شبكة قدس الإخبارية

"إسرائيل" تتّهم طاطور: منظومة الرد التلقائي

رازي نابلسي

"إسرائيل" تقتل، تقمع، تأسر، تتهِم وتُحاكِم... هذه ادّعاءات وتصريحات نسمعها كُل يوم في الإعلام، وفي البيوت، ومن على المنابر ومن فوّهات أبواق الساسة. إذًا، ما الجديد في اتهام الشاعرة دارين طاطور، ابنة الرينة، بـ"التحريض على الإرهاب" و"دعم جماعات إرهابية عبر الفيسبوك"؟ في الحقيقة لا جديد من قبل "إسرائيل". وما الجديد في ردّنا، أو بصورة أدق، في رد النخب السياسيّة على اتهام دارين؟ ما الجديد الذي خرج هذه المرّة من فوّهات أبواق الساسة غير ما نسمعه يوميًا عن "إسرائيل"؟ أيضًا لا جديد.

وهنا تحديدًا تسكن الأزمة في أفضل صورها: "إسرائيل" تمارس حقيقتها بصورة مستمرّة ومتتاليّة وثابتة ومنهجيّة؛ ونحن، بنخبنا السياسيّة، بتنا أيضًا نمارس ذاتنا بصورة مستمرّة ومتتالية وثابتة وتلقائيّة. وبيننا، وبينها، أي (إسرائيل)، فرق واحد ولكنّه شاسع: المنهجيّة.

"إسرائيل" تمارس ذاتها بطريقة منهجيّة واضحة تهدف إلى ضرب الوجود الفلسطينيّ رمزيًا وماديًا، ونحن نمارس ذاتنا بطريقة تلقائية تكراريّة دون مشروع أو منهجيّة أو حتّى فحص لمدى تأثير ممارستنا لذاتنا على إسرائيل، أو على ذاتنا. هنا تسكن الأزمة: "إسرائيل" تقتل وتعتقل وتأسر وتقمع على طريق تفتيتنا، ونحن نستنكر ونكشف ونشجب ونفسّر ونحلّل كيف تكشف "إسرائيل" عن وجهها الحقيقيّ على طريق... لا أدري في الحقيقة إن كان هناك طريق، وأعتقد أنه لا يوجد.

لنفكّك تهم الشاعرة دارين طاطور: التحريض على العنف أولًا، وهو ما يعني التعبئة على مقاومة المُحتل؛ ودعم منظّمات إرهابية عبر الفيسبوك ثانيًا، وهو ما يعنيّ التضامن مع الفصائل الفلسطينيّة التي تمارس حقها في مقاومة المحتل. كيف يمكن لهذه أن تكون التهم الموجهة إلى شاعرة فلسطينيّة، وأن يكون الرد عليها: العدالة الإسرائيليّة، كشف الوجه الحقيقيّ لإسرائيل... إلخ من الردود التلقائيّة المحفوظة على البريد الإلكترونيّ منذ عشرات السنين.

وبالأمس، قامت النيابة العامة الإسرائيلية، بإغلاق ملف إعدام الشهيد المعلّم يعقوب أبو القيعان. وماذا كانت الردود السياسيّة؟ ذات الردود التي تُستخدم في إغلاق ملف قضائيّ وفي إعدام وفي اتّهام وفي عمليّة أسر وملاحقة سياسيّة... وكأنّنا نعيش على كشف وجه إسرائيل الحقيقيّ، وكأنه البرنامج السياسيّ للأحزاب الفلسطينيّة في الداخل والهدف الاستراتيجيّ المعمول عليه. وبصورة أدق: وكأن النخب السياسيّة تخرج هذه التصريحات بصورة تلقائيّة عفوية دون أي قدرة على التأثير فعلًا، حتّى باتت البيانات السياسيّة كالتحليلات الصحافيّة، لا تختلف عنها، وكأن أصحاب البيانات محلّلون سياسيون وليسوا أصحاب مسؤوليات وقرار وقدرة على التأثير. وكأنّه ليس من واجبهم وضع خطّة تُعالج أو تحاول أن تُعالج، الخطر التصفويّ اليوميّ الذي يعيشه الفلسطينيّون في الداخل.

لنتحدّث قليلًا عن المواطنة:

بين السعي لأن تكون مواطنا، وبين كونك مواطن يوجد فرق جوهريّ ومساحات شاسعة. أن تسعى لأن تكون مواطن، فهذا يعني أولًا وقبل كل شيء أنّك غير مواطن، والمواطنة لا يمكن أن تكون نسبيّة فإمّا أن تكون مواطنًا أو لا تكون مواطنًا. وهذا هو الظرف الذي يعيشه الفلسطينيّون بالداخل، في حدود سيادة دولة تشتق فيها المواطنة من الدين اليهوديّ وليس من جواز السفر أو الجنسيّة القانونيّة. وعلى هذا يتّفق كل من الهيئة التشريعيّة والقضائية والسلطة التنفيذيّة. وهو ما يعنيّ أن إسرائيل تُجمع بمؤسساتها ودولتها وإطارها الأيديولوجيّ وتكوينها ومجتمعها أن الفلسطينيين في الداخل ليسوا مواطنين، لأنهم ليسوا يهودًا. وطالما أنّك غير يهوديّ، فلا يهم ما تقوم به، وستبقى في إطار غير المواطن. والفرق الوحيد بينك وبين الفلسطينيّ هو حقّك في السعيّ لأجل المواطنة من خلال الدولة ذاتها التي سلبتك المواطنة. وبالمناسبة، هو غير منقوص نسبة إلى المواطن اليهوديّ فقط، وإنما هو فائض نسبة إلى الفلسطيني في القدس الذي يعيش في حالة إقامة قانونيًا، وهو يعدّ فائض إضافيّ نسبة إلى الضفّة حيث لا توجد قيمة قانونيّة كليًا، وهو أيضًا فائض إضافيّ نسبة إلى الغزيّ الذي يعيش في حصار كلّي على مساحة محدّدة من الأرض، وهو فائض أيضًا بالنسبة إلى اللاجئ الذي تم إلغاء وجوده كليًا من أرض فلسطين. هذه هي المواطنة الإسرائيليّة: نسبيّة في كلا الاتّجاهين. وفي اللحظة التي تتوقّف عن السعيّ للمساواة مع اليهوديّ، وتسعى للمساواة مع الفلسطينيّ عبر قصيدة أو قصّة أو مظاهرة أو إطار نضاليّ، تفقد امتيازك بالحق في المطالبة بالمساواة مع اليهوديّ فتُسجن وتُقمع وتُقتل وتُنفى.

أن تُناضل على أنّك مواطن، وأنت في الحقيقة لا تزال في مرحلة المطالبة بالمواطنة، فهذا درب من دروب الهلاك: الأدوات مختلفة؛ المكان مختلف؛ المنبر مختلف وحتّى التصريح السياسيّ عليه أن يكون مختلفًا وصولًا إلى الهيئات والتحالفات وتعريف الذات والآخر والعلاقة معه. أمّا ما يحصل فعليًا في الداخل الفلسطيني، فهم يُناضلون من خلال إطار المواطنة، للسعيّ إلى المواطنة. ومن هنا تبدأ باشتقاق ظواهر وتجليّات الأزمة: المبارحة في ذات المكان دون حراك أو تحرّك؛ تراجع في الفعل السياسيّ نابع من فشل في التأثير على مجريات السياسة؛ تأتأة في كل مرّة جديدة على قناة إسرائيلية جديدة؛ تراجع الجدوى من الفعل السياسيّ حتّى التحوّل إلى هيئات تنسيقيّة... وصولًا إلى أزمة هويّة تولّد عنف وتفتّت وتشتّت. وفي الختام: البدء في إصدار بيانات تُعيد طباعة ذاتها، وتوزيع ذاتها وكأنها مجرّد رسائل تلقائية من "غوغل" أو "فيسبوك" تنشر في كُل المناسبات وكُل الأعياد وتذهب إلى خانة "SPAM" وهي الخانة التي لا معنى للموجود فيها. ليس لكونها فارغة، بل لأنّها لا تقدّم ولا تؤخّر... وهي مطلوبة ولكن من كثرة غير السياسيين الذين يتوجّب عليهم أن يقدّموا ويؤخروا ويبارحوا مكانهم وقت الحاجة... طبعًا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع لا يبقى ساكنًا، فإسرائيل لا تُبقي ساكنًا أي شيء في فلسطين حتّى الحجر تشوّهه فتغيّر معالمه.

لنعد إلى دارين:

سميح القاسم سُجن ولوحق، ومحمود درويش كذلك الأمر، وراشد حسين اغتيل وغسّان كنفانيّ اغتيل والشعر اكتسب في فلسطين صيغة "شعر المقاومة". ليس جديدًا على إسرائيل، مرّة أخرى، أن تعتقل شاعرة. وستبقى إسرائيل كما هي ما لم تقم بالاعتراف بالغبن التاريخيّ والنكبة وتجري مصالحة تاريخيّة جامعة مع الفلسطينيّ، وهذا ما تقوم به نماذج الاستعمار الاستيطانيّ المشابهة لإسرائيل عادة، بعد استكمال عمليّة الإبادة الجماعية، فدعونا نتمنّى عدم الوصول إلى هناك. قضيّة دارين ليست اتّهام شاعرة، بالقدر الذي فيه هي قضيّة كيف نتعامل مع اعتقال الشاعرة والتهم الموجّهة إليها: هل من حقنا الطبيعيّ والفطريّ أن نعبّر شعرًا ونثرًا وخطابًا عن كوننا امتداد سياسيّ وثقافيّ وتاريخي للشعب الفلسطينيّ؟ هذا هو السؤال الذي يتوجّب على القيادات السياسيّة ليس الإجابة عليه فقط، بل التصرّف بناء عليه أيضًا. هل من حقنا الفطريّ والطبيعيّ أن نكون جزءًا من نضال شعبنا السياسيّ ضد الاحتلال بكافة أشكاله؟ هذا أيضًا هو السؤال الذي لا نطلب الإجابة عليه، بل نطلب ممارسته. هذه باختصار شديد هي التهم الموجهة بحق الشاعرة طاطور، وهذه هي التهم الذي يتوجّب على النخب السياسيّة الرد عليها ليس بكشف وجه إسرائيل مرّة أخرى، بل بالتأكيد على أحقّية الفلسطينيّ في الداخل، المشتقة من تاريخه وثقافته في أن يكون ذاته.

لقد اتكأت السياسة الفلسطينيّة في الداخل ليس على المواطنة، بل على السعيّ للمواطنة دون تحقيقها: دون التنازل عن السعيّ كإطار نظريّ، ودون الوصول إلى المواطنة ذاتها بفعل جوهر إسرائيل. وهو البقاء في حالة من البينيّة السياسيّة. والبينيّة السياسيّة ليست كارثة، الكارثة في العمل ليلًا ونهارًا للحفاظ على البينيّة وعدم التقدّم خطوة إلى الأمام تفقدنا القدرة على أن نكون فلسطينيّين في رام الله وإسرائيليّين في تل أبيب. هذا لا يمكن أن يستمر، فاستمراره يعني أن تختار دارين أن تكون فلسطينيّة، وأن تختار النخب السياسيّة أن فلسطينيّة دارين هي كشف لوجه إسرائيل الحقيقيّ. وفي الختام: إسرائيل تتّهم طاطور، ونحن نتّهم إسرائيل، ومن يملك السلطة ينفّذ اتّهامه..