شبكة قدس الإخبارية

نحن لم نمت بعد

69752943_389829598346232_2195116690738511872_n
ثائر أبو عياش

كانت أمي تجلس وبجانبها مجموعة من النساء كانت تتمتم وترجو من الله الصبر والسلوان على ما خسرته وفي لحظات أخرى تبوح عما يجول في خاطرها من انها كانت خائفة منذ بداية الانتفاضة الثانية من أن يصاب أو يستشهد أحد أبنائها ولم تكن تتوقع أن يكون الطفل الأصغر لديها "مهدي" هو من وقع عليه الاختيار ليصبح الطفل الشهيد قبل أن يكمل عامه السابع عشر، لم تكن تدرك أن حجر النرد جاء الأصغر ليربح طفلها اللعبة الأكبر.

كان أسبوعا لم تهدأ فيه المواجهات في بلدة بيت أمر، ضابط جديد يختبر قوته وارهابه ويدرب جنوده على الاقتحامات والاعتقالات والمواجهات داخل بلدة بيت أمر وقالها بالنص " بديش شباب بيت أمر تيجي على المدخل أنا بطلع عليهم" وبالفعل عند السابعة من كل مساء خلال شهر آذار العام 2009 كانت الآليات العسكرية تتمركز في وسط بلدة بيت أمر وبعد دقائق قليلة تبدأ الاشتباكات بين كر وفر وإصابات واعتقالات واقتحامات للبيوت تصل حتى الساعة الثانية فجراً.

كانت الساعة الثامنة إلا ربع من مساء يوم الأربعاء الموافق 4/3/2009 ولم يكن قد مر على الاشتباكات إلا ساعة واحدة حين وجدت أخي "مهدي" بجانبي يتابع الاحداث بدقة ولم يخطر في ذهني آنذاك إلا أن أقول له عليك العودة إلى البيت ولكن ترددت، ففي حال سألني لماذا؟ أو لماذا لا تعود أنت إلى البيت فإنني لن أعثر على إجابة.

كان الشبان يلقون الحجارة و جاء إلي أحد الأصدقاء وقال لي : " الجيش مسوي كمين تاركين الجبات فاضية وهم في محل ثاني "  وفعلا هذا ما حدث ، عبر كمين محكم بينما كنا واقفين نتابع ما يجري استطاع الاحتلال اعتقال اثنين من الشبان ، بعد اعتقال الشبان و هروب من تبقى وقفنا نسترق النظر على جنود الاحتلال كيف قاموا بسحب الشبان و الاعتداء عليهم ، و في تلك الأثناء بدأ الاحتلال بإطلاق الرصاص بأسلحة كاتمة  للصوت و هناك بجانبي سقط شخص فيما كان يصرخ متألماً منادياً أمه وعندما نظرت إليه رأيت على كنزته عدد  " 1984 "  في تلك اللحظات ادركت انه شقيقي مهدي ، لونها ، الرقم ، طولها ، عرضها ، كل شيءٍ كان يقول مهدي ووقفت عاجزاً عن فعل أي شيءٍ ،  ولا أتذكر حتى الان سوى صورته ملقىً على الأرض مُمَدًّداً يشبه بتلك الجلسة خارطة فلسطين، وحالة صمت يختلط معها الخوف وفجأةً صرخ شاب " سيارة سيارة شهيد شهيد .." !!!!

لحظات وانتشر الخبر،  إصابة الطفل "مهدي أبو عياش" في الرأس ، كان أبي متواجداً في المكان مصادفةً ، وبعد نقل مهدي في إحدى السيارات من قبل الشبان طلب الوالد منهم نقل "مهدي" إلى سيارته بسبب تعرض السيارة الأولى لعطل ما ، و لم يكن أبي يعرف من داخل السيارة و قبل نقله وصلت سيارة الإسعاف إلى المكان وقامت بنقل المصاب و قبل انطلاقها كان أبي يعود إلى سيارته للذهاب إلى البيت وعند باب سيارته أخبره أحد الشبان ان المصاب هو "ثائر"، الصدفة تلك الصدفة هي التي منحت هذا الرجل أكبر كذبة صادقة في حياته !

عبر البلدات المجاورة استطاعت سيارة الإسعاف الوصول إلى مشفى الأهلي في مدينة الخليل ولم تتمكن من الخروج من المدخل الرئيسي للبلدة وذلك بسبب اغلاق الاحتلال للمدخل والتهديد باعتقال المصاب، وكان والدي داخل سيارة الإسعاف محاولاً انقاذ ابنه الذي ينزف بشدة، كان الموقف يجسد تلك الكلمات التي قالها أبي يوم استشهاد ابنه "  ربيته 17 سنة عشان يطخه جندي عنصري حاقد على وطن مش اله"، بعد فحص مهدي في المشفى من قبل الطبيب المختص أبلغ أبي "اذا لم يستشهد من هنا لساعتين فحتماً عند ساعات الصباح الأولى سيكون شهيدا " لحظتها قال له  والدي "  ابني رح يعيش و الله هو اللي  بقرر وقتيش يوخذ امانته !"

بعد وصول مهدي بنصف ساعة استطعت أنا وأشقائي وأمي وبعض الأقارب الوصول إلى المشفى وأتذكر بينما كنا على الطريق اتصل أحدنا على أبي مستفسرا عن حال مهدي و حينها اعتقد أبي أن ابناءه الاثنين تعرضوا للإصابة ليصبح الموقف أكثر تعقيداً وصعوبة، وفي اتصال آخر من قبل شقيقي الأكبر أبلغه أن مهدي هو المصاب و أن ثائر بخير!، كان أبي ما زال معتقدا انني انا هو المصاب لأنه لم يكن يستطيع تمييز الوجه لكثرة الدم الذي يغطيه ولأننا نشبه بعضنا كثيرا ، و لأشد ما يشبه المرء نصفه الآخر.

اليوم التالي للإصابة وصلنا قبل الجميع كان مهدي على سرير غرفة العناية المشددة مُمَدًّداً يلتقط أنفاسه بصعوبة واضحة، سمح لنا الممرض المناوب بالدخول وعندما رأته أمي قبلت قدمه ولم تسأل إلا سؤالا واحدا ما يزال بلا إجابة " شو الي رماك هالرمية يما" !، سؤال ما زال على شاهد نعشه، تعجز كل مبررات العالم عن إجابته.

مكث مهدي بعد هذا اليوم سبعة شهور وسبعة أيام في غيبوبة مستمرة دون حركة دون إشارة، جسدا مُمَدًّداً يعيش بين الموت والحياة، كل يوم، كل دقيقة بل كل ثانية كانت مرعبة ماذا لو كانت هي ثانية الفراق، الموت، الشهادة. كانت تلك اللحظات تمر مثقلةً ولكأن ساعة الزمن تدرك الحقيقة وتخاف البوح بها، أصبح مهدي اليوم والأسبوع والشهر، أصبح الوحدة التي يقاس بها الزمن، وسيصبح قريبا الوحدة التي يقاس بها حجم الوطن، قربه وبعده، وجوده وعدمه، وسيصبح الاداة التي يعرف بها الشمال والجنوب، لقد أصبح بوصلة.  وقريبا أي جدار لا يحمل صورة الشهيد جدار مشبوه، أي صباح لا يبدأ به صباح مشبوه، البدر حتما يشبهه، وأي جملة لا تتحدث عنه لا تتذكره، لا يوجد بين تفاصيلها هي جملة من لغة أخرى أية لغة إلا اللغة الفلسطينية.

وجاء اليوم الذي كنا نخاف مجيئه رغم حتميته جاء دون إنذار مسبق، جاء هذا اليوم ليعيد صياغة العائلة من جديد، هذا اليوم الذي يحمل معه انفجارا مغيرا معالم البيت الى الابد ، يوم يحمل معه مخاوف الأم التي أغرقها خبر استشهاد ابنها في صدمة دائمة تتمثل في اعتقادها أن ابنها ذاك الشبل اليافع المنطلق للحياة الباحث عن الطريق لتحقيق أحلامه سيعود يوما ما ولذلك أطلقت اسم مهدي على حفيدها الأول لربما تعتقد هي بتناسخ الأرواح ، لا أدري إن كان إيمانها هذا ما يدفع الاحتلال الى أن يسوي الأرض بالقتلى مرارا وتكرار كما يوضح الشاعر تميم البرغوثي في قصيدته " نفسي الفداء "

أم أنها لعلمها بما يفعله الاحتلال قاومت بايمانها. كانت الساعة الخامسة والنصف صباحاً من يوم الثاني عشر من شهر أكتوبر عام 2009، قبل هذا اليوم ب 48 ساعة أعدنا مهدي إلى المشفى بعدما مكث في البيت على السرير في غيبوبة مدة عشرة أيام، في اليوم الأول قرر أبي النوم عند شقيقي الشهيد واليوم التالي قرر اخي الكبير النوم عنده وفي ساعات الصباح من يوم الاثنين بعد أن عاد أخي من قيلولة ليلية استمرت ساعتين كان الشهيد مهدي قد حمل معه طفولة فلسطين و رحل، رحل إلى الأبد، هل تعذب ؟، هل صرخ؟ في تلك اللحظات ، لا ندري لكنه قد استشهد! اتصل شقيقي الأكبر ذاك اليوم على شقيق أبي ليعلمه بالأمر ويقول له بهذا النص البسيط ذو المعنى المليء بالحسرة و الحزن ، بكل تلك المشاعر " مهدي استشهد يا عم مش قادر ارن ع ابوي ياريت تحكيله أنت !!" لم تنتهي الحكاية بعد ، جاء عمي وقام بقرع الباب كما قرعت الشمس الغيوم ليقولَ لأبي "مهدي بخير بس اختلفت صحته شوي وبدهم يعملوا اله عملية" ، اتذكر جيداً ماذا فعل أبي قام بالاتصال على شقيقي وسأله السؤال الأصعب ، السؤال الذي يحمل معه ولادة قضية جديدة لطفولة لم تعش بعد " ماله مهدي يابا ؟!" ، على الاتجاه الثاني من الاتصال شقيقي يرد " مهدي استشهد، استشهد مهدي يابا"، حالة صمت وعيون تبحث عن ملجأ و جمود كأن كل شيء توقف عند تلك الكلمات محاولاً فهم أيهما يجب أن يسبق مهدي أم فعل الاستشهاد !! العائلة كل العائلة دخلت البيت كسيل جارف ، عمي أخبر الجميع قبل إخبار أبي ، كان الصراخ والدموع يملأن البيت والجميع يحاول فهم ما يجري ، انتشر الخبر في البلدة كالنار في الهشيم، وصل أحد الأقارب لنذهب معه إلى المشفى كان الجو غريباً و الشعور أشد غرابةً ، لم استطع حتى اليوم قراءة ذلك الشعور الذي يجتاح كل جسدي كلما نظرت إلى السماء أراها صامتةً ترفض البوح ، جامدةً و مرتديةً ثياب الحداد. كانت أمي بين يدي و تصرخ " مهدي ما مات ولا صوت الرصاصة راح يوخذ مني سندي" ، و أبي يحاول إسكات دموعه التي تمردت عليه وتمردت على كل شيء ، تلك الدموع التي قالت لا في وجه كل من حاول إخمادها ، تلك الدموع التي وقفت عاجزة عن دفع الشقاء ولا حتى عن إبحار قارب بداخلها للوصول إلى الطفل مهدي ، ولكنها كانت بريئة كانت فلسطينية كانت كمهدي تطالب فقط بحقها في الوجود. كان جسده يمشي إلى الحرية، جسدٌ يغطيه علم فلسطين وكأن العلم يقول للجميع أنا هنا فوق مهدي مكاني، نعم كان يوم لفلسطين و من فلسطين لن أنساه ولن أنسى تكاتف أهالي البلدة الذين زفوا الشهيد الطفل الذي تقدم ليدافع عنها، كان يوم لا تستطيع أن تحسبه بالدقائق والساعات كان علينا أن نحسب هذا اليوم باستشهاد مهدي بالموقف بالدموع بالهتافات بالحناجر التي كانت تصرخ " يا شهيد ويا مجروح دمك هدر ما بروح"، يوم نتذكر فيه كيف وضعنا جثمان مهدي تحت قنابل الغاز التي اطلقها الاحتلال استفزازا لحق عائلة الشهيد في دفن جثمان طفلهم لتمتد المواجهات معهم حتى ساعات الليل المتأخرة. تسعة سنوات و ما زالت تلك الذكريات تفرض نفسها تعاند غير مهادنة على الرحيل ومع كل شهيد تخرج من مخبئها تبتسم لي وتعود من جديد تجلس باكيةً مثلما بكيت على درج البيت عند رحيل الطفل مهدي، تسعة سنوات وما زلت أتمنى أن أجد الاجابة على السؤال الذي ما زال يطرق رأسي الهش بمطرقته الضخمة ، ذلك السؤال الذي بدأ يوم رحيلك و امتد مع اعتقالي بعد أربعين يوماً من استشهادك، و اعتقالي في سجون الاحتلال بسبب ذلك اليوم ، و ما زال يطرق رأسي حتى يومنا هذا " لماذا كنت تبتسم عندما رأيتك قبل استشهادك بساعات ؟!" . لم يكن مهدي هو الضحية الوحيدة لجرائم الاحتلال فقد أصدرت دائرة إعلام الطفل في وزارة الإعلام الفلسطيني تقرير بمناسبة يوم الطفل الفلسطيني ، يعرض التقرير أنه منذ بداية الانتفاضة الثانية 28/9/2000 وحتى شهر آذار مارس 2018 أستشهد أكثر من 3026 طفلا ، وجرح أكثر من 15000 طفلا ، وما زال في سجون الاحتلال 300 طفلا بحسب تقارير هيئة شؤون الاسرى، وتفيد تقارير هيئة الأسرى بأن 95% من الأطفال الذين يتم اعتقالهم يتعرضون للتعذيب والاعتداء خلال الاعتقال الذي يتم بعد منتصف الليل حيث يقوم الاحتلال بتعصيب العينين وربط أيديهم بشكل مؤلم، بالإضافة إلى انتزاع اعترافات تحت الإكراه والضغط وبدون وجود محامي أو أي أحد من أفراد العائلة. مهدي هو أحد الشواهد الحيَّة على الوجود الغير شرعي على أرض فلسطين، على الجريمة التي ترتكب تحت الانتهاك الواضح للقوانين الدولية وخصوصا اتفاقية الطفل الموقعة عام 1989 التي يضرب الاحتلال بها عرض الحائط ، هذه الاتفاقية التي تنص في المادة 6-1 "تعترف الدول الاطراف بأن لكل طفل حقا أصيلا في الحياة " ، فهي تسلب حق الطفولة و حق الحياة أمام مرأى العالم الذي يقف عاجزاً او متواطئاً مع الاحتلال في ارتكابه المجازر ضد الشعب الفلسطيني. اتسائل كثيرا هل مات مهدي ، هل سيعود حقا كما تعتقد أمي ، استمع كثيرا الى قصيدة نفسي الفداء علّي أفهم شيئا علّي أجيب على اسئلتي الكثيرة ، لقد قام الاحتلال بمحاولة قتلنا بعد مهدي كثيرا ، أخوفا من أن يعود مهدي ؟ لقد داهم الاحتلال المنزل مرات كثيرة كان يمضي الساعات الليلية الطويلة بين تفتيش وتحقيق ميداني و احيانا كان كمن يحاول محاورتنا و فهمنا كمن يريد ان يعرف هل مهدي ما زال حيا ، علاوة على أسري لسنة ونصف وأسر أخي الأكبر لعشرة شهور ، قام بالتضييق على أبي في عمله فلقد صادرو امنه أربعة سيارات غير مرخصة دونا عن غيرها بمساعدة عملائهم، بالمقابل أتسائل اين نحن، هل نجحوا في قتلنا و قتله ، أعطت أمي الاسم لحفيدها وكأنها تبعث الروح القديمة مع الاسم مؤكدة أن أبنها لا يموت ، وها أنا ذا أكتب اليوم لأقول نحن لم نمت بعد.