شبكة قدس الإخبارية

غارقون في الرماد الأسود

54
حسن رجوب

ليس عبثًا أن معظم من يتوفون في منطقتنا بمرض السرطان، ومعظمهم من الشباب، آخر ثلاثة توفوا مؤخرًا.. "جبران وزياد وشاهر"... ثلاثتهم بالسرطان.

منطقة جنوب غرب الخليل، تتصاعد في أطرافها أعمدة أدخنة مخلفات الخردة ٢٤ ساعة، تعادل أدخنة منطقة صناعية ضخمة في الصين...

يدفع أبناؤها حياتهم لأجل مجموعة من الملوثين للأجواء بحرق مخلفات إلكترونية خطرة ولا يكسبون في المقابل سوى دراهم معدودات.

لا نعلم حارقا أصبح غنيا... بل معظمهم وأبناؤهم غارقون في الرماد الأسود... ولا يكتفون بتهديد حياتهم وحياة العالم حولهم، بل سمعت عن معطيات بوجود نسب عالية من الرصاص السام في أجساد أطفال يسكنون حول المحارق أو أطفال تعمل عائلاتهم في هذه المهنة السوداء.

لا أدري متى تنتهي هذه الظاهرة وإن لاحظنا بالأيام الأخيرة تراجعا لها.. لكنها لم تنته بعد... الشكر لكل الجهات الأمنية والبيئية التي تلاحق هؤلاء العابثين.. ومزيدا من الضرب على أيديهم لأنهم مخربون يقتلون الناس.... لا فرق بينهم وبين من يفتكون بمجتمعنا كتجار المخدرات وغيرهم ...

من أبسط حقوق الناس هواء نقي ... وليس هواء ساما نودع بسببه كل يوم من أرقى وأجمل شبابنا ونفقد طاقاتهم ونحن في أمس الحاجة لها.

زياد لم يكمل حلمه بالحصول على درجة الماجستير... رغم أنه كانت تفصله عن نقاش الرسالة أيام.

وشاهر الذي يحمل بكالوريوس إدارة الأعمال كان مقاولا ناجحا ولم يمض سوى العام ونصف على إنجابه لطفلين توأمين، بعد انتظار استمر لأكثر من عشرة أعوام... لكن حلمه لم يتحقق بأن يراهم شبابا... أو أن يسمع منهم كلمة "بابا"..

ودعنا صديقنا زياد، وصديقنا شاهر بعدما صارع الحياة في مستشفى بالأردن، وطفلين في الصف الخامس يقاسيان صداع أورام الدماغ، وآخرون يقاومون أمراض الكبد والرئتين وكذا يستفحل المرض والموت فينا.

قبل أيام قابلتني باحثة فرنسية عن أزمة الخردة وملوثاتها وتاريخها ودوري الصحفي في توثيقها ومضارها عبر أكثر من عشرة سنوات، وسألتني هل أجرت وزارة الصحة الفلسطينية فحصًا للسكان أو للأطفال للكشف المبكر عن مصابين آخرين بالسرطان أو غيره، صمتت ولم أجد إجابة، وقلت في نفسي: لنا الله، وآلمتني أكثر عندما قالت إنها تركت طفلتها في فرنسا ولم تصطحبها إلى منطقتنا خوفا على حياتها، وتتفرغ للبحث في بيئتنا المستباحة لسماسرة الموت بجوار مدارسنا، وتساءلت في نفسي: لماذا العزاء فينا هين؟!

الرحمة لمن قضوا... والعار لسماسرة الموت والعابثين... وما زلنا ننتظر رحمة الله فقط... لرفع الأذى عن الهواء الذي نتنفسه وأطفالنا.... نسكن أجمل البلاد ونودع أجمل الشباب...