شبكة قدس الإخبارية

المقاومة في غزة تتقن مصارعة الثيران

22
وليد الهودلي

ما بين تبجح دولة الاحتلال بحربه على ثلاث دول عربية ومواجهته لثلاث جيوش مرة واحدة وانتصاره الساحق عليها جميعًا بأسرع وقت ممكن (ستة أيام أو ست ساعات) واحتلاله للضفة الغربية والجولان وصحراء سيناء الشاسعة عام سبعة وستين، وما بين تمنياته لمواجهة فصيل واحد من فصائل المقاومة في غزة ثم رجائه أن تتوقف الحرب ولو باستجابته لشروط هذا الفصيل، وقبوله مكرها بتوازن الردع والرضوخ لقواعد الاشتباك التي كانت قبل هذا العدوان.

هكذا تتآكل صورتهم وتتآكل قدراتهم على الردع وقدراتهم القديمة في قذف الرعب في قلوب أمة العرب بجيوشها ودولها التي تنفق كثيرًا، دون أن ترفع طرفها، أمام هذه الدولة التي كانت في يوم من الأيام مرعبة، وكان جيشها صاحب اليد العليا والطولى في المنطقة!

ولو لم تحقق هذه الجولة الأخيرة إلا هذا لكفى، يكفي لزعامة أمة العرب المنبطحة والمستسلمة والمطبعة، والمتذرعة بأنهم لا قبل لهم بهذه القوة الخارقة حليفة وربيبة المارد الأمريكي الذي يقرر مصائر البلاد والعباد، تكفيهم هذه الصورة التي يصنعها فصيل واحد من الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة لتكشف عورتهم ولتظهر على الملأ خورهم وجبنهم، "على حسن الظن بهم" أو عمالتهم وتبعيتهم وانحيازهم لهذا المارد وتلك الربيبة المدلّلة.

لقد كشف فصيل فلسطيني يمتلك "إرادة القتال" ويمتلك قدرات متواضعة ولكنها بأيدي أناس أمناء محترفون في السياسة كما هم محترفون في القتال، يعرفون الحد الفاصل بين التهور والجبن فيصنعون شجاعة ذكيّة فريدة، دون أن يقعوا في تهور غير محسوب فيدفع الناس ثمنًا باهظًا لهذا التهور، ودون الوقوع في الجبن والتراجع والانحناء أمام العاصفة الهوجاء التي يمتلك ريحها عدوّهم ولكنه يوقع نفسه من حيث لا يحتسب في معادلة تكشف حقيقته وتكشف زيف جبال الوهم التي بناها في نفوس العرب منذ زمن طويل.

ولقد امتلكت المقاومة الفلسطينية بغرفة عملياتها المشتركة قدرة عالية على المناورة وجرّ الثور لنطح الخرقة الحمراء، حيث ينكشف ويصبح مرمى لسهامهم ويتم تسجيل عدة أهداف، دون أن يحدث العكس كما كان سابقا في حالات مشابهة، يتم جرّنا للخرقة الحمراء لنطحها ثم لنتلقى سهامه القاتلة، حيث لعبة الاستعمار التي يجيدها مع الشعوب المستعمرة.

لقد قرّرت غرفة القيادة المشتركة في غزّة أن لا تتيح لهذا الثور أن يفتح حربًا شاملة، ونتنياهو في المعادلة الداخلية كان يتمنى ذلك، أعطوه ما أراد مع ترك الرد الموجع لسرايا القدس، فظهر بصورة مخزية: خائفًا جبانًا من دخول حماس المعركة، وظهرت خشيته بصورة جليّة واضحة، وفي نفس الوقت تتحقق معادلة الردع من قبل فصيل واحد، هذا الذي كان يرعب عدة دول، ويفتح عدة جبهات في وقت واحد يخشى الآن من فتح الحرب مع عدة فصائل، ثم واحد منها يلزمه حدّه ويفرض شروطه في وقف العدوان.

لقد ظهر الثور بغبائه وسار طائعًا لضرب خرقة المقاومة الحمراء وتلقى ما يعيده إلى زريبته بعد أن ظهر بغبائه وجبنه.

كان في السابق هو الذي يجيد استخدام الخرقة الحمراء في مصارعة ثيران، هو يملك ايقاعها وقت ما يريد وكيف ما يريد، نسارع بردّات فعل وعنفوان عاطفي دونما أن يمرّر على معادلات السياسة الدقيقة، فننطح ثم نتلقى ضرباته الموجعة، الآن يحصل العكس تمامًا هو ينطح ثم يتلقى ضربات المقاومة الموجعة، والآن تقيم غزة ومقاومتها مدرسة سياسية محترفة بما تمتلك من وعي سياسي وخبرة واستفادة من خبرات الآخرين والقدرة على توظيفها وفوق ذلك كله التفكير الجماعي المشكل من خالص خبرات الفصائل التي عركتها التجربة بصورة قوية بعيدًا عن الانفعال العاطفي ومع فهم عدوّها ونواياه وطرق تفكيره بدرجات تخصصية عالية .

الآن غزّة هي التي ترفع الخرقة الحمراء وهي القادرة على لجم هذا الثور وتسديد الضربات الموجعة له بالقدر المطلوب والوقت المناسب والايقاع المثمر عسكريًا وسياسيًا، لقد نجحت أيما نجاح باستخدام وسيلة الاستعمار المفضلة وتحويله إلى الثور الهائج وهي بمثابة مصارع الثيران المحترف، لا تمتلك قوته ولكنه تمتلك العقل السياسي والقدرة العالية على استخدام الخرقة الحمراء بعد أن نزعتها من يده، وراحت تستخدمها في وجهه بعد أن صار الثور الذي لا تحركه إلا السياسة العقيمة ونوازع الشرّ والهروب من الأزمات الداخلية.