شبكة قدس الإخبارية

"اليازجي" عاش مطاردة بـ"الصواريخ".. و"أكثر الأماكن أمنًا" لم يحمِ الأشقاء "عبد العال"

644
يحيى اليعقوبي

غزة- قُدس الإخبارية: لو قُدِّر لعقارب الساعة أن تعود للخلف لأعادها أولئك الذين عاشوا حدثًا "مرعبًا"، وهو يتكرّر كلّ يوم في ذاكرتهم لا يستطيعون الهرب منه.. صوت الصواريخ يئن في أذن محمد اليازجي ابن الرابعة والعشرين من عمره، تفترش تلك "الجريمة" التي جعلته يرى المسافة الحقيقة بينه وبين الموت، ذاكرته، لا زال صدى صراخ أصدقائه يتردد في أذنيه، وهم هاربين من حمم صواريخ إسرائيلية انهالت عليهم، لا يفارقه حتى وهو على سرير المشفى.

البداية، شمس صباح جديد يتسلل بين الصواريخ، الدخان الأسود المتصاعد يحجب أشعة القرص الذهبي، كلما انفجر صاروخ على أرض قطاع غزة .. طائرات حربية إسرائيلية تواصل قصفها العنيف على القطاع، عقارب الساعة وصلت في دورانها عند العاشرة صباحًا (الأربعاء، 13 نوفمبر/ تشرين ثاني 2019م)، تثير غبار القلق في قلب الشاب أحمد عبد العال الذي ذهب برفقة أشقائه الثلاثة لتفقد ورشتهم الخاصة بصناعة "النجارة" شرق حي الشجاعية بمدينة غزة.

"الوضع خطير بدنا نروح .. بلاش يصير حاجة"، هكذا يعبر أحمد عن خشيته تلك، فتفاصيل المكان الذي اعتادوا الذهاب إليه كل يوم كانت مختلفة هذه المرة، أجبرت نبضات قلوبهم على الاضطراب، بينما كان يجلس مع جيرانه في العمل محمد اليازجي وأحمد عويضة (23 عامًا) يعملون في جمع حديد "الخردة" والبطاريات.

جلس هؤلاء بحلقة دائرية على كراس بلاستيكية، يخرجون بعض الضحكات بصوت مرتج من القلق، الجميع شعر بالهاجس والخوف ذاته.. يسمعون أصوات صواريخ بعيدة، فاتفقوا على احتساء القهوة ومغادرة المنطقة والعودة لمنازلهم، وإلغاء العمل.

لكن لم يدُر بخلد هؤلاء الشباب أنهم تحت مرمى طائرات إسرائيلية "بدون طيار" تحلق فوقهم، وأنهم سيكونون الهدف القادم لها، وأن هذا الاجتماع لن يتكرر بعد الآن، وأن بعض من فيه سيرحلون للأبد، سيصبحون ذكرى وسيصبح هذا المكان شاهدًا على "مجزرة" جديدة ترتكبها تلك الطائرات التي لم ترحم قلوب الشبان النابضة بالحياة والأمل.

الصاروخ الحربي الأول يسقط، ينفجر بقرب الشاب اليازجي، يتطاير لوح الصفيح الذي يجلسون تحته، زارته عبارة كان قد قرأها: "كل قذيفة تسمع صوتها تأكد أنها لم تقتلك بعد!"، كان الصوت الذي سمعه علامة له أنه لا زال على قيد الحياة، الشبان يتفرقون.

لن تغيب تلك التفاصيل عن ذاكرته اليازجي يعيش المشهد من جديد لكن هذه المرة من على سرير المشفى: "سقطتُ على الأرض، تقلبت يمينًا ويسارًا، رأيت وميضًا كبيرًا .. صوت الصاروخ كان مرعبًا، بعدما انفجر على بعد متر مني فأصابت شظاياه وجهي وعيني وبجانب بطني، حتى غطتني الدماء".

ابتعد أحمد عبد العال وشقيقه إسماعيل وإبراهيم للاحتماء بورشتهم دون وعي من هول المشهد، التقط أنفاسه المرتجفة، كانت ورشتهم أكثر الأماكن أمنًا بالنسبة لهم، أخفتهم عن عيون الطائرات.

"مرت دقيقة .. اسندني صديقي عويضة على كتفه وسرنا لعدة أمتار؛ كنا نركض".

ممدد اليازجي على سرير المشفى، يغطي الشاش الأبيض يديه ورأسه وتلك الثقوب المجروحة في وجهه، وعينه اليمنى التي لم يعد يرى فيها، يتنفس من أنبوب متصل برئته،  يروي حدثًا لا زال يجهل بعض تفاصيله.

نظرات عينه تتألم خلف أنات الوجع، تلك الجروح في وجهه لم تلتئم بالخيوط الطبية بعد، رسمت ملامح وجهه شحوبا وكأن الحياة تجمدت هناك .. عند لحظة القصف، تبخرت الذاكرة من كل شيء وبقيت أصوات الصواريخ تعيد له المشهد ذاته مرة تلو الأخرى.

لهذا الحد كان الجميع سينجو، لكن طائرات الاحتلال أبت إلا أن تطاردهم حيثما ذهبوا، لكن كانت هذه المطاردة بالصواريخ! ألقت الصاروخ الثاني على الورشة التي احتمى بداخلها أحمد وشقيقاه إبراهيم وإسماعيل .. افتعل ضجيجًا وغبارًا كبيرا ارتجت معه الورشة والمكان تبعه الصاروخ الثاني والثالث بعد أن انهالت كالحمم على ورشة النجارة. لم يحدد اليازجي إن كانت الصواريخ من طائرة حربية F16 أو بدون طيار، لكنها أنْسته – وهي تسقط على أصدقائه - ألمه والدماء التي تنزف من جسده، يسأل: "لماذا كل هذه الصواريخ؟".

وكأنّ قائد الطائرة سمع صوت اعتراضه، فأتبعت الطائرة "بدون طيار" بصاروخ حربي أخير، انتهى معها كل شيء ووضع النقطة الأخيرة في هذا المشهد، لكن هذه المرة انفجر عليه وعلى صديقه الذي يسنده محاولا إسعافه.

ألقى الصمت بأوتاده على شفتي محمد اليازجي أسكنها برهة من الزمن يحدق بالموجودين حوله داخل المشفى، لا أحد يجيب سؤاله: "ماذا حل بأبناء عبد العال .. لماذا لم يأتوا لزيارتي؟".

إلى هذه اللحظة لم يعرف ماذا حل بالأشقاء الثلاثة، يحبس الدمع في عينه ممتنعًا عن إظهار ما به من وجع وألم، لكنه لم ينس ما تبقى من المشهد: "سقط الصاروخ الأخير، أصابت شظاياه صديقي أحمد عويضة رأيته يسقط على الأرض، بدون حركة اعتقدت أننا استشهدنا، من هول الصاروخ ارتطمت بجدار حائط خلفي وبقيت على هذه الهيئة، الدماء تسيل من وجهي ومنطقة الرئة لا أستطيع التنفس لم أر بعيني اليمني".

عدة دقائق استمر على هذا الحال، ينظر إلى صديقه المغمى عليه وإلى "الورشة" الساكنة من أي صوت، لولا الألم الذي ينخر جسده والدماء التي تواصل النزيف منه لاعتقد أنه في خيال أو حلم.

صوت محرك سيارة يقترب من المكان، معه يقترب أمل الحياة من قلب محمد، ترجل السائق – وكان جارهم - بسرعة قام بنقلهم إلى سيارته، في هذه اللحظة باغتت أسئلة أخرى تفكيره: "هل سيستهدفون السيارة أيضا؟".

الطريق خالية من المارة، لا أحد هنا، لا زالت تلك الهواجس تسيطر عليه، لكنه سلم أمره إلى القدر، لم يعد يقوى على الحركة، خارت كل قواه، باستثناء تلك الدماء التي واصلت السيلان والنزيف محاولا سدها بيده، إلى أن وصلت السيارة مستشفى الشفاء.

شاب يسير على باب المشفى يضع يده على عينه .. الدماء تغطي وجهه وكل ملابسه ويديه، خلفه صديقه عويضة ممدّد على حمالة المسعفين، مشهد التقطته عدسات الكاميرات، لكن لا أحد علم أن هذين المصابين عاشا تفاصيل "مجزرة حقيقية" وأن الدماء التي تغطيهما، والجروح والشظايا التي ثقبت أجسادهما، وشوهت ملامحهما، شاهدة عليها.

والده الذي يحضر حديثنا، يشير لأحدهم بعلامة الصمت، يقول في خارج القسم بصوت خافت بعد أن مرر صوته في أذني: "كان يريد القول ماذا حل بأبناء عبد العال، فنهيته عن ذلك، لا نريد إخباره حتى لا يتفاقم وضعه الصحي (..) لكن الأطباء سيغلقون عينه اليسرى بعملية جراحية، مع تحويلة طبية عاجلة للسفر للعلاج في الخارج ".

"أولادك انقصفوا"

أيمن عبد العال (والد الأشقاء الثلاثة) يتواجد بالسوق لشراء الطعام لأبنائه كان ينتظر عودتهم من العمل، صوت رنين وارتجاج قادم من هاتفه، على عجل رد على المكالمة، قبل أن يخبره المتصل: "أولادك انقصفوا بالورشة"، بوقت متزامن تلقى ابنه محمود (21 عامًا) اتصالًا آخر يخبره المتصل أن أشقاءه أصيبوا، انفجرت معه نبضات قلبه قلقا: "كيف حدث هذا، قبل ربع ساعة غادرت المكان"، ترك كل شيء ذهب للورشة مع والده ووجد بقع دماء كثيرة تملأ المكان، كانت هي آثار أشقائه.

حتى تفاصيل الحزن والوجع هنا مرهقة، يقول والده بصوت متماسك يخفي بين حروفه حزنًا كبيرًا لم يبح به: "ذهبت للمشفى فوجدت اثنين من أبنائي شهداء".

احتار قلبه أيبقى يواسي نفسه بالشهيدين، أم يذهب لغرف العمليات ليطمئن على ثالثهم فكانت إصابته خطرة، مرت لحظات أخرى دقائق بطيئة على قلب الأب المكلوم بجراح الفقد؛ إلى أن جاء ابنه الثالث محمولًا لكن على "ثلاجات الموتى" شهيدًا أبت روحه إلا أن ترافق أشقاءه، بعد أن ظلت تصارع الموت إلى أن سكتت آخر أنفاسه.

"ما ذنب هؤلاء الأطفال، والشباب الصغار ليتم قصفهم وقتلهم وخطف أرواحهم؟!". سؤال لن يجد له والد الشهداء الثلاثة أي جواب، فالاحتلال تعالى على قوانين حقوق الإنسان، لم يرحم طفلًا ولا شيخًا، لا تفرق تلك الصواريخ بين أخ وصديق، هي تقتل من تسقط عليهم بدون رحمة، فقط تريد إراقة دمائهم وإخراج أرواحهم، حتى تتوقف عن السقوط.

"انتظار .."

دقائق متبقية لوصول عقارب الساعة إلى الخامسة مساءً، على أبواب العناية المركزة بمستشفى الشفاء، والد المصاب أحمد عويضة ينتظر على أحر من الجمر منذ ثماني ساعات حلول موعد السماح له بزيارة نجله، وإطفاء نار القلق التي يضرمها الخوف في قلبه.

"لا أعلم الكثير عن حالته؛ لكن إصابته حرجة فهناك شظايا برأسه وكبده وكسور في قدميه" .. خرجت تلك الكلمات بصوت متوتر وملامح قلقة على وجهه تبرق الدموع في عينيه.
بكلمات مخنوقة وتنهيدات الصبر والتحمل، اكتفى للبوح في غمرة ألمه: "ابني خرج للعمل، وجمع الحديد والألمنيوم وأصيب مع أصدقائه في العمل .. ربنا يلطف فيه".

أم تودع ثلاثة شهداء

كل الذين توجعوا من الفقدان لن تشفي الدموع جروح قلوبهم، لن تعيد لهم من رحلوا، فأي إنسان يرحل لا ينتهي بنظر الذين يحبونه إلا إذا غسلوه بالدموع .. الدموع هي ذرات التراب الأخيرة التي تقول لهم إنه رحل، لكن والدة الشهداء: إسماعيل (16 عاما) و إبراهيم (17 عاما) وشقيقهم أحمد (23 عاما) عبد العال، وقفت حائرة أمام جثث أبنائها الشهداء الممددة أمامها، تنثر الماء من عيونها على أجسادهم، صامتة في مراسم وداعهم دون كلام، فالفراق هنا لسانه الدموع، وحديثه الصمت.

خرج أبناؤها الثلاثة إلى أعمالهم وعادوا إليها محملين على الأكتاف لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليهم قبل مواراتهم الثرى، وزعت قُبلها ودموعها على جثامين أبنائها.

تطل كلمات والدهم من رحم الألم موجوعة مرة أخرى: "هذا احتلال مجرم، أبنائي كانوا في عملهم بورشتنا للنجارة، لقد قتل أطفالي بدم بارد". احتسى الوالد جرعة من صمت، ثم كسر هذا السكوت: "العالم ينظر ولا يحرك ساكنا".

زف ابنه أحمد عبد العال الذي عقد قرآنه قبل ثمانية شهور إلى عروسه بشكل مختلف، لقد أقيمت مراسم وداع له قبل أوانها، حرم من تلك الفرحة التي ينتظرها أي عريس، فكان يرقب مرور الوقت ليعيش حياة زوجية كأي شاب في هذا العالم، سيأتي موعد الفرح بعد ثلاثة شهور لكن لن يكون أحمد موجودًا لأنه لن يعود، "فأحيانا تكون مراسم الفرح أصعب من الحزن ذاته".

"هذا حالنا قتلوه وقتلوا فرحة كان ينتظرها" يقول والده، الذي تأخذه الذاكرة إلى صباح ذات اليوم: "صلينا الفجر معًا، وخرجوا إلى الورشة، حتى أفجعني خبر استشهادهم".

محمود لا يصدق أن أشقاءه رحلوا بلا عودة، لا زال على وقع الصدمة: "لولا أنني شاهدت جثثهم لما صدقت أن أخوتي استشهدوا؛ كنت معهم وبعد مغادرتي لهم بعشرين دقيقة حدث الاستهداف (..) خلال تواجدي معهم تناولنا طعام الإفطار، وكانوا خائفين من الوضع".

رحل هؤلاء الشهداء، وبقيت تفاصيل "المجزرة المرعبة" لتذكرنا بجريمة إسرائيلية استهدفت مجموعة من الشبان أثناء عملهم، شهدوا على تفاصيلها من خرجوا مصابين إلى غرف العناية المركزة.

المصدر: صحيفة فلسطين