شبكة قدس الإخبارية

وزير الثقافة يدير ظهرَه لحنظلة!

خالد بركات

يَعتبر "الاتحادُ الدوليّ لناشري الصحف" في باريس الشهيد ناجي العلي واحدًا من أعظم الرسّامين في العالم منذ القرن الثامن عشر.(1) وتُقدّمه صحيفةُ اساهي اليابانيّة باعتباره أحدَ أشهر عشرة رسّامين مؤثِّرين في الرأي العامّ.(2) وتصف الغارديان البريطانيّة رسومَه بأنّها الأقربُ إلى التعبير عن الشارع العربيّ(3).

تلك كانت بضعَ شهاداتٍ عالميّة عن أثر ناجي ودوره الرياديّ العالميّ. أمّا الشهادات العربيّة، فلا حصرَ لها، وإليكم خمسًا منها فقط:

ــــ "جاء ناجي العلي ليعلّمَنا فنَّ الكاريكاتير بعد أن أصبحنا ’أساتذة‘" (صلاح جاهين).(4)

ــــ "إنّ الحدّة التي تتّسم بها خطوطُه، وإنّ قساوةَ اللون الراعبة، وإنّ الانصبابَ في موضوعٍ معيّن، تدلّ على كلِّ ما يجيش في صدره بشكلٍ أكثرَ من كافٍ" (غسّان كنفاني).(5)

ــــ "مَن لم يمتْ بالسيفِ مات بطلقةٍ/ مَن عاش فينا عيشةَ الشرفاء" (أحمد مطر).(6)

ــــ " ليس لناجي العلي شبيه. إنّه علامة فارقة بالإبداع في تاريخ فنّ الكاريكاتور، وفي الصحافة العربيّة. إنّه المقاتل المؤمن بقضيّته حتى الاستشهاد، وبالسلاح الذي لا يمكن كسرُه: الإبداع" (طلال سلمان).(7)

ــــ "ناجي العلي حوّل السخرية إلى سلاح مقاومة" (فيصـل درّاج).(8)

وأمّا شهادةُ الشعب الفلسطينيّ في ناجي فـ"مجروحة،" بمعنى أنّها داميةٌ ملتاعة، مذ أطلق القاتلُ الجبانُ رصاصتَه الآثمة على رأسه في لندن في 22/7/1987. وهي شهادة محفورةٌ بالوجع؛ مرسومةٌ على جدران الذاكرة في غزّة والضفّة، وفي دفاتر المدرسة وحقائبِ الأطفال؛ في أحزمة البؤس، من يافا إلى مخيّمات لبنان والأردن وسوريا وكلّ الوطن العربيّ. وستعثر على هذه الشهادة في السجون والمعتقلات الصهيونيّة أيضًا.

ستجد شهادةَ كلّ هؤلاء عن ناجي. لكنّك لن تجد لها أثرًا في مكاتب السلطة، ولا في دوائر منظّمة التحرير الفلسطينيّة. وهذا هو الأمر الطبيعيّ والمنطقيّ جدًّا.

فعلى الرغم من أنّ وزير الثقافة في السلطة الفلسطينيّة، د. إيهاب بسيسو، نطق بعباراتٍ "إيجابيّة" في حقّ شهيدنا الكبير قبل سنتين،(9) فإنّ وزارته تواصل ــــ عمليًّا ــــ تجاهلَها إيّاه، شأنَ تجاهلها عددًا آخرَ من الأسماء الفلسطينيّة الكبيرة الراحلة، وتدير ظهرَها لرموز الثقافة الوطنيّة.

والأسئلة التي ينبغي أن تُطرحَ هنا هي الآتية: ألا يُفترض أن تكون فلسطينُ سبّاقةً إلى الاحتفاء بفنّانٍ من أبنائها، ثائرٍ ومبدع، ترك 40 ألفَ لوحة، وشغل العالمَ برسومٍ شكّلتْ صفعاتٍ متتاليةً على وجه العدوّ وقوى الاستغلال وكلِّ مَن ساوم على حقوقنا وكرامتنا الوطنيّة؟

وإذا كانت كلماتُ الوزير بسيسو لم تنمّ، حينها، عن أيّ عداءٍ لناجي العلي، فما سببُ عدم قيام وزارته بأيّ تكريم لهذا الفنّان الفذّ؟

ألا يستحقّ أن تطلِقَ "دولةُ فلسطين" اسمَه على أحد شوارع الضفّة مثلًا؟ أو أن تسمّي باسمه مدرسةً ابتدائيّة، أو قاعةَ محاضرات في جامعة، أو كليّةً للفنون؟

أما زالت قيادةُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة تعتبره عدوًّا لها بعد اغتياله في لندن قبل 31 سنةً؟ أتراها، مرارًا وتكرارًا، تسعى إلى "اغتياله" معنويًّا، بالنسيان والتناسي؟

قبل سنتين، كتب الوزير بسيسو أنّ أعمال ناجي "شكّلتْ ركنًا هامًّا من أركان هويّتنا الوطنيّة، ومساحةً مميّزةً للإبداع، ومصدرًا ملهِمًا لجيلٍ جديدٍ من فنّاني الكاريكاتور الفلسطينيّ والعربيّ."(10) ألا تستحقّ هذه العباراتُ ترجمةً تكريميّةً على الأرض كي لا تبقى عامّةً ضبابيّةً تُطلَقُ من باب "رفع العتب"؟

مرّةً أخرى، لماذا لا يُكرَّم ناجي العلي؟

إنّ الصراع بين معسكر ناجي العلي، المثقفِ الثوريّ العربيّ الذي لا يساوِم على حقوق شعبه، وبين معسكرِ مثقفٍ سلطويٍّ معبِّرٍ عن سياسة اليمين الراكع أمام العدوّ، إنّما هو صراعٌ قديمٌ، وسيستمرّ أجيالًا قادمة. إنّه صراعٌ محمومٌ بين مَن جاء إلى الفنّ من بوّابة الانسان المعذَّب في المخيّمات والمنافي، ومَن جاء إلى مناصب الثقافة الرسميّة من باب التسوية والواسطة وبطاقات "الشخصيّات المهمّة"؛ بين مَن جاء من باب الثورة والعلاقة بالجماهير وهمومها، ومَن جاء من باب الثروة والعلاقة بالسلطة اللاشرعيّة.

كان ناجي العلي يعيش في فرن الثورة اليوميّ: يتابع همومَ شعبه وأمّته في كلّ مكان، وينتمي إلى الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من دون بطاقةِ عضويّة، ويُهلك نفسَه وهو يحترق أمام أسئلتها الكثيرة. ظلّ يبحث ويقاتل عن وطنٍ حرّ وشعبٍ سعيد، فيشهر ريشتَه الحادّة كالسكّين في وجه الفساد الذي ظل يتكاثر في المؤسّسة الفلسطينية، ويعلن موقفَه امام كلّ طاغيةٍ ونظامٍ وزعيمٍ تطاول على قضيّة شعبه. أما الوزير بسيسو فينتمي إلى سلطة فلسطينيّة هجينة، أدمنت التزييفَ والمراسيمَ الكاذبة ولغةَ التعمية واجترارَ الكلمات الكثيرة التي لا تقول أيّ شيء.

ومن جديدٍ نسأل الوزير بسيسو:

لماذا تتجاهلون ذكرى استشهاد كنفاني والعلي بشكل خاصّ؟

وجوابُنا الذي لا نرى جوابًا غيرَه: لأنّ ناجي وغسان وأمثالَهما ناطقون رسميّون باسم وجع المخيمات، وممثّلون شرعيّون لأحلام شعبنا المهجَّر. ناجي وغسان وأمثالُهما ليسوا ناطقين رسميين باسم سلطةٍ استسلمتْ للأعداء، فاحتضنتها البنوكُ والدولُ المانحة وهالةُ الأمير الإنجليزيّ الأشقر!

المصدر: مجلة الآدب

**

هوامش:

(1) منحه الاتحادُ المذكور جائزةَ " قلم الحريّة الذهبيّ،" وسُلّمت الجائزة في إيطاليا إلى زوجته وابنه خالد. وناجي كان أوّلَ صحافيّ ورسّام عربي ينال هذه الجائزة. انظرْ مقال محمود كلّم، "ناجي العلي لو غاب او تغيّبَ،" موقع الحوار المتمدّن، 29/8/2014.

(2)  سماح الشيخ، "ناجي العلي رواياتٌ تشبه الصدف،" صحيفة البيان (الإمارت)، 9/1/2006.

(3)"The nearest thing there is to an Arab public opinion,” in: Haifaa Khalafallah, “Third World Review: This pen is mightier... Profile of Naji al-Ali, Arab cartoonist,” The Guardian, September 21, 1984.

(4)  منى عوض، "ناجي العلي ضمير الثورة وصاحب ريشة العظم البشريّ،" إضاءات، 29/8/2017.

(5) شاكر النابلسي، "غسّان كنفاني وناجي العلي: الهرم والخيمة،" صحيفة القدس العربي. هكذا قدّم كنفاني رسومَ ناجي لأوّل مرة في صحيفة الحرّيّة، الناطقة باسم حركة القوميين العرب، 1/10/2016

(6) أحمد مطر، "ما أصعب الكلام" (قصيدة مهداة إلى ناجي العلي). وقد ربطت الشاعرَ بالفنّان صداقةٌ وثيقةٌ استمرّت حتى استشهاد ناجي. قصائد أحمد مطر على موقع :

http://www.adab.com

(7 ) طلال سلمان، "ناجي العلي: الاسم الحركيّ لفلسطين في الإبداع،" السفير، 4/1/2017.

(8) فيصل درّاج، ندوة في عمان، تقرير توفيق عابد،https://bit.ly/2OqXVeV

(9) أنظر موقع وزارة الثقافة الفلسطينيّة، 29 أغسطس 2016:

http://www.moc.pna.ps

(10) المصدر السابق.