ثوريةٍ وديموقراطيةٍ جديدة، من القاعدة إلى القمّة. بيْد أنّ محاربته اليوم تبقى مسؤوليةً وطنيةً، فرديةً وجماعيةً، ومهمةً نضاليةً بامتياز. .