شبكة قدس الإخبارية

في بيرزيت: تجاوزٌ للحركة الطلابية أم خوف من المستقبل؟

93
قسام معدي

بعد أكثر من عشرين يومًا على بدء إضراب الطلبة في جامعة بيرزيت وإغلاقهم لحرم الجامعة واعتصامهم داخله، خرج قبل خمس أيام أول صوت استنجاد بأطراف من خارج الجامعة لكسر الصف الطلابي. كان ذلك مقال الدكتور غسان الخطيب الذي نشره على مدونة الجامعة، موجهًا فيه رسالة إلى حركة فتح، بوصفها الحركة الأم للإطار الطلابي الذي يترأس مجلس الطلبة الحالي، حركة الشبيبة الطلابية.

يعرض الدكتور الخطيب ما يراه تناقضًا بين خطاب حركة فتح وأدائها في قيادة بناء دولة القانون والمؤسسات في فلسطين، حسب رأيه، وسلوك ذراعها الطلابي، حركة الشبيبة الطلابية، التي تخرق القانون والأعراف المؤسساتية من خلال ما يسميه الإغلاق القسري للجامعة، معتبرًا ذلك عمل غير مشروع، بل ويذهب إلى وصفه بغير الأخلاقي.

الخطاب كان ملغومًا بأكثر من رسالة خطيرة، ولا تقتصر خطورتها على مجتمع الجامعة فحسب، بل على ثقافة النضال النقابي في فلسطين بشكل عام. أولًا، لأنه يستنجد بحركة فتح، معطيًا هكذا، وبضربة قلم، حركة فتح السلطة والحق للحلول محل الحركة الطلابية، لمجرد أن رئاسة مجلس الطلبة في بيرزيت لهذا العام تشغلها حركة الشبيبة الطلابية. إن في هذا احتقار للحركة الطلابية وللطلبة بشكل عام. فقرار الإضراب لم يأت من حركة فتح حتى يأتي الحل منها. بل أن كل الخطوات النضالية التي انتهجها طلبة بيرزيت حتى الآن جاءت منهم، ومنهم فقط.

الطلبة بكامل وعيهم، وبملئ إرادتهم، وبنضج ومسؤولية مشهود لها، قرروا أن يغلقوا أبواب الجامعة، من أجل تحقيق الضغط اللازم على إدارتها كي تستجيب لمطالبهم، التي لا علاقة لها بحركة فتح أو بأي فصيل آخر. فهي مطالب متعلقة حصرًا بحق الطلبة في الحصول على تعليم عالٍ ديمقراطي للجميع، لا لمن يملك دفع ثمنه بالمال فقط. والحركة الطلابية على تنوعها، هي حركة موحدة، في جامعة بيرزيت على الأقل. فكون رئيس مجلس الطلبة ينتمي لإطار ذات انتماء سياسي واضح، لا يعني بأن فصيله السياسي هو الذي يقود الحركة الطلابية بمعزل عن باقي مكونات المجتمع الطلابي. ربما اعتاد جيل الدكتور  على نمط من القيادة ساد في الحركة الوطنية الفلسطينية خلال عقود، كان يقوم على التفرّد في أخذ القرارات، والتفرّد في فتح المواجهات النضالية، والتفرّد في الحل، الأمر الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى الحالة التي هي فيها اليوم. لكن ذلك هو جيله، وذلك هو زمانه.

مجتمع طلبة بيرزيت هو جيل مختلف، بعقلية مختلفة. التقيت قبل يومين فقط بالطلبة المعتصمين في بيرزيت، وتحدثت إليهم، وكانوا رغم انتمائهم لأطر طلابية مختلفة، خاصة الأطر الثلاث الأكثر تأثيرًا، حركة الشبيبة الطلابية، والكتلة الإسلامية، والقطب الطلابي الديمقراطي التقدمي، كانوا رغم ذلك يتحدثون، ويعملون، ويناقشون، ويقررون ويديرون تفاصيل الحياة في ظل الاعتصام في حرم الجامعة، كجسمٍ واحد. لم يكن أحد يميز نفسه باسم إطاره أو حتى بموقعه داخل الحركة الطلابية. بل كان أول سؤال وجهته لأحد الطلبة هو إن كان المعتصمون من أعضاء مجلس الطلبة، فأجابني على الفور "الكل هنا من الحركة الطلابية".

طالب هندسة حاسوب في السنة الثانية فاجأني عندما سألته عن دور الأحزاب التي تتبع لها الأطر الطلابية فأجابني: "الأحزاب هي امتداد الحركة الطلابية اليوم، لا العكس. فنحن من يقود الشارع فعلًا، لا الأحزاب". لا أستطيع أن أنكر أن هذا الشعور كان حاضرًا في نفسي وفي نفس زملائي عندما كنت طالبًا في بيرزيت، قبل حوالي سبع سنوات، لكنه لم يكن وعيًا ناضجًا بهذا الوضوح، وكانت السنوات السبع الماضية بالنسبة لي ولغيري، هي مسيرة تطور هذا الفهم. لكن طلبة بيرزيت اليوم يرونه بهذا الوضوح من الآن: هم حركة طلابية واحدة ومتنوعة، ليس فيها مترأس المجلس إلا الأول بين متساوين لمدة سنة، والنضال الطلابي يبدأ جماعيًا، وينتهي جماعيًا.

رغم هذا، فإن الحركة الطلابية ليست بمعجزة أو واحة من الفضيلة على الإطلاق. فهؤلاء الطلبة هم أنفسهم الذين يتراشقون بقسوة وشراسة خلال الموسم الانتخابي لمجلس الطلبة كل عام، بل ويتشاجرون أيضًا، أحيانًا بسبب تعليق لافتة دعائية أو إزالتها، وما هي الحياة الجامعية إن لم تشارك خلالها بشجار تافه ولو لمرة واحدة على أي حال؟ لكن وعي الطلبة أكبر وأعمق من ذلك كله. وإن محاولة اللعب على الانتماءات الحزبية للطلبة، ومحاولة ضرب وحدة صفهم، والاستهتار بنضجهم وقدرتهم على الحديث باسم أنفسهم، هو العمل الذي يمكن أن يقال فيه أنه غير أخلاقي. فهو لا يستهدف وحدة الطلبة فقط، بل هو الاستنجاد بنواقص وعيوب الماضي من أجل إعاقة تطور تجربة جيل المستقبل.

إدارة الجامعة أعلنت أنها تريد فتح حوار مع الحركة الطلابية بعد أن تفك الأخيرة إضرابها وتنهي اعتصامها. موقف هو الآخر يمثل استهتارًا بذكاء الطلبة. فأي إضراب ينتهي قبل تحقيق مطالبه، لن يحققها أبدًا، وهذا أحد أساسيات العمل النقابي. لكن الأدهى من ذلك هو أن تعنت الإدارة لا يتناسب بالمطلق مع سقف مطالب الطلبة. فخفض سعر الساعة، وتخفيض عدد الساعات اللازمة للحصول على درجة الشرف التي تعفي الطالب من رسوم الفصل التالي، ليست سوى ترجمة لشعار "تعليم ديمقراطي"، الذي يفترض أن توفره أي جهة تعتبر نفسها دولة أصلًا.

فبناء "دولة القانون والمؤسسات" على حد تعبير الدكتور غسان الخطيب يبدأ بتوفير التعليم المجاني والديمقراطي، وليس بفرض القانون. غير أن الواقع هو العكس تمامًا. فتقصير الحكومة في التزاماتها المالية تجاه الجامعة يولد أزمة تحاول الإدارة حلها على حساب الطلبة. في الوقت نفسه، تتم خصخصة المرافق الجامعية، ويتم تأجير مساحات الجامعة لمهرجانات التسويق للشركات الخاصة، فيما تمنع فيها الأنشطة الوطنية بذريعة منع العسكرة. النتيجة الوحيدة لذلك هو أن تتحول بيرزيت إلى منتجع سياحي نخبوي استهلاكي لمن يستطيع أن يدفع ثمن العيش فيه، ويخلو من أي ثقافة وطنية. لهذا بالذات يضرب الطلبة، ولهذا بالذات يغلقون الجامعة، ولهذا بالذات فإن كل ما قاموا به حتى الآن هو أخلاقي بامتياز، لأن حماية الحق في تعليم ديمقراطي للجميع أهم ألف مرة من حق الدكتور الخطيب دخول حرم الجامعة والدوام في مكتبه.

"أيهما أكثر قدرة على كسر الحركة الطلابية؟ الاحتلال أم إدارة الجامعة؟" سألت الطلبة المعتصمين في جامعة بيرزيت أول أمس، فضحكوا، وأجابوا تقريبًا في الوقت نفسه "الاحتمال الأول صعب جدا، والاحتمال الثاني أصعب". الأولى بالجميع إذن أن يتوقف عن المحاولة. والأولى بالجيل القديم أن يثق بطلبة بيرزيت اليوم، ويتركهم يسطرون تجربتهم. عسى أن يخرج من رحم هذه التجربة جيل جديد من القادة، قادر على إخراج هذا الوطن من بركة الوحل التي رمانا الجيل السابق فيها.