شبكة قدس الإخبارية

"الحلبي" رجل المشاريع الإنسانية: 124 جلسة تدخله "محاكمة القرن"

67
يحيى موسى

غزة- خاص قدس الإخبارية: 124 جلسة؛ ليس رقما عاديًا أو عابرًا، إنما هي عدد جلسات محاكمة رجل المشاريع الإنسانية، الأسير الفلسطيني محمد الحلبي (41عامًا)، لا يعرف أحد حقيقة ما يعنيه هذا العدد سواه، ففي كل مرة يمر الحلبي كغيره من الأسرى في عربة النقل "البوسطة" أو كما يصفها الأسرى "بقطعة من جهنم" يصل الجلسة بعد مسير يمتد من 6 ساعات إلى ثلاثة أيام، منهكًا متعبًا لا يقوى على الحركة، مكبل القدمين واليدين، فلم يسبق أن تعرض أي أسير لهذا العدد من الجلسات لتصبح قضية الحلبي "محاكمة القرن".

ثلاث سنوات أمضاها "الحلبي" أسيرًا، سكن "البوسطة" أكثر مما مكثه بين قضبان سجن "ريمون"، طريقة تعذيب جديدة يستخدمها الاحتلال لإجباره على بالتهمة "الملفقة" الموجهة إليه "بدعم حركة حماس ماليًا"؛ فكان رده في آخر جلسة محاكمة على القاضي الإسرائيلي: "لن أعترف على شيء لم أفعله .. حتى ولو مخالفة مرورية".

كل شيء مفرح بهذه الحياة سُرق من أطفاله الخمسة، يغيب والدهم بتلك السنوات وتعدم طفولتهم، يغفون على حلم الحرية والإفراج عنه، تتوق أنفسهم إلى إشراق شمسه من جديد بينهم، إلى احتضانه وابتسامته، تمر المناسبات المختلفة عليهم: ذكرى أيام ميلادهم، استلامهم للشهادات؛ فيرون جميع الأطفال بصحبة آبائهم، مشهد يعمق جراح قلوبهم وأحزانهم التي لا يطفئها إلى مشهد آخر بأن يفتح باب المنزل ويرون والدهم أمامهم من جديد لتمتزج فرحة المناسبات بالإفراج.

محمد خليل الحلبي، درس الهندسة المدنية من الجامعة الإسلامية بغزة، وأكمل دراسته العليا "الماجستير" بنفس التخصص، يعمل مديرًا لفرع مؤسسة الرؤيا العالمية في قطاع غزة، ولديه خمسة أبناء (أربعة ذكور وبنت).

في 15 يونيو/ حزيران 2016، خرج الحلبي بحكم عمله إلى الضفة، وهو بالعادة يتردد أسبوعيا بين الضفة وغزة لدواعي العمل، لكن في ذلك اليوم وهو عائد من عمله حجزه الاحتلال عند حاجز "إيرز/ بيت حانون" وبدأت رحلته مع الاعتقال.

في بيت "الحلبي"

على عتبات المنزل كان أطفاله الخمسة بانتظارنا، جلسنا بصحبة جدهم الحاج "خليل الحلبي" في ساحة المنزل المعشبة، ومن حولنا انشغل الأطفال باللهو على "الأرجوحة" التي كان والدهم يلهو معهم بها، "متى سيتحرر أبي.. هل سيعود قريبا؟" سؤال يُرى في أطفاله.

وقال والده في حديثه لـ"قدس"، "قضية ابني أصبحت قضية رأي عام عالمي، حظيت بتضامن كبير من أحرار العالم، كونها أطول محاكمة في تاريخ الحركة الأسيرة، فلم يمر أن عرض أي أسير على 124 جلسة محاكمة، وما يتبعه من النقل بعربة "البوسطة" لإجباره على الاعتراف على شيء لم يفعله".

وأضاف: "لم أزره كي أعطي فرصة لأحفادي لرؤية أبيهم، ففي كل مرة يسمح فقط باثنين من أفراد العائلة بالزيارة (..) ولا أريد التأثر بالموقف، حتى لا تتأثر معنوياته أيضًا، فهذه مشاعر مؤلمة أن يبعد الاحتلال ابنك عنك بدون سبب، لكن بنفس الوقت لدي اطمئنان أن هذه القضية سيأخذ فيها براءة في نهاية الأمر، حتى لو ماطل وخادع الاحتلال".

وتابع بالقول، "كل ما يفعله الاحتلال مع ابني بهدف الضغط عليه حتى يعترف على أي شيء، ليخرج الاحتلال من حالة الإحراج، بعد أن كبر الاحتلال القضية عبر الإعلام، وكان المقصد إغلاق المؤسسات الإنسانية في غزة، لكنهم لم يستطيعوا انتزاع اعتراف منه".

مساومة: "اعترف بأي شيء"

وتعرض الحلبي خلال المحاكمة الأخيرة لمساومة من قبل محكمة الاحتلال، للاعتراف على أي شيء حتى تخرج دولة الاحتلال من حالة الإحراج التي سببتها قضيته، لكنه رفض، فمددت محاكمته لستين يوما على أن تعقد الجلسة رقم 125 له في الثامن من سبتمبر/ أيلول المقبل، وما زال صابرًا صامدًا لأنه بريء من التهم "الملفقة"، بحسب والده.

اثنان وخمسون يوما هي فترة التحقيق التي تعرض لها الحلبي، قال محامي الدفاع عنه: "كاد موكلي من شدة التعذيب أن يعترف أنه قاتل لرابين" فيما قال محامي الدفاع الذي وكل بالقضية لاحقا: "لم يمرّ عليّ مثل هذه القضية منذ 30 عامًا من عملي بالمحاماة" وأن مسؤولين إسرائيليين أبلغوه أن الحلبي بريء لكنهم لا يستطيعون الإفراج عنه بسبب الإحراج الذي تسببت به قضيته للاحتلال"، بهذا استشهد والده على حجم ما يعانيه ابنه من أجل ذلك الاعتراف الوهمي.

وبالعودة لاعتقاله، قال والده: "فوجئنا باعتقاله واستمرار سجنه حتى الآن، لأن عمله إنساني يختص بمساعدة العائلات الفقيرة والصيادين والمزارعين والتي كان معظمها يقدمها برفقة السفير الاسترالي، تحت إشراف ومراقبة من مؤسسته التي فتحت تحقيقًا وراجعت كل السجلات للمشاريع، ومن خلال لجان تدقيق داخلية وخارجية، أثبتت أن كل اتهامات الاحتلال (بتقديم دعم مالي لحماس) باطلة وغير صحيحة وملفقة بهدف اغتيال العمل الإنساني في غزة.

50 جلسة إضافية

بحسب والد الحلبي، هناك 50 جلسة محاكمة إضافة إلى 124 جلسة، ذهب بها ابنه إلى المحكمة بواسطة "البوسطة" ولكنها لم تسجل وكانت تحدث بشكل مفاجئ خاصة في رمضان، "كان تعذيبا من نوع مختلف وجديد"، وفقًا لرواية العائلة.

البوسطة هذه "القطعة من الجحيم" عبارة عن عربة أو حافلة تظهر من الخارج وكأنها عادية، يتعمد الاحتلال تشغيل التبريد بالشتاء ورفع درجة حرارتها صيفًا، يمنع بها الشرب والأكل وقضاء الحاجة، بها كلاب وكاميرات مراقبة، وقبل صعود الأسير إليها يتم تفتيشه عاريا، في رحلة طويلة على مقعد حديدي يهتز معه طوال الطريق.

أما عن نجله "فارس" (4 سنوات) الذي لم يجد إلا صورة والده المعلقة على جدار صالة الاستقبال لتجيبه، فيسألها ببراءة طفولية: "وين بابا ليش طوّل لهلقيت" ثم يتعهد أمام تلك الصورة: "بدي أجيب المفتاح عشان أطلعك".

عمر (10 سنوات) والذي يجلس على الأرجوحة برفقة باقي أخوته الصغار يختصر ما يعيشونه قائلا: "ننتظر خروج أبي من السجن، نفتقده في كل شيء كنا نخرج معه، يكون معنا في أعيادنا ولحظات استلام شهاداتنا المدرسية وكل هذه حرمنا منها اليوم".

ومن أبنائه أيضًا، خليل (15 سنة) وعاصم (13 سنة) وريتال (7 سنوات) كانت آخر زيارة لهم لوالدهم في مايو الماضي، حينها أدرك الطفل فارس – الذي خاف من مشهد الجنود – وهم يدخلوه لوالده أن المفاتيح بيد السجان.

لماذا يستمر اعتقاله؟ لا تخفي زوجته حسرتها على غياب زوجها القسري عنها قائلة لـ "قدس": "أفتقده في كل لحظة وموقف كنت أعتاد أن يقوم هو بفعله، حرمني الاحتلال من زيارته وكذلك أنا لا أستطيع أن أرى نفسي بموقف صعب ومؤلم خلال الزيارة يفرقنا الزجاج العازل، (..) بالنسبة لأسر زوجي غير كثيرًا من حياتي فلا يوجد طعم لأي مناسبة بدونه، وكلي أمل أن نجتمع معه قريبًا".