شبكة قدس الإخبارية

التطبيع بين المفهوم ومحاولات التمييع

71596331_1701295426670343_2184603581460512768_n
محمود نواجعه

تشهد الساحة الفلسطينية حالة من الجدل الواسع أحدثته مشاريع التطبيع المتكررة والتي تتصاعد بوتيرة غير مسبوقة، ويتسارع مع ذلك الحديث عن تعريف التطبيع والمعايير التي تحدد طبيعة المشروع إن كان تطبيعياً أم لا.

وقبل الخوض في التعريف والمعايير يجب تبيان طبيعة العلاقات بين المضطهَد وهو في هذه الحالة شعبنا الفلسطيني، وبين المضطهِد وهو نظام الأبارتهايد والاحتلال والاستعمار الإسرائيلي.

إن العلاقات في هذه الحالة تنقسم إلى نوعين، وهما العلاقة الجبرية والعلاقة الطوعية، حيث أنه في الحالة الأولى نكون نحن كفلسطينيين مضطرين لهذه العلاقة ولسنا مخيرين، مثل استخدام موانئ الاحتلال أو تداول عملة الشيكل أو ما يسمى بالتأمين الوطني لأهلنا بالقدس، وهنا لا يوجد بدائل ولا يمكن الاستغناء عن هذه العلاقة حتى الآن، ولا يقع فيها التطبيع، إلا إذا كان استخدام مثل هذه العلاقة يقود للتطبيع، مثل أن يقوم تجار فلسطينيون بورشة عمل للتعرف على عمل الموانئ، حيث خرجت هذه العلاقة من الجبرية إلى العلاقة الطوعية، حيث يتطوع الفلسطينيون للقيام بمثل هذا اللقاء غير الضروري.

أما الحالة الثانية، وهي التي يقع فيها التطبيع، وهي العلاقة الطوعية، وتشمل كل ما ليس جبرياً أو قسرياً، مثل الأنشطة المشتركة التي تتحدث عن السلام والتعايش، والنقاش السياسي أو الاجتماعي، أو الأنشطة الرياضية والأكاديمية والثقافية والفنية، والمشاريع الاقتصادية المشتركة وغيرها.

من جانبٍ آخر، ثمة بعض الحالات التي يمكن أن تتحول إلى حالات جبرية من الحالة الطوعية، فالتدريبات المشتركة بين أجهزة الدفاع المدني الفلسطيني والإسرائيلية هو بالتأكيد طوعي وبالتالي يقع في التطبيع، أما التعاون في حالات الكوارث الطبيعية أو البشرية مثل الزلازل والبراكين أو حدوث وباء، فلا يعتبر تطبيعاً.

إنّ العلاقة بين الشعب المُحتل وقوة الاحتلال لا تختلف عن العلاقة بين العبد والسيد، فإما أن يقوم العبد بمقاومة العبودية ويتخلص من السيد، وإما أن يرضى بالعبودية ويبقي على السيد.

يهدف التطبيع إلى محاولة اختراق وعي الشعب الفلسطيني، واستعمار عقول شبابه، بتغيير مفاهيم التحرر والانعتاق من الظلم والاستبداد إلى مفاهيم التعايش مع الظلم، والعمل على تحسين صورته، وبالتالي هو محاولة لتحسين شروط العبودية بدل التخلص منها، أو الرضى بالواقع ومحاولة تجميله.

حيث جاء تعريف التطبيع، رافضاً لأي علاقة طوعية مع الاحتلال خارج إطار مقاومته وفضح ممارساته، وهكذا جاء تعريف التطبيع الذي تمّ تبنيه من الغالبية الساحقة من المجتمع المدني الفلسطيني في مؤتمر حركة المقاطعة الأول في بيت لحم في العام 2007:

" التطبيع هو المشاركة في أيّ مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصاً للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفراداً كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحةً إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكلّ أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني"

والمقصود بمصمم خصيصاً،بأن هدف النشاط بالأساس هو الجمع بين الفلسطينيين و/أو العرب مع إسرائيليين.

وتستثنى المؤتمرات والمهرجانات والمعارض الدولية التي تقام خارج الوطن العربي ويشارك فيها الفلسطينيون أو العرب والإسرائيليون ضمن وفود دولية أخرى ، وذلك لأنها لم تصمم خصيصاً لذلك، وتصبح تطبيعياً في حال التشارك في ورش عمل أو لقاءات خاصة، تصمم خصيصاً للجمع بين الطرفين حول أي موضوع كان، ويبقى واجب الفلسطينيين والعرب في مثل هذه المؤتمرات العمل على طرد الوفود الإسرائيلية وتجريمه، ومنعه من المشاركة كأي وفد طبيعي.

كما تهدف المشاريع التطبيعة إلى تمييع مقاومة الاستعمار وتطبيع العلاقة معه تحت مسميات مختلفة، ولا تعترف بالحقوق الفلسطينية الأساسية مثل حق العودة، بل تتعدى ذلك لمحاولة نقاش مدى واقعيتها، ومحاولة لإقناع الفلسطينيين بعدم جدوى النضال من أجلها.

بالإضافة إلى أمثلة كثيرة على مشاريع تطبيعية، إن المشاركة في نشاط دولي مدعوم من سفارات أو وزارات الاحتلال أو اللوبي الصهيوني يعتبر تطبيعاً ويجب مقاطعته وعدم الاشتراك فيها، ذلك لأن الهدف ليس فقط رفض التطبيع وإنما عزل الاحتلال ووقف محاولته تبييض جرائمه ضد شعبنا من خلال المحافل الدولية واستخدامه الفلسطينيين والعرب في ذلك.

أما بخصوص المحافل الرياضية، فالموقف أن يقاطع اللاعبون الفلسطينيون والعرب اللاعبين الإسرائيليين لأنهم يمثلون دولة الاحتلال واللعب معهم بغض النظر عن النتيجة يشرعن وجود إسرائيل ك"دولة طبيعية" عالميًا. ويجب الضغط على المحافل الرياضية لطرد إسرائيل منها كما تم طرد الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. وهذا ما يتم النضال من أجله على صعيد الفيفا رغم وضوح انحياز الفيفا الفج لدولة الاحتلال. وشهدنا عدة انسحابات للاعبي دولة عربية وإسلامية مقاطعين بذلك الاحتلال ومن يمثله، وهي مواقف مشرفة تستحق الدعم والاستمرار.

إضافة الى كل ذلك، يبرز كل فترة حالة من الجدل حول الزيارات الى أراضي عام 48 من خلال فيزا تصدرها سفارات الاحتلال، والتي تعتبرها حركة المقاطعة تطبيعاً، بينما لا تعتبر القدوم من خلال تصريح لأراضي 67 كذلك، فما الفرق؟

على الرغم من أن من يوافق على التصريح والفيزا هو الاحتلال بشكل أو بآخر، لكن هناك فرق كبير في طريقة استصدار الوثيقة، فالتصريح يصدر من خلال الشؤون المدنية الفلسطينية، والمتقدم للتصريح لا يقوم بإنشاء علاقة مباشرة مع الاحتلال من خلال سفارتها، فالشؤون المدنية لديها هذه العلاقة التي تقع في العلاقات الجبرية المذكورة سابقاً. ويبقى هذا المعيار جزء من الحفاظ على الحد الأدنى لعدم الوقوع بالتطبيع وعدم السماح للاحتلال باستخدام مثل هذه الزيارات لتخريب نضال شعبنا، وتوفير أوراق توت لجرائمه المستمر بحقنا، ولو كنا نعيش حالة ثورية بسقف أعلى من الوضع الكارثي الحالي العام، لكان رفض كل الزيارات وارداً إلا من تصب في مقاومة الاحتلال بشكل مباشر.

على الرغم من أن تعريف التطبيع يعتبر كافيا بالحد الأدنى لمعرفة طبيعة المشروع إلا أن الحاجة برزت لوضع معايير لتبيان طبيعة المشروع لاختلاف السياقات في أماكن مختلفة ومحاولة البعض الدفاع عن المشاريع المشتركة التي تدعي أنها تخدم الفلسطينيين، مثل المشاريع الاقتصادية المشتركة، أو تبادل الخبرات والتدريبات والتي تدعي الحياد السياسي، أو ما يطلق عليه أنها مشاريع إقتصادية، او اكاديمية او ثقافية بحتة ليس لها علاقة بالسياسة.

في الحالة الفلسطينية والعربية لا يمكن فصل السياسة عن أي منحى من مناحي الحياة، لا سيما أن الاحتلال هو المعيق الأساسي لأي حالة من التطور الإقتصادي أو الأكاديمي وغيره، وإن الاحتلال يستخدم مثل هذه المشاريع للتغطية على جرائمه، وتحسين صورته في العالم، ولأن هناك وجهات بديلة ، بحكم وجود دول متقدمة في العالم يمكن التعاون معها لتطوير القدرات والقيام بالتدريبات المطلوبة.

إن التطبيع ليس جزءاً من حرية الرأي، فحرية التطبيع تشكل خطراً كبيراً على كل نضال الشعب الفلسطيني، وهي انتهاك كبير لإجماع الشعب الفلسطيني على مناهضته كجزء من مقاومة الاحتلال، وبالتالي لا شرعية "لحرية التطبيع" لأن حرية النضال من أجل الحرية والعودة يتبناها الشعب الفلسطيني بغالبيته الساحقة. وكما أن تعريف التطبيع والمعايير المحددة وضع بعد نقاشات وحوارات مجتمعية فتطويره أو تغييره لا يكون إلا بعد نقاشات وحوارات مجتمعية.

فبينما يحاول البعض الخروج بتعريفات جديدة، أو الالتفاف على معايير التطبيع بعدة أشكال أو الزعم بعدم وجود تعريف متفق عليه، من أجل منافع مادية أو شخصية على حساب شعبنا، تبقى مناهضة التطبيع أحد أشكال النضال ضد العبودية، ويبقى شعبنا قادرا على النضال ضد الظلم والقهر وأعوانه.