شبكة قدس الإخبارية

الرؤية اللبنانية للتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين

47b6df8c-ff8a-45e8-8b82-08404eb476d6
محسن صالح

 تُعدّ الوثيقة التي صدرت عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وهي لجنة حكومية تتبع رئاسة الوزراء في لبنان، من أهم الوثائق التي تحاول أن تقدّم مقاربة يمكن أن تجتمع عليها القوى والأحزاب السياسية اللبنانية أو معظمها.

هذه الوثيقة التي صدرت بعنوان “رؤية لبنانية موحّدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان” في يناير/كانون الثاني 2017؛ وكانت حصيلة أكثر من 50 اجتماعاً لمجموعة العمل التي شكّلتها لجنة الحوار، واستمرت لقاءاتها على مدى سنتين تقريباً.

أهمّ ما في هذه الوثيقة أنها جاءت شاملة، وعالجت بشكل موضوعي معظم قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وأن معظم القوى السياسية في لبنان وافقت ووقّعت عليها بما في ذلك تيار المستقبل، والتقدمي الاشتراكي، وحزب الله، وحركة أمل، والإصلاح والتغيير، والقوات اللبنانية. وحتى حزب الكتائب وافق على معظم بنودها، ولكنه لم يوقّعْ عليها.

أي أنها عملياً تُمثّل غالبية ساحقة، ومن كل الطوائف (سنة، شيعة، مسيحيين، دروز…)؛ بحيث يسهل تحويل توصياتها إلى قوانين وقرارات. ولكن وبعد مرور سنتين على إطلاقها، فإنه لم يُتخذ أي إجراء عملي لرفع العديد من جوانب المعاناة التي اعترفت بها الوثيقة، وقدَّمت مقاربات معقولة لعلاجها.

الجدير بالذكر، أنه سبقت هذه الوثيقةَ وثيقةٌ أخرى مهمة صدرت عن منتدى الحوار اللبناني الفلسطيني، الذي يتبع مؤسسة المساحة المشتركة، وشارك فيها ممثلو العديد من الأحزاب اللبنانية الرئيسية، وعدد من الخبراء المتخصصين اللبنانيين والفلسطينيين، واستمرت أعمالها لسنتين، وتمّ إقرارها في 29/10/2013، وهي تقدّم معالجات ومقاربات جيدة لمعاملة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

إن تفاقم أزمة اللاجئين الفلسطينيين واستمرار معاناتهم لسنوات طويلة، مع حرمانهم من حقوق إنسانية ومدنية واجتماعية واقتصادية مشمولة في منظومات ومعاهدات حقوق الإنسان العالمية، مع بطء الإجراءات العلاجية وتعطّلها، حتى تلك المتوافق عليها، هي ظاهرة اتسمت بها حالة اللجوء الفلسطيني في لبنان.

يُحرَم الفلسطينيون في لبنان من حقّ العمل في الكثير من الوظائف والمهن والتخصصات، وتكاد تغلق في وجوههم معظم أبواب الرّزق، بما في ذلك معظم التخصصات الجامعية، وهي معاناة تعود جذورها إلى سنة 1963.

وتمّ اتخاذ إجراءات على مرّ الزمن زادت من تعقيدها ومفاقمتها، خصوصاً سنة 1982 وما بعدها. ثمّ حاولت بعض القوى اللبنانية معالجة الموضوع، غير أن الإجراءات بقيت قليلة ويسهل تعطيلها.

ففي سنة 2005، قام الوزير طراد حمادة بتخفيف بعض شروط العمل على الفلسطينيين، وفي 2010 قرّر مجلس النواب اللبناني السماح للفلسطيني بالعمل، وأعفاه من رسوم إجازة العمل، مع إمكانية أخذ حقوقه المالية عند انتهاء خدمته، لكنه في الوقت نفسه، وبالرغم من استيفائه الرسوم المالية الكاملة للضمان الاجتماعي (23% للأجنبي بما في ذلك الفلسطيني، و7% للبناني)، فإنه استثناه من حقوق العلاج الصحي والأمومة والتعويضات العائلية، كما ظلّ الباب مسدوداً أمامه في المهن التي لها نقابات في لبنان، وهي كثيرة (طب، هندسة، محاماة، محاسبة… وغيرها) التي تشترط عضوية الشخص في النقابة ليمارس مهنته، والتي تشترط بدورها أن تكون جنسيته لبنانية، ومضى على اكتسابها عشر سنوات، وهو ما دعا الفلسطينيين عملياً إلى الزهد في تقديم الطلبات لإجازات العمل وللضمان الاجتماعي، وظلّ معظمهم يعمل بطريقة غير قانونية، إن وجد فرصة للعمل.

المشكلة تفاقمت سنة 2001 عندما أقرّ مجلس النواب اللبناني قانوناً حُرِم بموجبه الفلسطينيون في لبنان من حق التملّك؛ بل ولم يعودوا قادرين على توريث أملاكهم التي سبق لهم استملاكها لورثتهم. وهي مشكلة لما تزل قائمة حتى الآن.

هذه المعاناة أدت إلى نزيف كبير في مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؛ فهاجر الكثيرون وخصوصاً من خريجي الجامعات وأصحاب الكفاءات بحثاً عن الرزق، وتقلّصت أعداد الفلسطينيين في لبنان؛ إذ إن أعداد اللاجئين المسجلين لدى الأونروا في لبنان يصل إلى 550 ألفاً؛ غير أن العدد الحقيقي لا يكاد يصل إلى نصف ذلك (نحو 250 ألفاً).

مع الإشارة إلى أن الإحصاء اللبناني الذي شملهم سنة 2017 قدَّر أعدادهم بنحو 175 ألفاً. وتضاعفت المعاناة مع الإجراءات المشدّدة التي اتّخذتها السلطات تجاه مخيمات اللاجئين بحجة المحافظة على الأمن ومنع البناء غير المرخص، فقيَّدت الدخول والخروج من المخيّمات، ومنعت دخول مواد البناء لها إلا في حدود ضيقة جدّاً.

في الوقت الذي تعاني فيه المخيمات من الاكتظاظ الهائل، وتردي الخدمات، وبؤس البنى التحتية، كما أن حالة البطالة التي تسبّبت بها الإجراءات أدّت إلى تفشي مظاهر الفقر بشكل واسع، وأدّت إلى قيام أطراف مختلفة بمحاولة تجنيد اللاجئين بما يُخلّ بالأمن والاستقرار في البلد. من جهة أخرى، فإن التعامل على الأرض مع اللاجئين ظلّ يحمل جوهراً أمنياً، أو طائفياً.

ثم إن عدم تقنين العمل بالشّكل المناسب، أدّى إلى خسارة الدولة اللبنانية لكثير من مصادر الدخل، بسبب عدم إدماج اللاجئين في منظومة العمل الرسمي بما يكفل حقوقهم الطبيعية، ويستحصل منهم الضرائب والرسوم المناسبة. عالجت وثيقة لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، معظم الاختلالات والإشكاليات المشار إليها.

ووضعت لذلك أربعة معايير: الالتزام بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني، والحرص على المصالح الوطنية العليا للبنان، والالتزام بمنظومة حقوق الإنسان، والتأكيد على قيم السيادة والاستقلال والعيش المشترك، كما قدّمت تعريفاً مناسباً للاجئ الفلسطيني، وتعريفاً مناسباً للتوطين. وهما تعريفان كانا من التعريفات الإشكالية في الوسط اللبناني. فجاء تعريف اللاجئين شاملاً لكل اللاجئين بمن فيهم المسجلين كافة لدى الأونروا من فلسطينيي 1948، والمسجلون لدى وزارة الداخلية والبلديات، وفاقدو الأوراق الثبوتية. كما ربطت فكرة التوطين بفرض حلول سياسية خارجية لتجنيس الفلسطينيين جماعيّاً أو جزئيّاً.

وأكدت الوثيقة على رفض التوطين، الذي يرفضه الفلسطينيون أيضاً، وعلى توفير الحقوق الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، وتمتعهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وعلى تحسين أوضاع المخيمات، وعلى “أنسنة” الإجراءات الأمنية؛ بحيث لا يتمّ التّعامل مع المخيّمات من منظور أمني فقط، وإنما يتعداه إلى المنظور السياسي والحقوقي والخدماتي.

واتّفق الموقعون على الوثيقة على حقّ الفلسطيني في العمل، وفي الضمان الاجتماعي، بما يغطّي تكاليف علاجه وغيرها من خدمات الضمان. واتفقوا على ضرورة عمل مقاربة مناسبة للحق في التملّك، بدون أن يقدّموا تصوّراً كاملاً واضحاً لتفصيلات هذه المقاربة.

وتعاملت الوثيقة بشكل إيجابي مع حقّ اللاجئين في ممارسة حرياتهم السياسية بشكل سلمي، ودعت إلى تسهيل إنشائهم جمعيات في الوسَط الفلسطيني؛ بحيث تعمل على تعزيز الحقوق الفلسطينية.

كما دعمت وجود لجان شعبية في المخيّمات، تأخذ طابعها التمثيلي الرسمي، وتقدّم خدماتها للاجئين. وكان يتم الإشارة في أكثر من موضع إلى أن هذه الحقوق يتم تثبيتها بما لا يتعارض مع مصلحة لبنان العليا، ومواثيق حقوق الإنسان، ومصالح اللاجئين، والقدرات اللبنانية الواقعية. من الواضح أن الأطراف اللبنانية تستشعر مخاطر التوطين، وضرورة التنسيق مع الفلسطينيين لمواجهته، كما تستشعر الخلل في القوانين والإجراءات المتّخذة بحقّهم، وما أدّت إليه من إشكاليات انعكست سلباً على البيئة اللبنانية نفسها سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي جاءت هذه الوثيقة لتقدّم معالجات مناسبة للكثير من القضايا.

من ناحية أخرى، فإن الحالة اللبنانية المثّقلة بهمومها ومشاكلها وتوازناتها الداخلية والتدخلات الخارجية، جعلت قضية اللاجئين في وضع متأخر في سُلّم الأولويات، وفي قوائم الانتظار الطويل للوصول إلى مجلس النواب.

فإذا كان الاتفاق على رئيس الجمهورية أخذ أكثر من سنتين، وإذا كان رئيس الوزراء المكلَّف لم يستطع تشكيل حكومته، حتى بعد نحو تسعة أشهر من الانتخابات، وإذا كانت معالجة مشاكل “جمع القمامة” قد أخذت أشهر عديدة من المفاوضات والمساومات، وهو ما ينطبق على مشاكل توليد الكهرباء، وغيرها.

فإن الناظر لحالة اللاجئين عليه أن يحسب في حسابه أنه يتعامل مع منظومة تتسم بالبطء؛ وبمراعاة الحساسيّات والحسابات السياسية والمادية للطوائف والأحزاب، بالإضافة إلى المؤثرات الإقليمية والدولية. وفي مثل هذه المنظومة، يسهل على أي طرف تعطيل الإجراءات بذرائع مختلفة، في بلد يقوم أساساً على فكرة التوافق، وعلى بناء التحالفات الداخلية التي تضطر فيها بعض الأحزاب، للاستجابة للطلبات أو لمخاوف شركائها وحلفائها السياسيين، ولو بخلاف قناعاتهم الذاتية.

ولذلك تشير التجربة العملية إلى أن العديد من الأحزاب تتحدث بشكل منفرد عن دعمها للاجئين ورفع المعاناة عنهم، لكنها لا تقوم بأية إجراءات فاعلة تحت قبة البرلمان.

الوثيقة أشارت، ضمن معايير التزامها بحقوق الفلسطينيين، إلى أن ذلك يتمّ بناءً على القدرات الواقعية للبلد. وهي جملة صحيحة، غير أن قياس القدرات الواقعية قضية إشكالية؛ إذ قد تلجأ بعض الأطراف إلى التشدد في تفسيرها بطريقة تفرغ الوثيقة من مضمونها.

كما أن الوزراء يمارسون صلاحيات واسعة في وزاراتهم؛ بحيث يستطيعون تعطيل أيِّ من الإجراءات أو خفض سقفها، وفق مواقف أحزابهم، ووفق تفسيراتهم لأي من النصوص “المطّاطة”، أو بالاستفادة من الثغرات في النصوص.

من المهم التأكيد على أن قضية حقوق اللاجئين الفلسطينيين لم تعد قضية يمكن تأجيلها أو وضعها على الرَّف، وأنها حالة باتت من مصلحة الطرفين اللبناني والفلسطيني علاجها؛ وأن حالة المعاناة والاستنزاف الذي يشهده مجتمع اللاجئين تنعكس سلباً على البيئة اللبنانية نفسها.

وفي الوقت نفسه، فإن على الفلسطينيين في لبنان وكل من يدعم حقوقهم، ألا يتوقّفوا عن المبادرة وعن المتابعة والعمل الدؤوب، لدفع قضية اللاجئين إلى مقدّمة الأجندات في الساحة اللبنانية، ويجدر بهم من ناحية ثانية أن يسعوا إلى بناء الثقة مع الأطراف اللبنانية، التي لديها مخاوفها من خلال تقديم الحقائق والمعلومات، التي تزيل هذه المخاوف، وتتجاوز الإرث التاريخي السلبي.

ومن ناحية ثالثة، فيمكن تقديم قضية اللاجئين في ضوء البحث عن المشترك وبما يحقق مصالح جميع الأطراف، ولا بأس من التدرج، ومن ناحية رابعة، في تحقيق ما هو مجمع عليه ويسهل إنفاذه، ثم الانتقال إلى الذي يليه والذي يليه.

كما أن “قوننة” الإجراءات وعمل التشريعات بصورة واضحة لا تحتمل اللبس، هو من ناحية خامسة، أمرٌ مهمٌّ في منع استخدام البعض للغموض أو الثغرات لتعطيل التنفيذ أو تعويقه أو سلاسته.