شبكة قدس الإخبارية

دير مار سابا... "مكاناً قصياً"

688
خلود الملاح

بيت لحم- خاص قدس الإخبارية: عبر هضابٍ شبه صحراوية، وحرارة مرتفعة معظم أيام السنة، ونباتات شحيحة، قليلاً ما تلمحها، يمتثل الدير الأجمل في المنطقة، دير "مار سابا" في أعماق وادٍ صخري جاف يطلق عليه اسم وادي قدرون معلقاً على الجوانب شبه العمودية لهذا الوادي، ولنا أن نعتبره من أجمل الأديرة الواقعة بالمناطق الصحراوية حيث أن بيئة الصحراء القاسية لم تستنزف جماليته.

بالنسبة للوقت الحالي -إذا كنت تَهُمُ بزيارته -فهو يقع إلى الشرق من بيت لحم ويبعد عن قلب المدينة حوالي 20 كيلومترًا، قريبًا من صحراء القدس، ولهذا فإن حرارة المكان هناك شديدة صيفًا إلى الحد الذي يدفع الزوار لأخذ الحيطة!

يعود إنشاؤه إلى حوالي 484م على يد القديس سابا (وتقول إحدى المصادر إن عامودًا من نور وصل بين السماء والأرض تراءى للقديس سابا في إحدى الليالي ليكون مرشدًا له لموقع بناء الدير)، ثم أضيفت كنيسة لهذا الدير في عام 502م.

وتوالت الإضافات في عهد جوستنيان حيث أضيفت بعض العمارات والأبنية، ويشاهد الرائي من بعيد مجموعة من الأبنية المتراصة على شكل مستطيلات مما يوحي بتداخل هذه الأبنية بعضها ببعض بطريقة غريبة، جميلة وجذابة.

ما يربط هذه الأبنية بعضها ببعض هي السلالم والممرات العديدة والتي لا يمكن حصرها، ثم تنفصل المباني عن بعضها بأسطحها وشرفاتها، ولعل من أثمن محتويات الدير هو تلك المكتبة الكبيرة والقديمة والتي تحوي ثلاثة آلاف مجلد، ومخطوطات ثمينة، وأقدم الترجمات العربية للكتاب المقدس.

ولا بد لنا هنا أن نلقي الضوء حول حياة القديس سابا مؤسس هذا الدير، فقد ولد عام 439م في قيصرية كبادوكية (منطقة في وسط تركيا حالياً)، وكانت وفاته عن عمر ناهز الـ94، عاش طفولته في دير التجأ إليه وهو بالثامنة، ثم انتقل بعمر الثامنة عشر إلى الأرض المقدسة، وتنسك بالصحراء لفترة طويلة، ثم اعتزل في كهف منيع لمدة خمس سنوات وقد كان عمره آنذاك 43عامًا وذلك قبالة الدير الحالي.

ثم بدأت أعداد النساك المحاطة به تزداد حتى وصل عددهم لسبعين ناسكًا من نساك البراري الذين يعيشون في المغر المجاورة، وعندما لاحظ أن العدد في ازدياد قام ببناء جزء من الدير، واستمر النساك والرهبان باللجوء إليه حتى أصبح عدد المحيطين به وهو بعمر الـ63 حوالي 5000 راهب، إلا أن عدد الرهبان حالياً لا يزيد عن خمسة عشر راهبًا.

وعند وفاته نقل جثمانه إلى القسطنطينة (اسطنبول حالياً) حيث كانت عاصمة البيزنطيين في ذلك الوقت، ثم نقل رفاته إلى البندقية في القرن الثالث عشر على يد الصليبيين، ثم تم نقله إلى المكان حيث مهوى قلبه، وصندوق سره في الدير الذي سمي باسمه عام 1965م، وما زال يرقد حاليًا في مكان مظلم في الدير يمكن رؤيته من خلف الزجاج.

ولقد لقي هذا الدير اهتماماً من قبل المسلمين –أيضًا- وتحديدًا في الفترة العثمانية، ولم يكن هذا الاهتمام بتخصيص الأموال لإعماره وترميمه، إنما بتوفير حرية الإعمار والتجديد للقائمين عليه، ومثال ذلك إصدار السلطان سليمان فرمانًا في ربيع الأول سنة 955هـ/1548م بترميم الأديرة ومنها دير مار سابا؛ حيث اعتاد البدو الاعتداء على المشتغلين فيه، فأتى بالفرمان أمرًا بحراستهم والسماح لهم بترميم الدير وإصلاحه دون إضافات على ما كان عليه منذ القدم.

في مثل هذه الظروف القاسية لك أن تتخيل حياة الرهبان هناك، حيث يعيشون حياة غير متطورة، ولعل الهدف من نمط الحياة هذا واضحًا، وذلك حتى ينشغلوا بالعبادة لا بشيء آخر، فهم لا يستخدمون الأدوات الحديثة كالتي تعمل بالكهرباء إلا في حالات قليلة كالصيانة، بل إنهم يعيشون على أضواء شموع زيت الزيتون بدلاً من اللمبات الكهربائية، ودون وسائل اتصال حديثة أو انترنت، ومائدة الطعام تقدم مرة واحدة فقط، باستثناء أيام السبت والأحد والأعياد الكبيرة حيث يقدم الطعام مرتين، كما أنه لا تنمو بالدير إلا أشجار الزيتون والليمون وذلك حتى لا ينشغل الرهبان بأنواع الأطعمة والحقول، أما بالنسبة للمياه فلا خطوط ماء متوفرة هناك، ويعتمدوا على مياه الأمطار التي تسقط من ثلاث إلى أربع مرات في السنة، حيث يتم تجميعها في أحواض وتستخدم على مدار العام، وبالتالي فهم مجبورين على تقنين استخدام الماء، إلا أن بعض المصادر قد ذكرت أن بئرًا وُجد في قعر الوادي عند خلوة القديس سابا، ومن الجدير بالذكر أنه لا يوجد في تلك الأطراف أي نهر، أو مجرى ماء، أو آبار غير هذا البئر المذكور.

من ممنوعات هذا الدير هو التقاط صور لجثمان القديس سابا، كما يمنع دخول النساء بحسب وصية القديس سابا الذي لم يسمح حتى لوالدته بالدخول، إلا أن الروايات قد حيكت حول دخول النساء للدير بأن ذلك يتسبب في اهتزاز وارتجاج جدران المعبد!، وهناك من يقول إن دخول النساء يمنع قبول صلوات الرهبان.

ومن الأساطير حول الدير أن القديس سابا، قد قدم إليه أسد أليف وقت القداس وعاش معه في إحدى المغر ونشأت علاقة صداقة بينهم! ولا نعلم بطبيعة الحال مدى صدق هذه الأساطير إلا أنها مذكورة في عدد من المصادر. لقد أعطينا نبذة مطولة ربما عن هذا الدير إلا أن زيارة له ستأخذك بالتأكيد لعبق فريد من الزمان الغابر.